< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

42/09/04

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: تفسير الموضوعي / تفسير آيات المصدرة ب"يا ايا الذين آمنوا /تفسير آية 178 و 179سورة البقرة

المقطع الرابع مما يصدر بقوله تعالى يا ايها الذين آمنوا هو قول الله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‌ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‌ بِالْأُنْثى‌ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‌ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى‌ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ . وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[1]

وقد قدمنا المقطع الخامس بمناسبة حلول شهر رمضان.

قال في المجمع: (القصاص و المقاصة و المعاوضة و المبادلة نظائر يقال قص أثره أي تلاه شيئا بعد شي‌ء و منه القصاص لأنه يتلو أصل الجناية و يتبعه و قيل هو أن يفعل بالثاني ما فعله هو بالأول مع مراعاة المماثلة و منه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شي‌ء)[2] فالقصاص حق يتابعه اولياء المقتول.

وفي شأن التزول قال: (نزلت هذه الآية في حيين من العرب لأحدهما طول على الآخر و كانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور و أقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم و بالمرأة منا الرجل منهم و بالرجل منا الرجلين منهم و جعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك حتى جاء الإسلام فأنزل الله هذه الآية).[3]

وقال في الامثل: (شاع بين القبائل العربية انتقام قبيلة من قبيلة اخرى، و لم يكن لهذا الانتقام حدود، فقد يقتل رجل فتهدد قبيلته قتل كل رجال قبيلة القاتل، فنزلت الآية و شرعت حكم القصاص) وهذا الحكم الإسلامي جاء ليقرر الموقف من عرفين قائمين عن العرب، عرف يرى حتمية القصاص، و عرف يرى حتمية الدية. فجاءت الآية لتقرر القصاص عند عدم موافقة أولياء المقتول على أخذ الدية، وإن وافقوا فالدية).[4] وكذا قديقال: ان هذه الآية تأخذ بالوسطية بين اليهود والنصارى اذ ان الاول كان متمسكا بالقصاص والثاني متمسكا بالعفو والدية، فالاسلام جاء بما هو جامع بين الأمرين فجعل لاولياء المقتول حق القصاص وشجعهم على العفو و اخذ الدية وان ارادوا العفو عن كلاهما.

ولكني اظن ان ما يقال للعرب في كثير من القضايا لم يكن خاص بالعرب بل كان لجميع الناس في عصر الجاهلية الاولى و يكون هكذا في الجاهلية المعاصرة سواء على مستوى الفردي او المستوى الاجتماعي و الدولي. فانا سمعت ان في بعض امارات الخليج تدرج في الدية بين الاروبي و الباكستاني والعرب فيتدرج من الكثير الى القليل كان دم الانسان له اسعار مختلفة في عرفهم كما ان بعض الدول المستكبرة يسمحون لانفسهم ان يخترقوا الاجواء الآخرين مثل العراق او باكستان وغيرهما بدون استيذان ولا اخبار فيقصفون القرى والمدن بحجة ان فيها ارهابي و يقتلون الناس الأبرياء ولم يطلب بدمهم احد. ومثلها تعامل الكيان الصهيوني لفلسطين ولبنان واحيانا العراق.

و في المجمع البيان ابدى شبهة في تعبير الآية ثم اجاب عنها فقال: (متى قيل: كيف قال «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‌» و الأولياء مخيرون بين القصاص و العفو و أخذ الدية و المقتص منه لا فعل له فيه فلا وجوب عليه فالجواب من وجهين (أحدهما) أنه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص و الفرض قد يكون مضيقا و قد يكون مخيرا فيه (و الثاني) أنه فرض عليكم التمسك بما حد عليكم و ترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم و أما من يتولى القصاص فهو إمام المسلمين و من يجري مجراه فيجب عليه استيفاء القصاص عند مطالبة الولي لأنه حق الآدمي و يجب على القاتل تسليم النفس)[5] والوجه الاخير اقرب الى الواقع.

وهناك شبهات وجهوها على مشروع القصاص:

احدها: القاتل ارتكب جريمة بقتل إنسان واحد، ونحن بالقصاص نجوز قتلا آخراً فنريد ان نعالج الجريمة بمثلها فيؤدّي إلى تكرار هذا العمل الشنيع.

ويرد عليه: ان القصاص يقلل القتل كثيرا ولو لا القصاص لبقي مادة القتل مستمراً و لا يتنبه من فكّر فيه.

الثاني: القصاص ينمّ عن روح الانتقام و التشفّي و القسوة، و يجب إزالة هذه الروح عن طريق التربية، بينما يعمّق القصاص هذه الروح.

ويرد عليه: بان القصاص يشفي لوعة المصابين ولو لم يكن القصاص ليقتص اولياء المقتول عشوائيا و كثيرا ما يقتلون غير القاتل وانما يكتفون بفرد من تلك العشيرة و تشتعل بين العشيرتين نار الفتنة و ليس كل انسان قابل للتربية فكم من شباب خرجوا من اُسَر طيبة وانحرفوا وصاروا من الاشرار، فهذا ابولهب كان ابن عبد المطلب عليه السلام شريف القريش و قيل انه كان من اوصياء عيسى عليه السلام ولكن ابنه ابي لهب وصل الى درجة ورد فيه "تبت يدا ابي لهب وتب" وامثاله كثير في التاريخ وفي العصر الحاضر.

الثالث: الانسان الذي يقتل انسانا مثله فهو مبتلى بمرض نفسي يدفعه الى ارتكاب القتل فهو مبتلى بمرض نفسي ينبغي معالجته، و القصاص ليس بعلاج بل هو محو لصورة المسألة.

ويرد عليه: ان القاتل لو كان مجنونا لا يقتص منه ولكن مجرد عُقَد نفسية لا يبرر عمله الإرادي كما في سائر الجرائم وكل العقلاء يرون لزوم معاقبة مرتكب الجريمة و درجة المعاقبة لابد وان تناسب درجة الجريمة.

الرابع: ان قانون القصاص سنّ قبل أربعة عشر قرنا ونحن في عصر الحضارة ينبغي ان نجعل قانونا منسجما مع التطور والحضارة لا ان نطبق قانون الذي سن اوائل الاسلام لبعد عصر الجاهلية.

ويرد عليه: ان قوانين الاسلام شرعها الله العالم بالماضي والمستقبل فبعض القوانين يكون فيه المرونة بحيث ينطبق مع متطلبات كل عصر مثلا حق الزوجة على زوجها "عاشروهن بالمعروف" وهذا العنوان مصداقها منسجم مع كل عصر ولكن بعض القوانين يرتبط بالشؤون الثابتة في الانسان فالانسان منذ خلق الله آدم عليه السلام الى يوم القيامة حاجته في جسمه نفس المواد الغذائية التي كان يحتاج اليه الاوائل. ومنها مسألة الموت والحياة فمن سلب الحياة من انسان، فهو يموت كما مات الهابيل ابن آدم عليهما السلام فالجزاء نفس الجزاء كما ان الصلاة ثابتة لجميع الاجيال بنمط واحد وليس عندنا صلاة الكترونية او كهربائية.

الخامس: ان القاتل انسان له طاقات يمكن استخدامها لخدمة الناس، فالاولى بدل القتل نرسله الى معسكرات العمل الإجباري، كي يستغل طاقاته و نصون المجتمع من شروره ايضاً.

ويرد عليه: ان مجازات نفي البلد و تشغيله في معسكر لا يكون رادعا للشر ولا موجبا لانتباه الآخرين بل يكون هذا الامر اسهل من السجن لمرتكب القتل. و اذا عرف انه مصون من القتل فلا يبعد ان يقتل شخصا آخرا في منفاه وفي داخل المعسكر.

اما قول الله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى‌ بِالْأُنْثى. هذه الآية المباركة ارادت ان تبين مساوات الانسان بجميع اطيافه فجميع الاحرار من أي جنسية او طائفة لا تمايز بينهم. كما ان العبيد يتساوون من جميع الجنسيات والنساء هكذا يتساوون من جميع الجنسيات ولا تفاضل بينهم وليست بصدد بيان تفاصيل المسألة فقد يقتل الرجل بقتل المرأة والمرأة بقتل الرجل والعبد بقتل الحر وبالعكس بالتفاصيل التي وردت في الروايات والكتب الفقهية.

واما قول الله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‌ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ الظاهر ان المراد من اتباع بمعروف تعيين وظيفة اولياء المقتول ان لا يكلفوا القاتل بما لا يقدر والقاتل ايضا في تأديته للديه يحسن باولياء المقتول في السعي لتسريع الدفع وحسن الاداء. وعندما نتأمل في التعابير الواردة في هذه الآية المباركة نرى مدى اللطف والتحنن في مضمونها حيث سمى القاتل اخ لاولياء المقتول و يأمرهم باتباع حقهم بالمعروف. ولا بأس ان نلفت انتباهكم الى نقطة وهي: بما ان القاتل تجاوز المقررات الاجتماعية فيجب عليه مضافا الى دفع الدية الى ورثة المقتول، ان يدفع كفارة القتل ايضاً تنبيها له و حتى يبقى عليه كلفة ولو ان ولي المقتول عفاه عن تأدية الدية ايضاً.

ثم قال الله تعالى في الآية اللاحقة: ﴿وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

ونحن نكتفي هنا بما تفضل به العلامة الطباطبائي في الميزان من كلام لطيف رائع يشير الى عظمة هذه الآية المباركة واليك نصها:

قال: (ولَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ الآية على اختصارها و إيجازها و قلة حروفها و سلاسة لفظها و صفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها، و أسماها في بلاغتها فهي جامعة بين قوة الاستدلال و جمال المعنى و لطفه، و رقة الدلالة و ظهور المدلول، و قد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل و القصاص تعجبهم بلاغتها و جزالة أسلوبها و نظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع و قولهم: أكثروا القتل ليقل القتل، و أعجب من الجميع عندهم قولهم: القتل أنفى للقتل غير أن الآية أنست الجميع و نفت الكل: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ فإن الآية أقل حروفا و أسهل في التلفظ، و فيها تعريف القصاص و تنكير الحياة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص و أعظم و هي مشتملة على بيان النتيجة و على بيان حقيقة المصلحة و هي الحياة، و هي متضمن حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحياة دون القتل فإن من القتل ما يقع عدوانا ليس يؤدي إلى الحياة، و هي مشتملة على أشياء أخر غير القتل‌ يؤدي إلى الحياة و هي أقسام القصاص في غير القتل، و هي مشتملة على معنى زائد آخر، و هو معنى المتابعة التي تدل عليها كلمة القصاص بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، و هي مع ذلك متضمنة للحث و الترغيب فإنها تدل على حياة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها نظير ما تقول: لك في مكان كذا أو عند فلان مالا و ثروة، و هي ذلك تشير إلى أن القائل لا يريد بقوله هذا إلا حفظ منافعهم و رعاية مصلحتهم من غير عائد يعود إليه حيث قال: وَ لَكُمْ. فهذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، وربما ذكر بعضهم وجوها أخرى يعثر عليه المراجع غير أن الآية كلما زدت فيه تدبرا زادتك في تجلياتها بجمالها وغلبتك بهور نورها- وكلمة الله هي العليا.)[6]


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo