46/05/29
الأصول العملية، اصالة الاحتياط.
الموضوع: الأصول العملية، اصالة الاحتياط.
• توجيه كلام الشيخ الانصاري (ره) ، الاحتياط حسن عقلا وشرعا بعد الاشكال عليه.
• التذكير بما مرّ في الفرق بين قاعدة "قبح العقاب بلا بيان" العقلية، وقاعدة "دفع الضرر المحتمل واجب". والجواب على توهم التنافي.
• توهم ان اخبار الاحتياط مقدّمة على اخبار البراءة.
• دفع الوهم: اخبار الاحتياط من باب الوجوب الغيري لا النفسي.
بعود لكلام الشيخ الانصاري (ره) له توجيه، حيث قالوا ان هناك مراحل للحكم: الاقتضاء والانشاء والفعلية والتنجيز.
الاقتضاء هي مرحلة المصالح والمفاسد والملاكات، بعدها عند وجود المصلحة يأتي الجعل والامر بالفعل" الانشاء"، بعد الانشاء تأتي حالة الفعلية وهي مرحلة التحريك، وعند العلم به يكون التنجيز أي يصبح مسؤولا.
ونحن ذهبنا إلى ان الحكم له مرحلة واحدة وهي الجعل والانشاء، والمراحل الباقية هي حالات المكلف والمتعلق.
ولتوجيه كلام الشيخ الانصاري (ره): نقول: نعم، بالنسبة للإنشاء، فإننا نحتمل انشاء الحكم فيحسن الامتثال لما انشأه المولى عند الوصول ولو احتمالا، من باب " من بلغه عن رسول الله ثوابا على عمل فعمله رجاء ذلك الثواب كان له ذلك وان كان رسول الله لم يقله "، بهذا العنوان يصبح حسنا.
وعند الشك تكون هناك مرحلة احتمال الانشاء فقط، لا فعلية ولا عقاب ولا تنجيز قطعا.
ولو مع العلم بعدم العقاب، بل تعظيما له، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف عن امير المؤمنين علي (ع): "إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك".
أي ليس الطاعة والعبادة تكون خوفا من الضرر فقط، بل تعظيما للمعبود.
هذا بالنسبة للضرر الأخروي.
أما بالنسبة للدنيوي، فاحتمال المفسدة صحيح، وذلك لما قلنا بان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في جعلها، ومع وجود المصلحة المحتملة او المفسدة الواردة في العديد من الروايات، هذا يعني ان هناك مصلحة أو مفسدة ولما كان الحكم مشكوكا كانت المفسدة مشكوكة وامتناع النفس عن المفسدة المحتملة، ولا يبعد الحكم بحسن دفع المفسدة والضرر الممتثلين.
التذكير بالعلاقة بين القاعدتين بعد ثبوتهما، ورفع اشكال التباين. [1]
قاعدة "قبح العقاب بلا بيان" العقلية، وقاعدة "دفع الضرر المحتمل واجب": للوهلة الأولى قد يتوهم التناقض والتعارض بين القاعدتين العقليتين، فانه كما يمكن ان يقال: عند المشكوك وعدم وصول الحكم إلى المكلّف: تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان، مؤمنة من العقاب، أي مؤمنة من الضرر، فترفع قاعدة: دفع الضرر المحتمل واجب، موضوعا، لان موضوع القاعدة هو احتمال الضرر، ومع رفع الاحتمال لا يوجد ضرر لدفعه، فتقدّم قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
كذلك يمكن ان يقال بالعكس: وجوب دفع الضرر المحتمل بيان للوجوب، فترفع قاعدة قبح العقاب بلا بيان موضوعا، لان موضوعها هو عدم البيان، ووجوب دفع الضرر بيان عقلا، فترتفع القاعدة، وتقدّم قاعدة: دفع الضرر المحتمل واجب.
فكيف نعمل وايهما نقدّم؟ مع العلم أن الأحكام العقلية لا يمكن تناقضها لأن حكم العقل قطعي، ولا يجتمع قطعان على موضوع واحد، فلا يمكن أن يكون المشكوك موضوعا للبراءة وموضوعا للاحتياط في آن واحد. إذن المعضلة واضحة.
والجواب: حل المعضلة يكمن في نقطة دقيقة وهي: التحقيق في منشأ الحكمين، والامثلة كثيرة مثلا: في التعدي على الطرقات العامّة، في تجاوز الإشارات، ورمي النفايات في الشوارع، وغيرها من المخالفات للقوانين العامة المعاصرة التي هي من صالح المجتمع.
فمع الجهل وعدم وصول الحكم، لا يوجد احتمال للعقوبة ابدا، إذ العقوبة ليست ناشئة من نفس انشاء الحكم واقعا، بل هي ناشئة من تنجيز الحكم الواقعي وتحمّل مسؤوليته، لا في ذاته وانشائه. ومع عدم الوصول فليس هناك ضرر أخروي محتمل.
وأما المفسدة الدنيوية وإن كانت محتملة بناء على ما عليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، فلم يثبت دليل على وجوب دفعها دائما، ألا ترى أن الضرر الخفيف يرتكبه العقلاء، والضرر المتوسط يرتكبونه مع احتماله، نعم الضرر العظيم كالقتل يجب عقلائيا تجنبه، لذلك اشتهرت قاعدة الاحتياط في الدماء.
أذن: هناك منشآن للقاعدتين فلا تعارض.
وبهذا يتضح أن قاعدة دفع الضرر المحتمل لا تشمل المقام، وهو الحكم غير الواصل للمكلف، إذ لم يثبت موضوعها وهو عدم المؤمّن. فتبقى قاعدة " قبح العقاب بلا بيان" بلا معارض وتجري حينئذ قاعدة البراءة.
دفع وهم:
الوهم: قد يقال: إن اخبار الاحتياط تتقدم على اخبار البراءة لان اخبار البراءة الشرعية "رفع عن أمتي ما لا يعلمون" ونحن على علم بوجوب الاحتياط - لو تمّت ادلة الاحتياط- أي لو فسرنا اخبار "اخوك دينك احتط لدينك" بوجوب الاحتياط، فترتفع اخبار البراءة موضوعا، فتقدم اخبار الاحتياط على اخبار البراءة.
والدفع: هذا صحيح لو كانت اخبار الاحتياط تؤدي إلى وجوب نفسي بالاحتياط، أي تؤدي إلى وجوب نفسي آخر غير الوجوب الواقعي النفسي للمجهول المحتمل، لا انه مقدمة لتجنب المحرمات النفسية. مثلا: بان هذه العين خمر ام لا؟ هناك حكمان: حرمة نفسية للخمر، ووجوب الاحتياط في المشكوك وتمتنع عنه. النتيجة ان هناك حكمان.
نقول: ان الاحتياط عبارة عن وسيلة لتجنب المحرمات وليس مطلوبا بذاته، فلو كان وجوب الاحتياط نفسيا يكون الاحتياط مقدّما على البراءة، بدليل انه ليس هناك عقابان بل عقاب واحد.
لكن قد بيّنا ان اخبار الاحتياط - على تقدير تماميتها - تؤدي إلى وجوب غيري واحد وليس نفسيا، أي نفعلها للحفاظ على الحكم الواقعي النفسي المجهول، وهذا المجهول ليس منجزا بحقنا، وهذه مسألة وجدانية، وحتى النصوص واضحة في الغيرية، وقد بينا مرارا ان اخبار الاحتياط على تقدير تماميتها تؤدي إلى وجوب غيري مجرد ارشاد عقلي بالانتباه لعدم الوقوع في المحرّم، فلا يتقدّم على اخبار البراءة.