46/08/21
الأصول العملية، اصالة الاحتياط.
الموضوع: الأصول العملية، اصالة الاحتياط.
• ألوجوه التي استدلوا بها على أصالة الإحتياط بحكم العقل:
• الوجه الأول: هو العلم الإجمالي بالتكاليف.
• الوجه الثاني: أن الأصل في الأشياء الحظر أي التوقف أو الاباحة.
• ألوجه الثالث: ان العقل يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل .
• الوجه الرابع: في اصالة الاحتياط العقلية ما سميّ بمسلك حق الطاعة.
ألوجوه التي استدلوا بها على أصالة الإحتياط بحكم العقل:
نعود إلى بيان الوجوه التي استدلوا بها على أصالة الاحتياط بحكم العقل، وذكرنا ان هناك اربعة وجوه تختلف عن بعضها قليلا.
- الوجه الأول: هو العلم الإجمالي بالتكاليف الذي يقتضي الإحتياط في أطرافه، إذن يجب الاحتياط في كل الاطراف، في كل المشكوكات. وهذا العلم الاجمالي لا يسقط إلا عند الانحلال، حينئذ ينحل إلى علم تفصيلي وشك بدوي.
وقد ذهبنا إلى التفصيل بين العلم الإجمالي الكبير والعلم الإجمالي الصغير وقلنا أنّ الكبير قد ينحل إلى علم تفصيلي بما قامت عليه الأمارات في التكاليف الإلزامية ، وشكٍ بدوي في الباقي ليكون موردا لأصل البراءة .
إذن العلم الاجمالي الكبير سقط بالانحلال، وهناك علم اجمالي صغير ضمن العلم الاجمالي الكبير، مثلا: صلاة ظهر يوم الجمعة، هل تجب صلاة الظهر او تجب صلاة الجمعة؟! ونحن نعلم ان هناك صلاة واحدة، فحينئذ نقول ان العلم الاجمالي الصغير لا يزال موجودا ولا ينحل ابدا، فحينئذ لا مانع من الإلتزام بمنجزيّته، اي الامور الواضحة ذات الاطراف القليلة التي هي ضمن العلم الاجمالي الكبير.
إذن العلم الاجمالي الكبير ينحل ويبقى اصل البراءة مطلقا إلا إذا كان هناك علم اجمالي صغير اصبح شبهة مقرونة بعلم اجمالي فلا بد فيها من الاحتياط.
- الوجه الثاني: أن الأصل في الأشياء الحظر أي التوقف أو الاباحة.
هذه مسألة قديمة بحثت، وذكرنا ان هناك مسألتين: اصالة الحظر في الاشياء وهي قديمة مذكورة. واصالة البراءة.
وقلنا: أن الأصل في الأشياء الحظر هذا امر قبل الفحص وقبل الشرع وقبل الوصول، حينئذ الاصل الحظر، فلا مانع من الإحتياط أو التوقف قبل الفحص اما بعد الفحص فتجري اصل البراءة ويجري قبح العقاب بلا بيان إذ من القبيح ان يعاقب المولى على امر لم يصلني.
ولا مانع من القول بالاثنين معا وانا اذهب إلى ان الاصل في الاشياء هو الحظر ما قبل الفحص دون ما بعد الفحص. الاصل في الاشياء البراءة البراءة العقلية، العقل يحكم بالبراءة. ولذلك ذهبوا إلى انه في الشبهات الحكمية يجب الفحص بخلاف الشبهات الموضوعية - المصداقية الخارجية – فلا يجب الفحص فيها.
فإذن يجب الفحص في الشبهات الحكمية وإلّا خرج الدين عن كونه دينا إذا قلنا بجواز الاقتحام والاصل البراءة، لان التكاليف الالزامية المعلومة الذي نعرفها على نحو القطع، التي ورد فيها خبر متواتر او غير ذلك، نعلم انها قليلة جدا، حينئذ لو ان كل مسألة اشتبهنا بها اجرينا فيها اصل البراءة قبل الفحص، ولو ان كل حكم الزامي وجوبيا او تحريميا اشتبهنا وشككنا به واجرينا اصل البراءة لخرج الدين عن كونه دينا واصبحت التكاليف الالزامية معدودة على الاصابع، وهذا نقطع بعدم صحته ولا يقول به احد، وهو امر وجداني.
ولذلك نقول هناك فرق في مورد اصل الحظر والتوقف ومورد اصل البراءة. فلا يتنافيان ابدا.
- ألوجه الثالث: ان العقل يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل .
العقل يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل، ونحن نعلم ان في ارتكاب المشتبه احتمال للوقوع في الضرر.
واشرنا إلى هذه المسألة سابقا.
اولا: أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل تعارضه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، التي تنفي احتمال الضرر، هذا التنافي يتوهم للوهلة الاولى. ونقول: هناك فرق بين العقاب الاخروي والمصلحة الدنيوية.
اما بالنسبة للعقاب الاخروي: فقد يُقال: ان دفع الضرر المحتمل واجب عقلا او عقلائيا، لكن يعارضه وينافيه " قبح العقاب بلا بيان" فان حكم العقل " بقبح العقاب بلا بيان" ينفي احتمال الضرر، وعليه يرتفع حكم العقل موضوعا، فلا احتمال للضرر حينئذ مع تقديم " قبح العقاب بلا بيان".
لكن يمكن ان يقال: ان الامر ايضا معكوس فيمكن ان يقال: ان حكم العقل بدفع الضرر المحتمل هو بيان رباني عقلي، لان الله تعالى خلق العقل، قال: " بك اثيب وبك اعاقب" بحكم العقل بيان، وعليه تكون قاعدة " دفع الضرر المحتمل " هي بيانا، يعني انها رفعت موضوع قاعدة " قبح العقاب بلا بيان، فيُقدَّم عليها. فكما يقال في هذا الاتجاه يقال في الاتجاه الآخر.
وهل يتنافى الحكمان العقليّان؟ أو هل تتعارض الاحكام العقليّة؟ احكام العقل لا تتنافى.
نقول في حل المشكلة: الحق في المسألة أن لا تنافي ولا تعارض بينهما.
فإذا تأملنا قليلا في قاعدة " دفع الضرر المحتمل " لوجدنا أن هذا الضرر الأخروي - العقاب – لا يكون على احتمال إنشاء الحكم، لان للحكم عدّة مراحل، ونحن قلنا ان هناك مرحلة واحدة وهي الانشاء، لكن كما قالوا ان هناك مراحل متعددة: مرحلة المصالح والمفاسد، ومرحلة الانشاء، ومرحلة الفعلية والتنجيز. عندما يصل الحكم ويتحقق موضوعه ولم يكن هناك مزاحم وصار فعليا وبعد الفعلية إذا علمت به صار متجزا في حقي، وحينئذ اعاقب عليه عند الترك في التكليف الالزامي، حينئذ يأتي العقاب عقلا.
هنا نقول: إذا تأملنا قليلا ان العقاب الأخروي ليس مترتبا على نفس انشاء الحكم، بل هو مترتب على وصول الحكم، ولو علمت بالانشاء ولم يصل إلى مرحلة الفعليّة فليس هناك عقاب. فمن باب الاولى مع احتمال انشاء الحكم ان لا يكون احتمال للضرر ولا للعقاب. ومع العلم بعدم العقاب فان الله يقبح ان يعاقب على غير الواصل، والعقلاء يقبحون العقاب على الحكم غير الواصل، فالوصول وعدمه هو مناط العقاب والثواب، وليس انشاء الحكم وعدمه.
لذلك نقول ان قاعدة " دفع الضرر المحتمل" موضوعها ومنشأ الضرر والعقاب فيها هو وصول الحكم، وليس انشاء الحكم، وكوني لا اعلم وشاك ومشتبه، فكوني لا اعلم يعني ان الحكم غير واصل. وهنا حينئذ تنطبق قاعدة " قبح العقاب بلا بيان" بلا منازع وبلا معارض وبلا منافٍ، لانه مع عدم البيان اقطع واعلم بعدم العقاب فلا يجري حكم العقل بوجوب دفع الصرر المحتمل، إذ لا احتمال للعقاب اصلا، بل نعلم بعدم العقاب لان الله عز وجل لا يمكن ان يعاقب على الظن والتهمة أو على الشك.
اما الضرر الدنيوي، نقول: اولا: المفسدة في الضرر المتوسط أو الخفيف لا يجب دفعها دائما، بل نجد العقلاء لا يقبحون التكاذب الخفيف الضعيف، هذا اولا نعم ان ادفع الضرر الخفيف هذا امر حسن لكن ليس الزاميا، نعم يمكن ان يقال في الضرر الكبير وهذا غير معلوم، والعلم بالمصالح والمفاسد في الاحكام لا نعلمها، ومع عدم العلم " ان دين الله لا يصاب بالعقول "، علل الاحكام لا تصاب بالعقول، مثلا: لماذا كانت صلاة الصبح ركعتان والظهر اربع ركعات لماذا هذا مستحب وهذا واجب أو مكروه، معظم الاحكام لا نعلم عللها إلا من النص الشرعي، ومع عدم معرفة العلل كيف استطيع ان اعرف المفسدة الكبيرة من المتوسطة والصغيرة وغير ذلك.
إذن هذا الوجه من وجوه الإستدلال بحكم العقل على أصالة الاحتياط مردود، وتبقى قبح قاعدة " العقاب بلا بيان" بلا منازع .
- الوجه الرابع: في اصالة الاحتياط العقلية ما سميّ بمسلك حق الطاعة.
ملخصه أنّ حق الطاعة يعظمُ بعظمِ المولى، ولذلك بان الله عز وجل مولى عظيم وحق الطاعة كبير جدا، حينئذ حق الطاعة يشمل المعلوم والمشكوك، الا ترى انه إذا كان هناك سلطان كبير جدا وبالاخص إذا كان طاغية، شعبه يجتنب ما استطاع غضبه ويحاول ارضاءه ما استطاع، لذلك يكون امتثال الناس شاملا للتكاليف المعلومة وكذلك يشمل المشكوك. ويعبرون عن مسلك حق الطاعة بمنجزيّة الاحتمال، مجرد أن أحتمل أمرا فمن حق الله عز وجل، فاتوقف عنده إذا كان محرما وافعله أن كان واجبا. في الشبهات الحريمية اتوقف ولا اقتحم، وفي الشبهات الوجوبية افعل واقتحم وان كان مشكوكا، وذلك تعظيما للمولى واسداء لحقه الكبير، خصوصا إذا كان المولى الله عز وجل.
فيكون مسلك حق الطاعة قبل الفحص وبعده، وقبل البيان وبعده، يجب محاولة الاحتياط ما امكن ارضاء للمولى العظيم لله عزّ وجلّ وتعظيمًا له.
ونقول: صحيح انه كلما ازداد حق المولى يجب محاولة الاحتياط، وبهذا يختلف مسلك حق الطاعة عن وجوب " دفع الضرر المحتمل"، بمنجزية الاحتمال. فهناك امران: حق الطاعة شيء و " دفع الضرر المحتمل " شيء آخر .
ففي حق الطاعة من حق الله عز وجل ان اطيعه حتى في الامور المشكوكة، أي من باب تعظيم المولى وليس خوفا من عقابه ابدا.
ونقول: أن حق الطاعة أمر حسن ولكنه لا يصل إلى مرحلة المنجزيّة التي تستتبع عقابا، والله عز وجل ارحم الراحمين. والعقاب يمكن ان يكون في الموالى العاديين السلطان الطاغية الجبار، أحذر حينئذ ان اتصرف اي تصرف احتمل ان يغضبه، اما الله عز وجل فقد وصف نفسه بانه ارحم الراحمين واعظم الاعظمين واكرم الاكرمين.
ولذلك حق الطاعة إن لم يستلزم عقابا حينئذ يكون امرا حسنا، وليس ينجز الاحتمال بحيث ان هذا التنجيز يؤدي إلى عقاب على الاقتحام في الشبهة التحريمية وعقاب على عدم الفعل في الشبهة الوجوبيّة. واظن ان هذا امر واضح.
لذلك نقول ان مسلك حق الطاعة يمكن ان يؤدي إلى حسن الفعل، ولا مانع من ذلك، لكن لا يؤدي إلى تنجيز الاحتمال ابدا. وحينئذ يبقى " قبح العقاب بلا بيان" بلا منازع، ومسلك حق الطاعة لا ينافيه ابدا.
الى هنا ننتهي بالادلة على الاحتياط، ونقول ان ملخّص الكلام والنتيجة: ان كلامنا في الاحتياط العقلي أو النقلي هو في وجوب الإحتياط المولوي النفسي، وذكرنا الوجوه التي ذكروها من القرآن ومن السنه النبوية الشريفة ومن حكم العقل، وذكرنا انها جميعا لا تؤدي إلى أصالة الإحتياط بعد الفحص. فيكون اصل البراءة العقلية والنقلية بلا منازع وبلا معارض. نعم يمكن الذهاب إلى اصالة الاحتياط قبل الفحص، ولا مانع من ذلك كما ذكرنا ذلك مرارا عقلا أو نقلا.
نعم ذكرنا ان ادلة الاحتياط التي ذكروها معظمها ليست دليلا.
النتيجة: يجب الاحتياط عقلا ما قبل الفحص، اما ما بعد الفحص وجوب الاحتياط المولوي النفسي ما بعد الفحص لم يثبت اصلا، وهو محل الكلام. والحمد لله رب العالمين.