46/12/05
محاورات حول ما جاء في الكفاية/ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء /الأصول العملية
محتويات
1- محاورات حول ما جاء في الكفاية1.1- الأمر الثالث: جريان البراءة الشرعيّة عن الجزئيّة لا عن الجزء
1.1.1- توضيح الاحتمال الثاني:
1.1.1.1- مثال توضيحي:

الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء / محاورات حول ما جاء في الكفاية
1- محاورات حول ما جاء في الكفاية
1.1- الأمر الثالث: جريان البراءة الشرعيّة عن الجزئيّة لا عن الجزء
قلنا إنّ صاحب الكفاية رضوان الله تعالى عليه اعتبر دليل البراءة عن الأكثر استثناءً عن الدليل المجمَل الدالّ على وجوب إمّا الأكثر أو الأقلّ.
فإنّ الدليل الدالّ على أنّ الصّلاة واجبةٌ، مجمَلٌ بين أن يكون المراد بوجوب الصّلاة تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء.
فصاحب الكفاية قال: إنّ دليل البراءة تُعتَبر نسبته إلى هذا الدليل المجمَل نسبةَ الاستثناء إلى المستثنى منه.
وقلنا إنّ هناك عدّة احتمالات في تفسير هذا الكلام لصاحب الكفاية رضوان الله تعالى عليه:
الاحتمال الأوّل: التمسّك بالدلالة المطابقيّة لدليل البراءة، بأن نعتبر الدلالة المطابقيّة لدليل البراءة استثناءً عن ذاك الدليل المجمَل.
الاحتمال الثاني: التمسّك بالدلالة الالتزاميّة العقليّة الدّقيقة لدليل البراءة.
الاحتمال الثالث: وهو الذي نريد بحثه اليوم، عبارة عن التمسّك بالدلالة الالتزاميّة العُرفيّة لدليل البراءة الشرعيّة.
وهنا طبعًا دفعُ دخلٍ مُقدَّر لم نذكره بالأمس، وهو: كيف نتمسّك في التفسيرين الثاني والثالث لكلام صاحب الكفاية بدليل البراءة؟ أليس هذا تمسّكاً بالدلالة الالتزاميّة للأصل العمليّ؟ والأصل العمليّ دلالته الالتزاميّة غير حجّة.
فكيف نتمسّك بالدلالة الالتزاميّة لدليل البراءة؟ الجواب: إنّ هذه دلالة التزاميّة لدليل البراءة لا لنفس الحكم الظاهريّ الحاصل بالبراءة. فقد أوضحنا في بعض الأبحاث القديمة الفرق بين أن يكون المدلول الالتزامي للحكم الظاهري الحاصل بالبراءة – وهذا غير حجّة، لأنّ لوازم الأصول العمليّة غير حجّة بخلاف الأمارات – وبين أن تكون الدلالة الالتزاميّة لدليل البراءة نفسه. ودليل البراءة هو في حدّ ذاته أمارة، كالرّواية: «رُفِعَ عن أمّتي ما لا يعلمون». فهذا من لوازم الأمارات، لا من لوازم الأصول العمليّة.
إذن نستطيع أن نتمسّك بالدلالة الالتزاميّة الحاصلة من دليل البراءة، لا من نفس البراءة الظاهريّة. وهذا جواب عن الدخل المقدّر.
ثمّ نعيد الاحتمال الثاني الذي كان يعتمد على الدلالة الالتزاميّة العقليّة الدقيقة، لكنّنا اليوم نقول: يمكننا أن نبدّل تلك الدلالة العقليّة بالدلالة العُرفيّة. نحافظ على نفس البناء في الاحتمال الثاني، لكن نبدّل الدلالة الالتزاميّة العقليّة بالدلالة الالتزاميّة العُرفيّة.
1.1.1- توضيح الاحتمال الثاني:
لولا دليل البراءة لكان الواجب علينا الاحتياط بالعمل بكلا طرفي هذا الدليل المجمَل: أن نأتي بالأكثر والأقلّ معاً. وعندما يأتي دليل البراءة فإنّه يستثني من ذلك العمل بالأكثر.
فهذا نوع من الاستثناء. لأنّ مقتضى الدليل المجمَل أن نعمل بكلاهما، ولكن بدليل البراءة يحقّ لنا أن نترك الأكثر.
وبحسب مباني صاحب الكفاية، البراءة لا تجتمع مع تمام مراتب الحكم الواقعيّ، بل إذا ثبتت البراءة فمعنى ذلك أنّ الحكم الواقعيّ قد فقد مرتبته الأخيرة، وهي الفعليّة (بالمعنى الذي يقصده صاحب الكفاية). فيكون هذا استثناءً.
1.1.1.1- مثال توضيحي:
لو ورد دليل مجمَل قال: «أكرِم زيداً» وكان عندنا زيدان: زيد بن عمرو وزيد بن بكر. فهذا الدليل صار مجمَلاً. ومقتضى العمل به أن نكرمهما معاً. فإذا جاء دليل يقول: «لا يجب إكرام زيد بن بكر»، فهذا يعتبر استثناءً من مقتضى ذاك الدليل المجمَل.
وفيما نحن فيه، عندنا دليل مجمَل على وجوب الصلاة: هل هي ذات عشرة أجزاء أو تسعة؟ الدليل مجمَل. فإذا دلّ دليل البراءة على عدم وجوب الأكثر (الصّلاة ذات العشرة أجزاء)، فهذا استثناء عن مقتضى الدليل المجمَل.
هذا هو الاحتمال الثاني الذي ذكره صاحب الكفاية، لكن اعتمد فيه على الدلالة الالتزاميّة العقليّة. وقد رفضناه لأنّنا لا نقبل مبناه القائل بعدم إمكان الجمع بين الحكم الواقعيّ والحكم الظاهريّ. نحن نرى إمكان الجمع بتمام مراتب الحكم الواقعيّ مع الحكم الظاهريّ (كما في مبنى التزاحم الحفظيّ عند أستاذنا الشهيد).
لكنّ الآن نقول: بدل أن نتمسّك بالدلالة الالتزاميّة العقليّة، نتمسّك بالدلالة الالتزاميّة العُرفيّة.
فالعُرف إذا رأى دليلاً مجمَلاً يقول: «أكرم زيدًا»، ثمّ جاء دليل يقول: «لا يجب إكرام زيد بن بكر»، يفهم عرفاً أنّ المراد هو إكرام الآخر. كذلك في مسألتنا: إذا رفع دليل البراءة وجوب الأكثر، يفهم العُرف أنّ الواجب هو الأقلّ.
فهذا الاحتمال الثالث يبدّل فقط نوع الدلالة الالتزاميّة: من العقليّة الدقيقة إلى العُرفيّة.
غير أنّ أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه علّق وقال: ما دام دليل البراءة (كرواية: «رُفع عن أمّتي ما لا يعلمون») لم يرد في خصوص باب الأقلّ والأكثر، بل ورد بإطلاقه، فإنّ العُرف لا يساعد على استفادة هذه الدلالة الالتزاميّة منه.