< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

45/11/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية، البراءة.

 

     الأدلة على البراءة الشرعية.

     استدل: بالآيات والروايات والاجماع.

     قوله تعالى: ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾

     تقريب الاستدلال.

     الايراد الأول على دلالتها على البراءة: انها خاصة بالماضين بقرينة "كنا" وهي مفعل ماض. جوابه ان هذا التعبير كناية عن نفي اللياقة.

     الايراد الثاني: المراد منها خصوص المال، وجوابه ان اطلاق يشمل المال والقوة والقدرة العقلية والنفسيّة والجسدية والتكليف، فيكون التكليف متعلقا بالجامع.

 

استدل على البراءة الشرعية بثلاثة أمور: بالقرآن، والروايات، والاجماع.

ونحن ندرس الأدلة حتى نفهم الثمرات والفروع الكثيرة والمهمّة، وخصوصا حديث "الرفع"، لأنني إذا أردت أن اعرف حكم الفروع يفترض أن أرجع إلى أصل الدليل. لذا كان لا بد من استعراض الادلّة، فالبحث له ثمرة: اصل الدليل والبحث في الفروع.

الدليل الأول الآيات: فمن الآيات:

قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾[1] قالوا أنها تدل على أن الله تعالى لا يعذّب حتى يبعث الرسول، وليس الرسول (ص) إلا كمثال لبيان الحكم، فهو كناية عن بيان الأحكام، والرسول احد تطبيقات هذا البيان ووصولها إليهم لإتمام الحجة عليهم، فتدل الآية الشريفة على نفي العقاب بمخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلّف. فإذا لم يصل التكليف فهو ليس بيانا.

وردت إشكالات كثيرة على الاستدلال بالآية ستجاوز بعضها وسنذكر ايرادين:

الأول: أن الآية مختصّة بالماضين، فلا تعنينا نحن المتأخرين، بدليل التعبير بقوله: "ما كنا" بصيغة الماضي.

وفيه: أن هذا التعبير في اللغة العربية يدّل على نفي الشأنية واللياقة، فلا يناسبه صدوره منه جلّ شأنه، فهذا التعبير ليس تعبيرا عن المضي، بل على ما ذكرنا، لاحظ بعض الاستعمالات القرآنية: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [2] و ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [3] و ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [4]

فالظاهر من آية نفي التعذيب هو أن ليس من صفات الله ولياقته وشأنه أن يعذّب بالتكليف غير الواصل، لا بالعذاب الدنيوي ولا بالعذاب الأخروي.

الايراد الثاني: إن الآية ظاهرة في نفي فعليّة التعذيب بالمعنى المنطقي وهي التحقق، لا نفي استحقاقه، وما ينفعنا في مسألتنا هو نفي الاستحقاق، أي أن أصل البراءة معناه نفي استحقاق العقاب للمكلف لرفع اثر الحكم، فلا نهي فلا معنى للاحتياط فلا استحقاق للعقاب.

وفيه: هل من لياقة وشأن الله أن يجعل المكلّف مستحقا للعقاب على ما لا يعلم وما لم ينذر به؟!

إننا نعلم أن العقاب على ذلك ظلم، فلا يستحقه العبد في هذه الحالة.

ومن الآيات التي استدل بها على البراءة: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ [5]

مورد النزول: هناك رواية عن الشعبي تراجع في كتب التفاسير.

وتقريب الاستدلال بالآية أن اسم الموصول "ما"، إما أن يراد به المال أو القوة الجسدية أو التكليف أو القوة العقليّة، أو الجامع.

الأول هو المال وهو القدر المتيقن، لأنه مورد الآية حيث أمرت بالنفقة، ولكن لا موجب للاقتصار على المتيقّن، فالمورد لا يخصص الوارد، فأصالة الاطلاق تأتي عند الشك في شمول الحكم لغير القدر المتيقن، فـ "ما آتاها" تشمل المال وغيره والقدر المتيقن هو المال، فإذا لم يكن هناك اطلاق نقتصر على القدر المتيقن، اما مع وجود الاطلاق ننظر للفظ ماذا يقول، فاحمل اللفظ حينئذ على اطلاقه حتى لو كان هناك قدر متيقن، إلا في حالة واحدة ذكرها صاحب الكفاية الشيخ الآخوند (ره) وهو القدر المتيقن في مقام التخاطب، الذي هو دليل على عدم الظهور في الاطلاق ويمنع مقدمات الحكمة من اقتضاء الاطلاق، مثلا: إذا قلت اتني بلحم، وانا اعلم انك لا تأكل إلا لحم الغنم، فهذا قدر متيقن في مقام التخاطب، فهذا المقام يمنع مقدمات الحكمة من تأثير أثرها فلا اطلاق.

نحن قلنا ان هذا وحده لا يكفي واشكلنا على صاحب الكفاية (ره) بأن مقام التخاطب إذا أدى إلى انصراف فلا اطلاق. اما إذا لم يؤد إلى انصراف لماذا يكون مقيدا فيبقى المطلق على اطلاقه.

للتذكير: انسباق المعنى من اللفظ على أنواع، تارة يكون انصرافا، وتارة يكون تبادرا، وكلاهما انسباق.

والانصراف تارة من كثرة الوجود، وتارة لكثرة الاستعمال، لكن ليس لكثرة الوجود بما هو، فكثرة الوجود وحدها لا تؤدي إلى انصراف، ولا كثرة الاستعمال بذاته تؤدي إلى انصراف، بل حصول التصاق في الذهن بين اللفظ وبعض افراده بحيث عندما اتكلّم لا ينسق للذهن إلا هذا المعنى الخاص. فالانصراف هو انسباق الكلّي لبعض افراده اما لكثرة الوجود واما لكثرة الاستعمال، وهذه وحدها لا تكفي لذلك ذكرنا مثالا من الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً﴾ [6] قالوا في معنى الولادة انها التي تكون عن حمل، قلنا ان هذا المعنى هو القدر المتيقن وهو أكثر استعمالا وأكثر وجودا، بل سابقا لم يكن إلا هو، لكن هذا لا يؤدي إلى التقييد بالحمل والولادة، بل تبقى الولادة على معناها الاصلي الذي هو كل ما كان نتاجا تكوينيا طبيعيا. لذلك قلنا ان الوالد يسمى والدا مع انه لا يحمل ولا يلد، والتسمية صحيحة حقيقية من دون أي مجازات، لذا نقول ان الآية مطلقة تشمل كل ولادة، لذلك حتى الولادة عن غير حمل تسمى ولادة شرط ان تكون العلاقة تكوينيّة حقيقية وليس مجرد اعتبار كالظهار.

نعود للآية نعم القدر المتيقن هو المال، لكن لا نقتصر عليه لانه لا يؤدي إلى انصراف الذهن إلى خصوصه ومع عدم الانصراف إليه نتمسك بالإطلاق لإثبات الاحتمال الأخير وهو الجامع بينها، وهذا هو الفرق بين الدليل اللبي والدليل اللفظي. فيكون معنى الآية الكريمة أن الله لا يكلّف مالا إلا بقدر ما رزق وأعطى، ولا يكلّف بفعل إلا في حدود ما أقدر عليه من أفعال، ولا يكلّف بتكليف إلا إذا كان قد آتاه واوصله إلى المكلّف، فالإيتاء بالنسبة إلى كل من المال والقدرة البدنية والعقلية والتكليف بحسب ما يناسبه، فينتج أن الله تعالى لا يجعل المكلّف مسؤولا تجاه تكليف غير واصل، وهو المطلوب.

وبعبارة أخرى: كما في "فوائد الأصول" وهو تقريرات بحث النائيني (ره): لا يكلّف الله نفسا إلا بتكليف واصل إلى المكلّف، وفي حالة الشك لا يكون التكليف واصلا فلا تكليف. [7]

وقد يشكل على هذا الاستدلال بعدم الجامع بين المال والقدرة والفعل والتكليف، فإن المال من مقولة الملك، والقدرة والفعل من مقولة الفعل.

ونذكر بالبيت الشعري الجامع أمثلة المقولات العشر، ولو كنت شخصيا لا اتحمس للفلسفة اليونانية:

الجوهر والاعراض التسعة:

زيد الطويل الأزرق ابن مالك في بيته بالأمس كان متكي

بيده غصن لواه فالتوى فهذه عشر مقولات سوى

المشكلة هو ان نطبق الفلسفة اليونانية وهي ليست من البديهيات، على الفقه والأصول، ففي تطبيقها وقعت المشاكل، اصبحنا أحيانا نؤول الآيات على طبقها.

من خصائص هذه المقولات انها متعددة وانه ليس هناك جامع مشترك بينها، مقولة الفعل شيء ومقولة الملك شيء آخر.

والجواب: وجود الجامع وإن كان عرضيا بينها بالوصف وهو المؤثر، وهذا يكفي في تعليق الأحكام عليه ولا ضرورة لوجود جامع من أصل الماهيّة، والشارع جعل الحكم معلّقا على الوصف. فيمكن ان تكون الآية دليلا على اصل البراءة.

لكن الانصاف عدم دلالة الآية على أصل البراءة لأمرين: نكمل غدا ان شاء الله.

 


[7] فرائد الاصول، الميرزا النائيني، ج3، ص331.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo