46/05/08
الأصول العملية، البراءة.
الموضوع: الأصول العملية، البراءة.
• استعراض روايات البراءة.
• في قوله (ع): " فيه حلال وحرام" أن كان منشأ الشك هو الاختلاط فتختص الرواية بالشبهات الموضوعية، وإن كان منشأ الشك هو عدم الدليل ، فالظاهر من الرواية هو الشمول للشبهات الحكمية.
• في رواية: " الناس في سعة ما لم يعلموا "، "ما" إما ان تكون موصولة فحينئذ يقع التعارض بين الرواية وروايات الاحتياط، وإما مصدرية ظرفية فتقدم روايات الاحتياط عليها.
بعد التفريق بين اصل الاباحة واصل البراءة في ادلّة البراءة، وفي الرواية الأخيرة كنا في مقام بيان ان ما فيه حلال وحرام ظاهر في الشبهة الموضوعيّة، وان كان لا مانع من شمولها للشبهة الحكمية لإمكان شمول اللفظ لها.
قد يقال: يمكن تصور التقسيم في الشبهات الحكمية، بأن يقال: ان الجامع له أنواع، نوع حلال وآخر حرام، مثلا: كلّي اللحم، جامع بين لحم الأسد وهو حرام ولحم البقر وهو حلال، واشك في حكم لحم الكنغر لعدم ورود النص فيه، فنقول: كل شيء فيه حلال وحرام أي كل لحم فيه حلال وحرام فكل لحم حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه. فقد يقال ان هذه الرواية تشمل الشبهة الحكمية.
فانه يقال: إن الظاهر من قوله (ع): "فيه حلال وحرام" أن منشأ الشك في الحليّة أو الحرمة هو نفس الانقسام والاختلاط، وهذا لا ينطبق على الشبهة الحكمية، لأن منشأ الشك في الحرمة هو عدم ثبوت الدليل ولو على تقدير حرمة جميع الأنواع الأخرى المنضوية تحت الجامع "كلي اللحم".
وعليه، فلا نتمسك بإطلاق وعموم "كل ما كان فيه حرام وحلال" الشامل بلفظه للشبهة الحكمية، لان منشأ الشك يختلف بين الشبهتين: فإذا كان منشأ الشك هو الاختلاط أو عدم الدليل. كان اللفظ ظاهرا في الشبهة الموضوعية، وان كان منشأ الشك عدم الدليل فالظاهر ان الرواية في الشبهة الحكمية. لكن ظاهر الرواية ان منشأ الشك هو الاختلاط والانقسام وليس عدم الدليل على الحرمة.
فمنشأ الشك أن لم يؤد إلى ظهور الشبهات الموضوعية، فهو على الأقل يؤدي إلى الانصراف اليها، والقدر المتيقن هو انه في الشبهة الموضوعية، حينئذ لا تكون الرواية دليلا على البراءة.
أيضا إذا جمعنا الروايات مع الروايات الأخرى كــ " ادخل السوق فاشتري الجبن واللحم " السؤال ليس عن التفريق في الحلية او الحرمة بين جبن الغنم أو جبن الخنزير، الجواب من الامام (ع): " ان هذه البرية وهذه السودان هل تعرف الطهارة والحليّة". ففي السوق كثير من الناس لا يهتمون لا بالطهارة ولا بالحلية فأمثال هذه الروايات ظاهر في الموضوعات. ([1] )
ملاحظة: إن هذه الرواية وامثالها تشير إلى جواز المخالفة الاحتمالية، كما ذكرنا ذلك سابقا في مباحث العلم الإجمالي فراجع. وأيضا نفس هذه الروايات تشير إلى ان روح الشريعة تسهيل الأمور.
الرواية الثالثة: رواية معاوية بن عمار: الوسائل: ح 7 – احمد بن عبد الله البرقي عن اليقطيني، عن صفوان، عن معاوية بن عمار، عن رجل من أصحابنا قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه السلام: انه لطعام يعجبني وسأخبرك عن الجبن وغيره، كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه.[2]
من حيث السند: اليقطيني: الظاهر انه محمد بن عيسى بن عبيد، كتبت عنه في الوجيز: وثقه النجاشي، وقال الشيخ انه ضعيف، استثناه ابن بابويه من رجال نوادر الحكمة.
ونقول: ان الاستثناء يحتمل قويا ان لا يكون بسبب ضعف محمد بن عيسى، بل لخصوص رواياته في نوادر الحكمة، لان الشيخ نقل عن الصدوق –كما في الرسائل – انه استثنى من رواياته ما كان فيه تخليط.
والنتيجة ان توثيق النجاشي اصبح بلا معارض، وقيل انه كان غاليا كما عن الشيخ.
وذكرنا في الرواية السابقة ان عبد الله بن سليمان من الثقات لرواية صفوان عنه، والظاهر انه هو "رجل من اصحابنا" لشبه اتحاد الالفاظ في الروايتين، ويمكن ان نقول حينئذ ان الرواية خرجت عن الارسال للاطمئنان بان الرواية تقريبا واحدة.
من حيث الدلالة: فهي متحدة مع سابقاتها بنفس المضمون ونفس الالفاظ، ويحتمل ان تكون رواية واحدة.
الرواية الرابعة: الوسائل: ح 1 - محمد بن علي بن الحسين بإسناده (صحيح) عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال، كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.
ورواه الشيخ بإسناده عن الحسن بن محبوب وبإسناده عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب مثله محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد وأحمد بن محمد عن ابن محبوب مثله. [3]
من حيث السند: سند الصدوق إلى الحسن بن علي بن محبوب معتبر كما ذكرنا ذلك في كتابنا الوجيز النافع في علم الرجال.
ومن حيث الدلالة: كلمة " بعينه " ظاهرة في الموضوعات، وان كان لفظا تشمل الشبهة الحكمية. وقد مرّ الكلام في ذلك فلا نعيد.
ومن الروايات التي استدل بها على البراءة الشرعية:
رواية:عوالي اللآلي: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال : " الناس في سعة ما لم يعلموا " [4]
من حيث السند: مرسل لا اعتبار لها، لكن فيها معنى جميل، وبعض الفوائد في مقام الدلالة.
من حيث الدلالة: فان "ما" تحتمل امرين بتنوين او عدمه: فإما ان تكون موصولة، أي اسم موصول، وتكون هكذا: "في سعة ما" بان تضاف "سعة" إلى ما، وحينئذ يكون المعنى: " الناس في سعة من المجهول، فيكون وزانه وزان: "رفع عن امتي ما لا يعلمون"، وتكون دالة على البراءة، فتتعارض مع ادلة الاحتياط على تقدير تماميتها – وقد ذكرناها وسنبين عدم تمامية ادلة الاحتياط- . فتشمل الشبهة الحكمية والموضوعية .
واما ان تكون "ما" مصدرية ظرفية فيكون المعنى: " الناس في سعة ما داموا لم يعلموا" فيكون مفادها مفاد: "قبح العقاب بلا بيان" أي الناس في سعة ما دام عدم البيان. وحينئذ قد يدعي من اوجب الاحتياط ان البيان قد صدر من الله تعالى بوجوب الاحتياط، فتقدم ادلة وجوب الاحتياط على البراءة. وأيضا تشمل الشبهة الحكمية والموضوعية.
فهذه الرواية في الاختلاف بين اللفظين: ايهما تعارض ادلة الاحتياط مثل: "أخوك دينك فاحتط لدينك" وايهما لا تعارض، هل هناك تعارض ام هناك تقديم. ان قلنا ان هناك تعارض نرجع إلى باب التعارض، وان قلنا بتقديم احدهما على الآخر، نرى ما هو المقدّم.
والظاهر أن المعنى الثاني هو ذو الاحتمال الأقوى، لأن هذا التركيب في ما المصدرية الظرفية لا يرد مع حرف النفي "لا" بل يرد مع حرف النفي "لم"، وقد ورد مع حرف " لم ".
والنتيجة: دلالة الرواية على أصل البراءة الشرعية إلا انها ضعيفة سندا.