< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

45/10/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية.

     هل الوضعيّة مجعولة بذاتها أو منتزعة من أحكام تكليفية؟.

     هل أصل الطهارة يرجع إلى اصالة البراءة؟

     قيل: الميزان هو في رجوعها للأحكام التكليفية.

     هل الأحكام الوضعية مجعولة استقلالا، ام منتزعة من الأحكام التكليفية؟

     الرأي المختار: هي مجعولة استقلالا بداعي تنظيم الأحكام التكليفية، ولا مانع من كونها أحيانا منتزعة من الأحكام التكليفية في مقام الاستكشاف.

 

ذكر المحقق الكرباسي (ره) أن أصالة العدم يمكن ارجاعها إلى الاستصحاب، وقلنا هذا صحيح وسلمنا معه.

وذكر أيضا أن أصالة الطهارة يمكن ارجاعها إلى أصل البراءة، أي عدم التكليف وعدم التنجيز، عدم النجاسة توجد الطهارة بحسب الآثار، لو قلنا بان الطهارة احكام وضعيّة منتزعة من الاحكام التكليفية.

ولبيان الحال نقول: هناك كلام في الاحكام الوضعية، هل هي مجعولة بذاتها أو منتزعة من الاحكام التكليفيّة؟.

قلنا ان الحكم الوضعي هو انشاء وضع ما يكون مصبا للتكاليف والاحكام، مثل: "الزوجيّة"، " الأخوّة"، فإن نفس الزوجية والاخوّة كمفهوم ليس فيها لا دفع ولا زجر، أي ليس فيهما تكليف، نعم، إذا صرت أخا أو زوجا وجدت التكاليف وآثار، كالنفقة وجواز النظر والوطء في الزوجية.

وقع الكلام في أن الأحكام الوضعيّة مجعولة بذاتها أو منتزعة من أحكام تكليفية؟ مثلا: "ما وقع فيه الدم لا تتوضأ به"، لا تتوضأ به حكم تكليفي زجر ونهي، انتزع منه ان الماء الملتقي بالدم صار نجسا.

وكونه نجس بذاته، النجاسة ليست حكما تكليفيا، بل هي وضع معيّن له احكام كعدم جواز الشرب والاكل، وعدم جواز الصلاة فيه، وعدم جواز بيعه، وغيرها من الاحكام.

الاحكام الوضعيّة يمكن ان تكون مجعولة، ولا مانع من ان يكشف عن جعلها الاحكام التكليفية، أي لها وجود اعتباري خاص بها، وهذا يختلف عن كونها مجرّد انتزاع من الحكم التكليفي.

البشر لديهم أحكام كثيرة متنافرة كجواز النظر إلى بعض النساء ووطئها وغير ذلك، جعلوا وضعا معينا لينظموا هذه الأحكام، بعبارة أخرى: الاحكام الوضعيّة تنظيم للمجتمع، فالداعي للوضعية وجود الأحكام التي تحتاج للضبط، ليس هناك حكيم ينشأ وضعيات بلا احكام، الوضعيات انما نجعلها ونصنعها لأجل الاحكام المتناثرة المحتاجة للتنظيم.

من هنا نشأت الشبهة، فذهب الشيخ الانصاري (ره) إلى أن الاحكام الوضعية منتزعة من الاحكام التكليفية، كلام لا نؤيده فيه دائما، نعم أحيانا.

بعبارة أخرى: العقلاء لا يريدون جعل وضعيات للمجرد كونها وضعيات، وليس هناك عاقل ولا رشيد ولا حكيم يفعل ذلك لعدم اثرها بما هي، حيث لا فيها بما هي هي دفع ولا زجر، نعم انما جعلوا الوضعيات بسبب وجود الاحكام التكليفيّة الواجبة والمحرّمة. فلكي ينظموا العلاقة مع النساء انشأوا وضعا سموه الزوجيّة ولأجل العلاقات الاجتماعية انشأوا اخوّة أو ملكيّة، أو جزئية أو مانعيّة، وغيرها من الاحكام الوضعية. مثال على الجزئية المنتزعة من التكليفيات: الركوع جزء من الصلاة، لا توجد لدينا رواية بان الركوع جزء من الصلاة، بل يوجد بان الصلاة ركوع وسجود وغيرها من الأجزاء. من هذه الرواية انتزع منها ان الركوع جزء. أصبحت المسألة انتزاعية.

ذكرنا سابقا ان الوجودات على أربعة أنواع: قسمان متأصلان هما: الجوهر والعرض، وقسمان غير متأصلين هما: الانتزاعي والاعتباري. اما الانتزاعي فهو ما يحتاج إلى أمر خارجي منشأ انتزاع، انتزع منه شيئا، من قبيل "الفوقيّة" التي هي أمر ذهني ليس موجودا في الخارج، منشأ انتزاعها موجود في الواقع الخارجي.

والاعتبار هو ما ليس له منشأ انتزاع في الخارج، نعم يحتاج إلى سبب للاعتبار، لذلك هو خفيف المؤونة تصنع ما تشاء. مثلا: الملكيّة التي ليس لها لا وجود ولا منشأ انتزاع في الخارج، الموجود في الخارج هو العقد على البيع أو الشراء فتتحقق الملكية. في الاعتبار هناك فرق بين منشأ الانتزاع وبين السبب. الملكية سببها البيع وليس لها منشأ انتزاع.

ففي هذا المسألة نقول ان الحكم الوضعي يمكن ان يكون مجعولا بذاته لتنظيم حياة البشر، ويمكن ان يكون منتزعا، نعم هو عرش ثم نقش من باب الحاجة للتنظيم وليس من باب الزمان.

نعود لكلام الكرباسي(ره): إن أصالة الطهارة يمكن ارجاعها إلى أصل البراءة أيضا لكن بحسب الآثار. لو قلنا بان الطهارة حكم وضعي تنصب عليه احكام، كجواز شربه او بيعه وغير ذلك، الجواز حكم تكليفي ونفس الطهارة وضع وله احكام، وعبّر بالوضع بدل الحكم الوضعي لتوضيح الفكرة.

لو قلنا بان الطهارة احكام وضعيّة منتزعة من الاحكام التكليفيّة، أو قلنا بان النجاسة عين الحكم التكليفي، أي ان نفس مفهوم النجاسة هو نفس مفهوم لا تشرب منه وغيرها، وهو وجوب الاجتناب. (فيمكن ارجاع اصل الطهارة إلى اصل البراءة).

لكن لا يخفى انه يمكن منع ذلك حيث انه تجري لإحراز الشرط وموضوع التكليف، فالاجتناب له موضوع، وهناك فرق بين موضوع التكليف والنجاسة، الحكم الوضعي ينظم الاجتناب وغيره. وليس ذلك شأن البراءة، فرق شاسع بين البراءة والطهارة، وهذا الفرق نؤيّده.

لبيان التأييد: ذكرنا سابقا ان الحكم التكليفي دفع وزجر، والحكم الوضعي ما كان فيه انشاء موضوع، هيئة تكون مصبا لأحكام تكليفيّة، ونلاحظ ان هذا التفريق منشؤه جذر الأمور، والغاية منه تنظيم الاحكام التكليفيّة، وهذا لا يمنع كون بعضها منتزعة من الاحكام التكليفيّة، من باب اكتشاف الحكم المجعول، هناك جعل للوضع، ولا دليل على انه منتزع وان الله لم يجعله. فلا اشكال ان يجعل الشارع هيئة ويجعل لها احكام.

هل هذا الجعل هو عبارة عن كشف للمجعول؟ أو ان المجعول ليس له جعل أساسا كما ذهب اليه الشيخ الانصاري (ره) الذي يقول انه ليس هناك احكام وضعيّة لان الغاية هي وجود الاحكام التكليفية. نعم الاحكام التكليفية انتزع منها حكما وضعيا كالجزئية والشرطية لان هذا الانتزاع من باب الاستدلال على وجودها. فالنجاسة حكم وضعي اخترعه الشارع يكون مصبا لأحكام تكليفية، فالانتزاع لا يمنع من جعله كما ذهب اليه الشيخ الانصاري (ره).

إذن: النجاسة حكم وضعي اخترعه الشارع يكون مصبا لأحكام تكليفية، كعدم جواز أكلبه وشربه، وعدم جواز لبسه في الصلاة والطواف، وعدم جواز بيعه في بعض الحالات، وغير ذلك.

ويتضح من هذا البيان أن النجاسة والطهارة حكمان وضعيان، ولا يرجعان إلى أصل البراءة التي هي نفي للتكليف، وبهذا يتضح أيضا ما قيل أن النجاسة ليست عين آثرها، وليست أيضا من الأمور الواقعية التي كشفت عنها الروايات، فيكون الشك فيها من قبيل الشك في الشبهات المصداقية، ولا إشكال في خروج القواعد الجارية في إحراز حكم الشبهة في الموضوع عن المسائل الاصوليّة لعدم وقوع النتيجة في طريق استنباط الحكم الكلّي الذي هو ملاك المسألة الأصولية، بل هو مجرد تطبيق.

نقد القول بان النجاسة والطهارة من الأمور الواقعية:

نقول: الفرق بين العلّة والملاك وفرق بين ان يكون هو عينه. فلا نقول ان النجاسة هي عين المفسدة الخارجية، النجاسة حكم وضعي اقتضت المفسدة الخارجيّة.

قلنا ان مراحل الحكم هي: مرحلة اقتضاء ومرحلة انشاء ومرحلة فعليّة، ومرحلة التنجيز. ورأيَنا ان هناك مرحلة واحدة وهي الانشاء، والاقتضاء ليس مرحلة من مراحل الحكم، نعم هو لا بد منه، هناك مقتضي يقتضي انشاء حكم، فرق بين المقتضي والمقتضى، الانشاء مقتضَى للمقتضي، وهو انشاء الحكم.

فالأمور الواقعية صحيحة، وقلنا دائما ان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد، لكن المصلحة والمفسدة شيء والحكم شيء آخر. فالنجاسة حكم وضعي لا بد فيه من مفسدة وهي المقتضي، لكن المفسدة شيء النجاسة شيء آخر.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo