46/05/07
الأصول العملية، البراءة.
الموضوع: الأصول العملية، البراءة.
• أمور يجب تنقيحها وملاحظتها.
• تذكير برواية مسعدة بن صدقة.
• الفرق بين اصل الاباحة واصل البراءة.
• رواية عبد الله بن سليمان.
بسم الله الرحمن الرحيم، كان الكلام في أصل البراءة.
وللتذكير بعد هذا الانقطاع الطويل بسبب الظروف الأليمة التي عصفت بمجتمعنا، قلنا ان الفرق بين الأصل والأمارة، أن الأمارة كاشفة عن حكم واقعي اما الأصل فهو مجرّد بيان وظيفة عمليّة، فالأصل لا يدل على حكم واقعي جعلي شرعي.
وبناء على هذا الفرق عرّفنا علم الأصول: ان علم الأصول هو بحث عن كواشف فان لم نجد فبحث عن وظائف. وجدت أن هذا التعريف هو افضل التعريفات لأنه يبيّن موضوع علم الأصول، ويبين أيضا قسمي علم الأصول الرئيسيين: الكواشف والوظائف. وقيدنا بكلمة: "ان لم نجد" لوجود تراتبية ضمن البحث في هذا العلم، بين الامارات والأصول.
واشكل على هذا التعريف بعدم الحاجة لقيد "ان لم نجد "، واجبنا على ذلك، واشكل أيضا بما المراد من الكواشف، هل البحث عن الحكم الشرعي ام الطبي أم الهندسي وغير ذلك، فالجواب انه لا حاجة للقيد بالحكم الشرعي لأننا في مقام بيان وسيلة الوصول إلى الاحكام الشرعي.
وذكرنا مرارا ان علم الأصول هو علم آلي وليس علم استقلاليا، وهو علم لأجل استنباط الاحكام الشرعيّة. لذلك ليس له أي كيانية خاصّة، بل هو وسيلة نصل بها إلى علم الفقه. فمثلا بحث موضوع علم الأصول الذي هو الادلّة الأربعة، أو بما هي أدلّة، أو العناصر المشتركة، أو القواعد الممهِّدة، أو الممهَّدة، فكل هذه التعريفات في مقام الاستنباط لا تنفعنا، نعم تنفعنا في مقام البنية الفكرية العلمية لمعرفة موضوع وغاية علم الأصول. فلكون علم الأصول آلة لغيره، فلا داعي لبحث موضوع هذا العلم، لأننا ذكرنا سابقا في اول بحث علم الأصول ان المميز بين العلوم هي الغايات التي لأجلها ينشأ العلم، لا الموضوعات ولا المحمولات. فبعض الأبحاث هي عبارة عن فوائد نظريّة بنيوية في بحث علم الأصول، ففي شرح تعريف موضوع كل علم عند صاحب الكفاية كنا نأخذ الوقت الكبير بالرغم انها في الواقع كما قلنا هي عبارة عن فوائد بنيوية نظرية لا قيمة لها عمليا في بحث علم الأصول.
نعم هذا التعريف بان علم الأصول هو "البحث عن الكواشف فان لم نجد بحث عن وظائف " اراه جامعا مانعا وسهلا ويوضح فكرة علم الأصول ما هي، هو علم آلي لأجل الوصول إلى الحكم الشرعي.
انتهينا في الدروس السابقة من البحث عن الكواشف وبدأنا ببحث الوظائف، الوظيفة العمليّة الأولى: اصل البراءة واستدل عليه بأمور كثيرة.
وبعد هذا الانقطاع بسبب الظروف اذكِّر بأمر: هو ان الكلام في اصل البراءة في أي شيء؟
تارة اشك في اصل جعل الحكم، هل الشك في اصل الحكم بأصل البراءة يؤدي إلى رفع أصل الحكم أو إلى رفع منجزية الحكم، أي رفع المؤاخذة. فهل اصل البراءة يلغي اصل جعل الحكم، رفع ما كان ثابتا بالجهل مثلا في: " رفع عن امتي ما لا يعلمون"، هل جعل الحكم ينتهي بالجهل؟ أو ان الجعل في عالم الواقع باق، ولكني ليست مسؤولا عنه ومؤاخذا.
الفرق بين اصل الاباحة واصل البراءة:
فاصل الاباحة يعني ان يكون الحكم مباحا في عالم الجعل، وفي عالم الجعل قالوا ان الاحكام خمسة: الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والاباحة. وقلنا انه هل يوجد حكم سادس وهو السنن. وقد بحثنا ذلك في دروسنا الأولى، فلا نعيد.
فإذا كانت الاحكام خمسة ومنها حكم الاباحة حكم جعلي، وعندما أقول الأصل الاباحة فهذا يعني ان الأصل في الاحكام عدم الوجوب وعدم الحرمة وعدم الاستحباب وعدم الكراهة، فعدم الجعل بالنتيجة يؤدي إلى الاباحة، فاصل الاباحة كان باتجاه الجعل، كانه قال ان الأصل هو عدم الجعل.
بينما ان اصل البراءة هو عدم المسؤولية، الجعل موجود لكن لا توجد مؤاخذة.
لفت نظر: ان كلمة اصل الاباحة واصل البراءة ليستا موجودتين في النصوص الشرعية، بل هي عند الفقهاء والاصوليين، لذلك هما محض اصطلاح.
والإباحة على قسمين: قسم في عدم المصلحة، وقسم آخر وهو ان هناك مصلحة في الاباحة. فالأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، تارة يكون هناك اقتضاء للمصلحة وجعل للإباحة. وتارة لا يكون هناك مقتض للإباحة ليس هناك لا رجحان ولا مرجوحية.
إذن اصل الاباحة هو في مقام الجعل ولذلك اعتبر بعضهم ان اصل الاباحة امارة وليس أصلا، ذهب بعضهم إلى انها قاعدة فقهية، فالفرق بين الاباحة والبراءة ان الاباحة فقهية تؤدي إلى كشف عن واقع بينما البراءة اصل عملي.
ونكرر ان كلمة اصل الإباحة واصل البراءة ليست موجودة في لسان الشارع بل هي موجودة في لسان الفقهاء، مصطلحان اصوليان جديدان.
هذا التفريق له اثر في مبحث اصل البراءة لأننا نجد في بحث البراءة ان النقاش كثيرا ما يكون في عدم الوجدان أو عدم الوجود، وهناك فرق بينهما. ففي الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ .. ([1] ) هذه الآية هل تدل على انه في الاصل ليس هناك جعل وهو عدم الوجود؟ او انه انا لم يصل علمي إلى ما هو محرّم وهو عدم الوجدان؟.
ونعود للروايات التي استدل بها على البراءة:
إذن من الروايات التي استدل بها على البراءة روايات الحلّ رواية مسعدة بن صدقة، وقد ذكرناها سابقا، ونذكرها مختصرا: مقبولة مسعدة بن صدقة، ح 4 - وعن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال، سمعته يقول: كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة. ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم.[2]
من حيث السند: طريق محمد بن علي بن الحسين إلى على بن ابراهيم معتبر.
من حيث الدلالة: نلاحظ ان الامثلة في الموضوعات وليس في الاحكام، ولذلك قال بعضهم ان هذه الرواية خاصة في الشبهات الموضوعيّة وليست في الشبهات الحكميّة.
وقلنا في هذه الرواية عدّة نقاط توقفنا عندها كـما المقصود بكلمة " بعينه " هل هي تؤدي إلى ان الشبهات موضوعية فقط واصل البراءة يكون في الشبهة الموضوعية فقط – وهذا قوي جدا - ، اما انها تشمل حتى الشبهات الحكمية؟ كما لو شككت في حكم الطاووس هل هو حرام أو حلال؟
فنقول: في الطير حلال وحرام، ولا ادري حكم الطاووس؟ فهو حلال حتى نعلم الحكم. لكن هذا خلاف ظاهر الرواية وهو الشبهة الموضوعية. هذا ما سبق.
الرواية الثانية: الوسائل: ح 1 - محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن سنان، عن عبد الله بن سليمان قال: سألت أبا جعفر (الباقر) عليه السلام عن الجبن فقال لي: لقد سألتني عن طعام يعجبني ثم أعطى الغلام درهما فقال: يا غلام ابتع لنا جبنا، ثم دعا بالغداء فتغدينا معه فأتي بالجبن فأكل وأكلنا فلما فرغنا من الغداء قلت: ما تقول: في الجبن؟ قال: أو لم ترني آكله قلت: بلى ولكني أحب أن أسمعه منك فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره، كل ما كان فيه حلال وحرام ( * ) فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه. ورواه البرقي في ( المحاسن ) عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان مثله . [3]
من حيث السند: فعبد الله بن سليمان ثقة لرواية صفوان عنه.
ومن حيث الدلالة: فهي تشترك مع سابقتها بفقرة "حتى تعرف الحرام بعينه " وقد مرّ الكلام فيها، نعم تختلف عنها بالتقسيم، أي ما كان فيه حلال وحرام. والتقسيم ظاهر في الشبهة الموضوعية، أي اختلطت أشياء عديدة من حرام وحلال بحيث لم نعد نميز الحلال من الحرام، ولا معنى لان أقول عن شيء مجهول الحرام انه مما فيه حلال وحرام. هنا يوجد علم اجمالي بين اثنين، وهذا ما يؤيد ما نذهب اليه وما هو خلاف المشهور: انه في الشبهة التحريميّة في العلم الإجمالي تجوز المخالفة الاحتمالية دون القطعية.
وكتوضيح: انا لا احب مخالفة المشهور ولا مخالفة الاجماع، اما إذا كان الدليل خلافه، ونحن اتباع الدليل، فما العمل؟ نعم عندي مسائل اصوليّة واكثر ما اذهب اليه فيها هو مشهور القدماء وخصوصا في مباحث الالفاظ.
فهذا التقسيم في الرواية: " ما كان فيه الحلال والحرام" ينصرف إلى الشبهة الموضوعيّة وليس إلى الشبهة الحكمية، لاختلاط الحلال بالحرام فيضيع الحكم، فلي الحق حينئذ ان استهلك حتى اعلم ان الحلال قد انتهى وبدأنا بالحرام. فمع وجود العلم الإجمالي، ومع وجود المخالفة الاحتمالية فلا اشكال نعم مع وجود المخالفة القطعية نتوقف، فلو ان اناءين احدهما نجس استطيع ان اشرب الأول للمخالفة الاحتمالية النجاسة ليست معلومة، ولا قيمة للعلم الإجمالي هنا، عندما اشرب الثاني تصبح المخالفة قطعية فتقع الحرمة. فالمخالفة القطعية هي المحرمّة وليست المخالفة الاحتمالية، وهذا ليس بعيدا عن المنطق وان اشتهر خلاف ذلك.
والتقسيم ظاهر في الشبهة الموضوعية، أي اختلطت أشياء عديدة من حرام وحلال بحيث لم نعد نميز الحلال من الحرام، ولا معنى لان أقول عن شيء مجهول الحرامة انه مما فيه حلال وحرام.