< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

45/12/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية، البراءة.

     ومن الروايات التي استدل بها على أصل البراءة الشرعية حديث الحجب.

     رواية مسعدة بن صدقة.

     ملاحظة الأمثلة، فيها وكلها شبهات موضوعية، وما يستتبع ذلك من عدم الظهور في الاطلاق فلا تشمل الشبهة الحكمية التي هي محل الكلام.

 

نعود للكلام في حديث الحجب، فإن كلامنا في عدم الوصول بسبب الناس أو الظالمين أو التقيّة وغير ذلك.

إلا أن يقال: أن اسناد الحجب لله تعالى المراد منه من باب إسناد كل شيء إليه تعالى كالرزق والشفاء وغير ذلك، فان محل الكلام في البراءة ليس ما كان من الله عز وجل، لأنه كما ذكرنا امس بانه قد يُخفي بعض الاحكام لمصلحة، كمصلحة التدريج في الاحكام أو مصلحة تأخير بعض الاحكام إلى زمن ظهور الامام المهدي (ع)، أو بعض الاحكام التي لم يتحقق موضوعها في زمن رسول الله (ص)، فالشافعي الذي كان يقول انه لولا عليّ ما عرفنا احكام البغاة، مع العلم ان البغاة ورد ذكرهم في كتاب الله لكن لم يبيّن الحكم.

ولو كانت مصلحة هي الاخفاء لا تكون الرواية دليلا على أصل البراءة، وكلامنا في ما لم يصل الينا بسبب الأمور العامّة الموجودة بين الناس، إلا ان يدّعى ان الاسناد لله هو لأنه العلّة الأخيرة، فيكون إسناد الحجب للناس أيضا منتهيا إليه جل وعلا، كما يحتمل أن يكون المراد من الوضع هو الرفع، فتكون الرواية حينئذ دالة على أصل البراءة. فالاحتمالات موجودة ومع وجود الاحتمال يبطل الاستدلال.

وعلى أيّة حال فالأمر سهل لتماميّة الأدلة الأخرى على البراءة الشرعية، كرواية: "رفع عن امتي ما لا يعلون" وهذه تكفي في البراءة الشرعية.

ومن الروايات التي استدل بها على البراءة روايات الحل، مثل: "كل شيء فيه حرام وحلال فهو لك حلال".

منها: موثقة مسعدة بن صدقة التي ذكرت في كتب عديدة، ففي الوسائل: ح 4 – محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن علي بن إبراهيم (ثقة) عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال، سمعته يقول: كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك [1] عندك لعله حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة.

ورواه الشيخ باسناده عن علي بن إبراهيم. [2]

من حيث السند: موثقة، الرواية مشهورة ومقبولة، ومعمول بها عند الأصوليين، بالرغم من وجود كلام في مسعدة بن صدقة.

ومن حيث الدلالة: اكثر الأمثلة في الرواية على الموضوعات، ولا شك في شمولها للشبهة الموضوعية، واختلف في شمولها للشبهة الحكمية، فذهب بعضهم إلى دلالتها على أصل البراءة كالشيخ الآخوند (ره) صاحب الكفاية، ولم يستدل بها آخرون كالشيخ الأعظم الانصاري (ره) بكتابه "فرائد الأصول" "الرسائل". فأن كلامنا في أصل البراءة في الشبهة الحكمية بعد الفحص ولم نجد دليلا وكان سبب الخفاء هو الناس.

وللتذكير ولفت النظر: الكلام في أصل البراءة الشرعية في الشبهات الحكمية، أي نشك في الحكم، في الالزام وعدمه، في الوجوب أو الحرمة، ويكون منشأ الشك هو عدم الدليل أو اجمال الدليل أو تعارض الدليلين، أي ما عند الناس وليس من عند الله عز وجل.

أما إذا كان منشأ الشك هو الموضوع، أي في الشبهة الموضوعية، فلا دخل لأصل البراءة، بل المعتمد حينئذ هو القواعد العامّة المعتمدة المثبتة للموضوعات. مثلا: قاعدة "سوق المسلمين" الواردة عن الامام الصادق (ع) التي يبنا فيها على الطهارة والحليّة، أو قاعدة "اليد" فهذه موضوع، وهذه قواعد لإثبات الموضوعات لا علاقة لها بأصل البراءة

أصل البراءة هو في الشبهات الحكمية دون الموضوعيّة، وما كان بعد الفحص دون ما كان قبل الفحص، وما كان بسبب الناس، لإجمال الدليل وعدم وضوحه، أو لتعارض الدليلين، او لعدم وصول الدليل، إلى اخره.

فليس الحكم بالحلية في الحديث لأجل البراءة الشرعية التي هي محل الكلام، بل يكون بتنقيح المنشأ. وهذا ما سنبيّنه في فقه الحديث الآتي.

هنا: ثلاثة أمور يجب تنقيحها وملاحظتها فان الأمثلة كلها في الشبهات الموضوعية. فإذا كانت الأمثلة كلها من باب الموضوع فان ذلك يوجد الشك في شمول "كل شيء لك حلال" بإطلاقها للشبهة الحكمية والموضوعية، حينئذ يكون الشك في الاطلاق، ومع الشك في الاطلاق لا ظهور في الاطلاق، فلا يمكن الاخذ به، المهم عندي في البحث عن اثبات البراءة هو ان يكون" كل شيء لك حلال" مطلقة تشمل الحكمية والموضوعية، وهذه المسألة من فروع معنى الاطلاق هل هو من باب اصالة عدم القرينة أو من باب أصل الظهور الذي هو أمر وجودي.

فإذا كان أمرا وجوديا فيجب أن أثبت الاطلاق، فبمجرد وجود أمر يمنع الرواية من الظهور في الاطلاق، ينتفي الاطلاق، حينئذ آخذ بالقدر المتيقن الموجود في الحديث: "كل شيء لك حلال"، وهو خصوص الشبهة الموضوعية.

الأول: إن الأمثلة كلها في من باب الشبهات الموضوعية.

ثانيا: المراد من كلمة " البيّنة" هل هو البينة الاصطلاحية الفقهية مثل شاهدين عدلين، أو انها بالمعنى اللغوي أي كل ما يبيّن.

ثالثا: ما المراد من كلمة "بعينه" هل المراد التشخيص أو التأكيد. إذا كان التأكيد فتكون شاملة للشبهتين، أما في التشخيص تكون الشبهة موضوعيّة.

أما الأمثلة: "فالثوب يكون عليك قد اشتريته ولعلّه سرقه" فالشك نشأ من نفس موضوع الشراء وهو الثوب، فأشك في كون البائع مالكا شرعيا أو سارقا، فيحكم بصحة الشراء وحليّته لك بقاعدة اليد، أي أمارة يد البائع ملكيته، فيصبح الثوب حلالا. فحلية الثوب ليست مستندة إلى أصل البراءة أو الحلية، بل إلى قاعدة اليد التي نعتمد عليها في تنقيح الموضوعات.

كذلك في العبد: "المملوك لا يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ..."، فإنه انتقل إليك من البائع، وظاهر البائع كونه مالكا للعبد لقاعدة اليد.

وكذا في: " المرأة تحتك ولعلّها اختك او رضيعتك" فان الحكم بحليّتها ناشيء من عدم ثبوت عنوان التحريم وهو الرضاعة أو النسب، وهما أمران حادثان يجري فيهما استصحاب عدم الحدوث، فالتحريم هو الذي يحتاج إلى دليل، موضوع التحريم هو الرضاعة والنسب، فإذا لم يثبت الموضوع فلا يثبت الحكم لأن الاحكام تابعة لعناوينها، أصبحت المسألة مسألة موضوعات، فمنشأ حليّة المرأة التي هي تحتك ليس أصل البراءة والحلّ، بل هو استصحاب العدم الأزلي.

وجميع الأمثلة في الرواية كانت في الشبهات الموضوعيّة، تنقيح للموضوعات، من هنا ذهب بعضهم إلى عدم دلالة الرواية على الاباحة والبراءة في الشبهات الحكمية.

قد يقال: إن لفظ "كل شيء لك حلال" عام ويبقى على اطلاقه.


[1] ذكرنا سابقا أسباب الرّق، والاشكال على الاسلام كيف يقر بالعبودية. الرّق غالبا يأتي من اسرى الحرب، ومن تجار الافرنجة من الغزوات بين الشعوب، لذلك فهو قانون تربوي إسلامي، يأتون إلى بلاد المسلمين، ويتعلمون، ولذا ظهر من الرقيق قادة وفقهاء وعلماء. وهذا القانون خير من قانون قتل الاسرى، او سجنهم إلى الأبد.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo