« فهرست دروس
الأستاذ السيد علي‌اکبر الحائري
بحث الأصول

46/11/22

بسم الله الرحمن الرحيم

 محاورات حول ما جاء في الكفاية/ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء /الأصول العملية

 

الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء / محاورات حول ما جاء في الكفاية

1- محاورات حول ما جاء في الكفاية

1.1- الأمر الثاني: التفصيل بين البراءة العقليّة والبراءة الشرعيّة في موارد الشكّ بين الأقلّ والأكثر

قلنا في نهاية الدرس الماضي: إنَّه تارةً يُبنى على عدم وجوب الأكثر بالأمارة التي مثبتاتها حجَّة، ومداليلها الالتزاميَّة حجَّة، فتكون الأمارة الدالَّة على عدم الأكثر أو عدم القيد مثبتةً للإطلاق، سواء أكان الإطلاق أمراً وجوديّاً أو عدميّاً.

وتارةً ثانية: يكون النافي للقيد عبارة عن أصل عمليّ مُحرز كالاستصحاب، الذي لا تكون مثبتاته حجَّة، لكنَّه ناظر إلى الواقع. فهنا يُفترض أن يُقبل بأنَّه إن كان الإطلاق أمراً عدميّاً، يثبت بنفي الأكثر، لأنَّ الإطلاق هو عين عدم القيد إذا كان أمراً عدميّاً، فبنفي الأكثر يثبت الإطلاق. وأمَّا إذا كان الإطلاق أمراً وجوديّاً، فلا يثبت، لأنَّ الأمر الوجودي ليس عين نفي الأكثر أو نفي القيد، بل يحتاج إلى إثبات، والإثبات يتوقَّف على حجِّيَّة المداليل الالتزاميَّة، وهي غير متحقِّقة في مثل الاستصحاب.

والوجه الثالث: أن يكون النافي للقيد أصلاً عمليّاً بحتاً، وهو من ناحية غير ناظر إلى الواقع، ومن ناحية أُخرى مثبتاته ومداليله الالتزاميَّة غير حجَّة. وبهذا انتهينا في الدرس الماضي.

غير أنَّه بقي تساؤل: ما هو الوجه الفنِّي العلمي الذي جعل صاحب الكفاية يقول بالتفصيل بين البراءتين: بين البراءة العقليَّة والبراءة الشرعيَّة، حيث جعل العلم الإجمالي مانعاً عن جريان البراءة العقليَّة، وغير مانع عن جريان البراءة الشرعيَّة؟

هذا التساؤل أُجِّل جوابه، وقلنا إنَّه يكمن في الأمر الثالث من الأمور التي ذكرها في الكفاية وتحتاج إلى بحث وتحقيق.

1.2- الأمر الثالث: جريان البراءة الشرعيّة عن الجزئيّة لا عن الجزء

الأمر الثالث أنَّ صاحب الكفاية رضوان الله تعالى عليه قال: إنَّ البراءة الشرعيَّة تجري دون البراءة العقليَّة، ولكن تجري عن الجزئيَّة لا عن الجزء. وهنا فرق بين الجزء والجزئيَّة. فهو يقول: إنَّ البراءة تجري عن الجزئيَّة لا عن ذات الجزء. وهذا يحتاج إلى توجيه.

إذن صار عندنا تساؤلان:

    1. لماذا عدل صاحب الكفاية عن البراءة عن الجزء إلى البراءة عن الجزئيَّة؟ وما وجه قوله بأنَّ البراءة تجري عن الجزئيَّة لا عن ذات الجزء؟

    2. ما وجه التفصيل بين البراءتين بكون العلم الإجمالي مانعاً عن جريان البراءة العقليَّة، ولكنَّه غير مانع عن جريان البراءة الشرعيَّة؟

أُستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه حاول أن يطرح جواباً مشتركاً لهذين التساؤلين، مع أنَّه يردُّه بعد ذلك، لكنَّه يرى أنَّ هذا الجواب لعلَّه كان في ذهن صاحب الكفاية وإن لم يُصرِّح به.

الجواب المشترك: أنَّ البراءة الشرعيَّة عن الأكثر تعارضت مع البراءة الشرعيَّة عن الأقلّ، فتساقطتا، لأنَّهما متعارضتان. فالأصل – أي البراءة – يريد أن يجري عن الأكثر، ويريد أن يجري عن الأقلّ، ولا يمكن جريانهما معاً في كلا طرفي العلم الإجمالي، لأنَّه يؤدِّي إلى ضياع المعلوم بالإجمال. فإذا تساقطت البراءتان، بقيت الجزئيَّة بلا معارض، فتصل النوبة إليها. وذلك لأنَّ الجزئيَّة أصل طوليّ في طول الجزء، فإذا انتفى الجزء، تصل النوبة إلى الجزئيَّة.

فهذا جواب يُصوَّر كجواب مشترك لكلا التساؤلين:

     لماذا جرت البراءة عن الجزئيَّة دون الجزء؟ لأنَّ البراءة عن الجزء تساقطت بالمعارضة بين البراءة عن الأكثر والبراءة عن الأقلّ، فبقيت البراءة عن الجزئيَّة بلا معارض.

     ولماذا فرَّق بين البراءة العقليَّة والشرعيَّة؟ الجواب أيضاً: لأنَّ العلم الإجمالي لا يمنع عن جريان البراءة عن الجزئيَّة بعد سقوط البراءة عن ذات الجزء.

لكن أُستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه سجَّل عدَّة إيرادات على هذا الجواب المشترك:

الإيراد الأوَّل: أنَّ هذا إنَّما يتمُّ على مبنى الاقتضاء دون مبنى العلِّيَّة. وصاحب الكفاية – كالمحقِّق العراقي – يقول بالعلِّيَّة، وإن كانت عنده بنحوٍ يختلف عن المحقِّق العراقي. لكن عموماً كلاهما يبنيان على أنَّ العلم الإجمالي علَّة تامَّة لوجوب الاحتياط. وعلى مبنى العلِّيَّة لا حاجة إلى القول بالتساقط، بل نفس العلم الإجمالي علَّة تامَّة للاحتياط، ولو في طرف واحد.

الإيراد الثاني: أنَّ الأصل في جانب الجزئيَّة ليس في طول الأصل في جانب الأكثر (أو الجزء)، لأنَّ ترتُّب الجزئيَّة على وجوب الأكثر ليس ترتّباً شرعيّاً. والأصول الطوليَّة إنَّما يُعقل طوليّتها إذا كانت بجعل الشارع، كما في تقديم الاستصحاب على البراءة، فإذا سقط الاستصحاب تصل النوبة إلى البراءة. أمَّا إذا كانت الطولية عقليّة، فلا معنى لأن نقول: إذا تساقط الأصلان العرضيَّان، تصل النوبة إلى الأصل الطوليّ.

وأمَّا الإيرادان الثالث والرابع فيبقيان إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

 

logo