< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

42/09/13

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: تفسير الموضوعي / تفسير آيات المصدرة ب"يا ايا الذين آمنوا /تفسير آية273 الي 274سورة البقرة

قد انتهينا في الليالي الماضية من البحث حول ستة من آيات المقطع التاسع المصدرة ﴿بيا ايها الذين آمنوا﴾، من سورة البقرة والآن ندخل في البحث عن بقية آيات هذا المقطع وهي قوله تعالى:

﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[1]

قال في المجمع في شأن نزول الآية: (قال أبو جعفر (ع) نزلت الآية في أصحاب الصفة). [2]

وقال في الامثل في تعريف اصحاب الصفة مستفيدا من عدة تفاسير: (هم جمع نحو أربعمائة شخص من مسلمي مكّة و أطراف المدينة ممّن لم يكن لهم مأوى يأوون إليه في المدينة، و لا قريب يؤويهم في منزله، فاتّخذوا من مسجد النبيّ منزلا معلنين استعدادهم للذهاب إلى ميادين الجهاد دائما، و لكن بما أنّ بقاءهم في المسجد لم يكن ينسجم مع شؤونه فقد أمروا بالانتقال إلى «صفّة» دكّة عريضة كانت خارج المسجد. و نزلت الآية تحثّ المسلمين أن يغدقوا مساعداتهم على إخوتهم هؤلاء فأعانوهم‌ ) [3]

اطلالة الى بعض مفردات الآية: قال الراغب في مفرداته،: (الحصر و الإحصار المنع من طريق البيت، فالإحصار يقال: في المنع الظاهر كالعدو، و المنع الباطن كالمرض، و الحصر لا يقال، إلا في المنع الباطن، فقوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فمحمول على الأمرين و كذلك قوله: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، و قوله عز و جل: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، أي ضاقت بالبخل و الجبن)، و التعفف التلبس بالعفة، و السيماء العلامة، و الإلحاف هو الإلحاح في السؤال.

 

الآية المبحوث عنها وردت تكملة لما ورد في الآية السابقة يعني ﴿وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ...﴾ و ﴿للفقراء الذين احصروا في سبيل الله﴾ وما ورد من شأن النزول انما هو مصداق لهذه الآية كما ان في عموم الآيات ما يرد في شأن نزولها لا يحصر المعنى فيه الا ما ورد في بعض القضايا خارجية، ومع ذلك يمكن الإستلهام منها للموارد المشابهة له بعنوان تنقيح المناط.

هذه الآية تعرض لنا الارجح للمنفَق عليه:

الصدقة مستحسن لكل فقير ولكن هناك مرجحات لابد ان لا نغفل عنها وفي هذه الآية تبين بعض المرجحات الهامة لمورد اعطاء الصدقة من الفقراء:

فقال: ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ﴾ اي الذي منعهم عن كسب المال وقفُ اوقاتهم لسبيل الله كالتفرغ للجهاد وما يتعلق به من التعلم والتدريب وتهيئة مؤنات الحرب او الرباط في الحدود الاسلامي و كطلاب العلم الديني الذين يشتغلون بتحصيل علوم يحتاج الناس اليها لامر دينهم ودنياهم على الموازين الشرعية، فلا يجدون مجالا للاكتساب من خلال التجارة او الصناعة او الزراعة وما شابه ذلك مما يؤمِّن حاجاتهم، وغيرها من ضرورات المجتمع او الافراد. ثم قال: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ﴾ والضرب في الارض كناية عن التجارة او السفر إلى القرى و المدن الاخرى للبحث عن موارد العمل الاقتصادي لكسب المعاش. من هذه الفقرة من الآية نستفيد ان هؤلاء المتسولين الذي يستطيعون الاكتساب والعمل الاقتصادي لا يستحقون الانفاق عليهم.

ثم اضاف: ﴿الذين يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ هؤلاء الذين عندهم نفوس آبية وكريمة يخفون فقرهم عن الآخرين بحيث من لم يعرف منهم شيئا يزعمهم اغنياء، لانهم يراقبون ظاهرهم

ثم قال: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ﴾. فهنا عدول عن خطاب المؤمنين الى خطاب رسول الله وحده، تعرفهم من وجناتهم عند التفرس في وجوههم لان الجائع المحروم من الاغذية المناسبة يظهر الجوع في وجهه و سيماه ولا يعرف ذلك الا من تفرّس في وجهه كبعض الامراض التي لها مظاهر في الوجه والشمائل. فمثل هؤلاء المحتاجين المتعففين اولى من غيرهم

ثم قال: ﴿لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً﴾ اي ليس من شأنهم التسول والتكدي و لعل قيد الإلحاف الذي هو بمعنى الالحاح لانّ بعض المحترمين اذا اشتدّت بهم الحاجة قد يستنجدون من بعض اخوانهم المؤمنين من دون الحاح وهذا امر جائر لا ضير عليه.

كذلك من ليس له مدخل يعتاش به ولكنه اهل للالحاف والاصرار فيحصل ما يحتاج اليه بسهوله ولعله اكثر من حاجته فهو ايضا ليس الانفاق عليه من الاولويات.

ثم قال في مختتم الآية: ﴿وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ ولعل الله اكد على علم الله بانفاقاتنا تطمينا لنا بان ما ننفق في سبيل لله لا يذهب ادراج الرياح بل ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره﴾

في هذه الآية حثّ على الإنفاق، و على الأخصّ الإنفاق على ذوي النفوس العزيزة الأبية، لأنّ المنفقين إذا علموا أنّ اللّه عالم بما ينفقون حتّى و إن كان سرّا و أنّه سوف يثيبهم على ذلك، فستزداد رغبتهم في هذا العمل الكبير.

وهنا نذكر بعض الروايات حول من يستحق الانفاق: عَنْ مَالِكِ بْنِ حُصَيْنٍ السَّلُولِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْأَلُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَيَمُوتُ حَتَّى يُحْوِجَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا وَ يَكْتُبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا النَّارَ[4]

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ع ضَمِنْتُ عَلَى رَبِّي أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ- إِلَّا اضْطَرَّتْهُ الْمَسْأَلَةُ يَوْماً إِلَى أَنْ يَسْأَلَ مِنْ حَاجَةٍ.[5]

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع اتَّبِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ص فَإِنَّهُ قَالَ- مَنْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ.[6]

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَ عِنْدَهُ قُوتُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ- لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِهِ لَحْمٌ.[7]

عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ رَفَعَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ يَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا- وَ يَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا- وَ يَدُ الْمُعْطَى أَسْفَلُ الْأَيْدِي- فَاسْتَعِفُّوا عَنِ السُّؤَالِ مَا اسْتَطَعْتُمْ- إِنَّ الْأَرْزَاقَ دُونَهَا حُجُبٌ- فَمَنْ شَاءَ قَنِيَ حَيَاءَهُ وَ أَخَذَ رِزْقَهُ- وَ مَنْ شَاءَ هَتَكَ الْحِجَابَ وَ أَخَذَ رِزْقَهُ- وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا- ثُمَّ يَدْخُلَ عَرْضَ هَذَا الْوَادِي فَيَحْتَطِبَ- حَتَّى لَا يَلْتَقِيَ طَرَفَاهُ- ثُمَّ يَدْخُلَ بِهِ السُّوقَ فَيَبِيعَهُ بِمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ- وَ يَأْخُذَ ثُلُثَهُ وَ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثَيْهِ- خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ حَرَمُوهُ.

و قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع: رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً عَفَّ وَ تَعَفَّفَ وَ كَفَّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ- فَإِنَّهُ يُعَجِّلُ الذُّلَّ فِي الدُّنْيَا- وَ لَا يُغْنِي النَّاسُ عَنْهُ شَيْئاً.[8]

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع يَقُولُ لِيَجْتَمِعْ فِي قَلْبِكَ الِافْتِقَارُ إِلَى النَّاسِ وَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُمْ- فَيَكُونَ افْتِقَارُكَ إِلَيْهِمْ- فِي لِينِ كَلَامِكَ وَ حُسْنِ بِشْرِكَ- وَ يَكُونَ اسْتِغْنَاؤُكَ عَنْهُمْ- فِي نَزَاهَةِ عِرْضِكَ وَ بَقَاءِ عِزِّكَ[9] .

في آخر آية من هذا المقطع نقرء: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

ما يبادر الى الذهن من سياق هذه الآية الكريمة ان الله بعد ما تعرّض لفضيلة الانفاق واقسامه و شروط القبول و شروط المستحقين و غير ذلك اراد ان يلخص الكلام في عبارة تشمل جميع اقسام واشكال الانفاق واوقاتها حتى لا يبقى دقدقة تهز بالنفس في اداء هذا الواجب واتى بهذه العبارات الجامعة وطمنئهم من الاجر عند الله بلا خوف ولاحزن.

و من الواضح أنّ انتخاب أحد هذه الطرق المختلفة يتمّ مع رعاية الشرائط الأفضل للإنفاق، يعني أنّ المنفق يجب عليه مراعاة الجوانب الأخلاقية و الاجتماعية في إنفاقه اللّيلي أو النهاري العلني أو السرّي، فحين لا يكون ثمّة مبرّر لإظهار الإنفاق على المحتاجين فينبغي أن يكون في الخفاء لحفظ كرامة المحتاجين و تركيزا لإخلاص النيّة.و إذا تطلّبت المصلحة إعلان الإنفاق كتعظيم الشعائر الدينيّة و الترغيب و الحثّ على الإنفاق دون أن يؤدّي ذلك إلى هتك حرمة أحد من المسلمين، فليعلن عنه كالإنفاق في الجهاد و المراكز الخيريّة و أمثال ذلك وبهذا المقدار من البحث ننهي هذا المقطع من سورة البقرة وغدا ندخل الى مقطع آخر ان شاء الله


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo