46/10/09
المانع الثالث عن جريان البراءة في المقام وهو العلم بالغرض/ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء /الأصول العملية
محتويات
1- خلاصة البحوث الماضية حول دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر2- المانع الثالث عن جريان البراءة في المقام وهو العلم بالغرض
2.1- الوجه الثاني للردّ على المانع الثالث
2.1.1- عدم مانعيّة العلم بالغرض عن جريان البراءة العقليّة
2.1.2- عدم مانعيّة العلم بالغرض عن جريان البراءة الشرعيّة
الموضوع: الأصول العملية / دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء / المانع الثالث عن جريان البراءة في المقام وهو العلم بالغرض
1- خلاصة البحوث الماضية حول دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر
كان بحثنا قبل التعطيل في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء، [مثل ما] إذا دار الأمر بين تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء مثلاً في الصلاة هل تجب السورة أو لا؟ فإذا كانت السورة واجبة يعني عشرة أجزاء وإذا لم تكن السورة واجبة فتسعة أجزاء. هذا دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء. وهل تجري البراءة عن الجزء الزائد المحتمل أو لا؟
وأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه صار بصدد بيان الموانع التي تُذكر عن جريان البراءة في الجزء الزائد المحتمل. والموانع على قسمين، موانع عامّة وموانع خاصّة. وبدأنا باستعراض الموانع العامّة.
قلنا تُذكر ثلاث موانع [عامّة] عن جريان البراءة:
المانع الأول: وجود العلم الإجماليّ الذي يجب الاحتياط في طرفيه، فلا تصحّ جريان البراءة؛ لأن البراءة تتساقط في طرفي العلم الإجمالي.
المانع الثاني: العلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ سواء كان استقلاليّاً أو ضمنيّاً، فالأقل يجب مسلّماً ولكن لأجل حصول الجزم بسقوط التكليف بالأقلّ لابدّ من الاحتياط بالأكثر حتّى يحصل لنا الجزم بسقوطه، وتعرفون بأنّه ما ثبت وجوبه لا بدّ أن يحصل الجزم بسقوطه، فهنا عندنا جزم بوجوب الأقلّ فلابدّ من تحصيل الجزم بسقوط هذا الذي نعلم به، وعندئذ لا يحصل الجزم إلّا بأن يؤدّي الأكثر، وهذا يعني عدم إمكان جريان البراءة عن الجزء الزائد المحتمل.
المانع الثالث: أنّه عندنا علم بوجود الغرض خلف الواجبات الشرعيّة، وهذا الغرض مردّد بين أن يحصل بالأقلّ أو يحصل بالأكثر، وهذا يعني أن الشكّ هنا في الغرض يكون من الشكّ في المحصّل، [فأنّه] ما الذي يحصّل الغرض؟ هل هو تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء؟ فهذا يكون شكّا في المحصّل، والشكّ في المحصّل كما تعرفون لا تجري فيه البراءة بل يجري فيه الاحتياط. ومثاله المعروف: لو وجب علينا قتل كافر ولا نعلم بإطلاق رصاصة واحدة يحصل قتله أو بإطلاق رصاصتين؟ فلا تجري البراءة عن إحدى الرصاصتين وإنّما يجب أن يحصل هذا الغرض بالجزم واليقين، وتحصيل هذا الغرض بالجزم واليقين لا يكون إلّا بإطلاق رصاصتين. هذا مثاله المعروف.
2- المانع الثالث عن جريان البراءة في المقام وهو العلم بالغرض
هذا المانع الثالث الذي يذكر عن جريان البراءة عن الجزء الزائد قلنا سابقاً يمكن الردّ عليه بوجهين: الوجه الأوّل ما بحثناه سابقاً وكان فيه تفصيل وخمسة فروض على كلّ فرضيّة بحثنا أنّه هل تجري البراءة أو لا تجري البراءة، كان بحثنا مفصّلاً وقد أكملناه.
والآن نتحول إلى الوجه الثاني من الوجهين اللذين تذكر للردّ على المانع الثالث، وهو الشكّ في محصّل الغرض، ولا يمكن إجراء البراءة في الشكّ في المحصّل بل يجري الاحتياط في الشكّ في المحصّل.
2.1- الوجه الثاني للردّ على المانع الثالث
فيقول أستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه بأنّنا حتّى لو سلّمنا أنّ الشكّ في الغرض شكٌّ في المحصّل مع ذلك هذا لا يمنع عن جريان البراءة. ويقول بأنّ هذا لا يمنع لا عن جريان البراءة العقليّة - عند القائلين بها - ولا عن جريان البراءة الشرعيّة. فإنّه لا يمكن المنع عنهما بدعوة أنّ الشكّ في الغرض شكّ في المحصل.
2.1.1- عدم مانعيّة العلم بالغرض عن جريان البراءة العقليّة
أمّا جريان البراءة العقليّة عند القائلين بها تعتمد على التزام الشارع ببيان شيء ما، أنّه واجب مثلاً، ولو لا التزام الشارع ببيان حكم شيءٍ ما، لم يجر قبح العقاب بلا بيان وإنّما يجري قبح العقاب بلا بيان - أي البراءة العقليّة - في ما إذا كان ذلك البيان قد التزم الشارع بشكل من الأشكال ببيانه. فلو لم يلتزم الشارع بشكل من الأشكال ببيان شيءٍ مّا على تقدير وجوبه مثلاً لما جرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان عندهم.
إذاً فلابد أن نجد بأنّ هذا الالتزام تعلّق بماذا؟ هل الشارع قد التزم ببيان الغرض حتّى يقال بأنه يجري قبح العقاب بلا بيان عن الغرض؟ حتّى يأتي الكلام الذي ذكرنا من أن الغرض يكون الشكّ فيه شكّاً في المحصّل؟ أو أنّ الالتزام تعلق بالأفعال المحصّلة للغرض فلا يتعلّق التزام الشارع ببيان الغرض.
فإنّ الشارع تبارك وتعالى لا يلتزم غالباً ببيان الغرض، وإنما يلتزم ببيان الأفعال التي تؤدّي إلى تحصيل الغرض مثل أجزاء الصلاة، فالله تبارك وتعالى قد التزم ببيان أجزاء الصلاة ولم يلتزم ببيان الغرض من الصلاة وإن كانت روايات في أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصلاة قربان كلّ مؤمن إلى غير ذلك، ولكن هذه من باب المقرّبات والمرغّبات إلى غير ذلك، وليس تمام الغرض عبارة عن قربان كلّ مؤمن أو مثلاً تنهى عن الفحشاء والمنكر ليس هذا هو تمام الغرض.
إذاً فبالنسبة إلى الغرض لم يصدر من الشارع أو لم يلتزم الشارع ببيان الغرض، وإنما التزم ببيان أفعال الصلاة ولم يذكر في بيانه السورة حسب فرض المثال، وعليه فنقول بما أنّ التزام الشارع لم يتعلق ببيان الغرض وإنّما تعلّق التزامه بأفعال الصلاة وقد قلنا بأنّ الملاك عند القائلين بقبح العقاب بلا بيان هو ما التزم الشارع ببيانه والشارع تبارك وتعالى هنا لم يلتزم ببيان الغرض وإنما التزم ببيان الأفعال المحصّلة للغرض، وعليه فالغرض خارج عن الحساب ولا يمكن القول بأن الغرض يجب تحصيله عقلاً ولا يمكن إجراء البراءة فيه؛ لأنّ الشكّ في الغرض شكّ في المحصّل وليس شكّاً في الواجب.
وعليه فالغرض أساساً خارج عن الحساب، والشارع تبارك وتعالى تعلّق التزامه ببيان أفعال الصلاة، ولم يتعلّق بالغرض حتّى نتكلّم في إطار الغرض بأنّ هذا الغرض واجب وهو مرجعه إلى الشكّ في المحصل. بل بالعكس فإنّ أفعال الصلاة الشكّ فيها شكّ في المحصّل وليس الشكّ في الغرض شكّاً في المحصل. هذا بالنسبة إلى البراءة العقلية.
2.1.2- عدم مانعيّة العلم بالغرض عن جريان البراءة الشرعيّة
وأما بالنسبة إلى البراءة الشرعيّة فالبراءة الشرعيّة أيضاً لا تتّجه إلى الغرض حتى نقول بأنّ الشكّ في الغرض شكّ في المحصل.
وفي توضح ذلك نقول بأنّ البراءة الشرعيّة إلى أيّ شيء اتّجهت؟ فهي ترفع احتمال وجود الغرض في ذلك الشيء إذا توجّه التكليف إلى شيء ما نعرف أنّ فيه غرضاً وإذا لم يتوجّه التكليف ولو ظاهراً بإجراء البراءة الشرعيّة فلا يثبت وجود الغرض فيه. ثبوت الغرض وعدم ثبوت الغرض يعني الجزم بثبوت الغرض أو عدم ثبوت الغرض في شيءٍ مّا تابع لتوجّه التكليف أو ارتفاع التكليف عن ذلك الشيء. فهذا يعني أنّه لا توجد براءة متوجّهة إلى الغرض، بل بالعكس وجود الغرض وعدم وجود الغرض تابعان لجريان البراءة أو عدم جريان البراءة في الأفعال.
فإذا جرت البراءة في أفعال الصلاة بقدر جريان البراءة في أفعال الصلاة ننفي وجود الغرض، ولا يثبت بذلك وجود الغرض وإذا لم تجر البراءة بل ثبت وجود أفعال بقدر معيّن تسعة أجزاء مسلّماً فيها أمر وجوب بذلك نعرف أنّ هناك غرض يحصل بأداء تسعة أجزاء، فبأيّ مقدار قام الدليل الشرعيّ على وجوب شيء بذلك يعرف أنّ ذلك الشيء فيه غرض وبأيّ مقدار لم يثبت وجوب شيء بل جرت البراءة فسوف لا يثبت وجود غرض.
إذاً فلا تصل النوبة إلى القول بأنّ هذا الغرض مسلّماً موجود وهذا الغرض لا نعرف بمَ يحصل ويحقّق، هل محصّله هو تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء؟ لا تصل النوبة إلى ذلك، وعليه فالبراءة سواء كانت عقليّة أو شرعيّة لا يمنعها المانع الذي ذكر من أنّه كيف تجري البراءة عن الغرض المسلّم والغرض لا نعرف هل يتحقق بتسعة أجزاء أو عشرة أجزاء.
إذاً فهذا المانع الثالث الذي ذكر عن جريان البراءة – أي العلم بالغرض لأنّنا نعلم بوجود غرضٍ مّا ونشكّ في تحصيل ذلك والشكّ في التحصيل لا تتقبّل البراءة – فهذا المانع الثالث لا يصحّ التمسك به لنفي جريان البراءة، إذاً فلا مانع من جريان البراءة.
إذاً فالموانع الثلاثة التي ذكرت في ألسنة الأصحاب كلّها أمكن أن نرفضها، فالموانع الثلاثة العامّة كلّها رفضت، وبعد هذا يجب أن نبحث عن الموانع الخاصّة.