< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

45/04/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: القياس.

     مفهوم الموافقة واقسامه.

     الفرق بين الملاك والمناط.

     الكلام في القياس مظنون العلّة.

 

القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسدّ الذرائع:

نظرة سريعة على ما عند أبناء العامة وخصوصا الأحناف لان أبا حنيفة على ما هو المعروف عنه: "لم يثبت عنده من حديث رسول الله سوى سبعة عشر حديثا فعملت بالقياس" [1] ، ومن العمل بالقياس عملوا بالاستحسان وسدّ الذرائع والمصالح المرسلة، وغيرها.

ولا باس أن نلقي نظرة سريعة على القياس لان بعضها حجّة، والجيد ان نعرف ما عند أبناء العامّة ونعرف ادلّتهم لأننا كطلبة وأهل علم نهتم بهكذا مسألة وخصوصا ان العامّة كانوا رياديين في هذا العلم.

القياس:

أشرنا عنه في بحث المفاهيم، من حيث مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة.

اما تعريف القياس: عند وجود موضوع مجهول الحكم اقيسه على موضوع آخر معلوم حكمه واسحب حكمه لموضوع الأول لاشتراكهما في العلّة.

بتعبير آخر: هو اثبات حكم لموضوع معلوم (المقيس عليه) على موضوع آخر معلوم (المقيس) لاشتراكهما في العلّة (تسمى الجامع).

مثلا: الخمر حرام، الموضوع معلوم وهو الخمر وحكمه حرام، لكن الافيون والحشيشة أو بعض المسكرات الأخرى لا اعلم حرمتها، فاسحب حكم الخمر وأجريه عليها، فالأول اسمه (المقيس عليه) والثاني (المقاس) والعمليّة هي القياس، والسبب اشتراكهما في العلّة.

للوهلة الأولى القياس منطقي جدا ولا اشكال، لان العلّة كلما وجدت وجد المعلول.

وقد ذكرنا الفرق بين الملاك والمناط ونشير إلى الفرق.

العلّة تارة تكون في مقام الثبوت والواقع وتارة في مقام الاثبات. وقلنا ان هناك مشكلة في المصطلحات، اكثر المصطلحات من الوضع التعيني لا الوضع التعييني وهذا نادر في الأصول.

ونحن لتنظيم المصطلح والفرق ميّزنا بين الملاك والمناط.

الملاك: هو المصلحة الواقعيّة المنظور فيها للواقع، أي ما يدور الحكم وجودا وعدما مداره في عالم الثبوت والواقع.

والمناط: ما يدور الحكم وجودا وعدما مداره في مقام الاثبات، البرهان والدليل.

فلنلتزم بهذا التعريف.

هذه العلّة وهي الاسكار في علّة تحريم الخمر التي بسببها أقول كلما وجدت العلّة يصبح كل مسكر حرام.

وهذه العلّة إما أن تكون منصوصة، أو انها ظاهرة، أو ان المناط واحد في عالم الاثبات، أو لا خصوصيّة لموضوع الحكم، وهذه الأقسام كلها من باب مفهوم الموافقة، وهو معتبر عند الجميع ولا إشكال فيه.

فالعلّة اما ان تكون منصوصة نتبع النص. واما ان تكون ظاهرة أي ظهور الحال أو اللفظ بانها علّة. او المناط واحد وهو ما يدور الامر وجودا وعدما مداره في عالم الاثبات، مثلا من قبيل إعطاء الطالب دينار إذا جاء يوم، فإذا جاء يومين اعطه دينارين وفي اليوم الثالث ثلاثة دنانير وكذا في اليوم الرابع اعطه أربعة دنانير مباشرة يخطر ببالك ان المسألة عدديّة كلما زاد العدد زاد العطاء. هذا ظهور وليس نصا. وسنتعرض لرواية أبان ورفض الامام (ع) لهذه البعض العلّة الظاهرة وتوجيهها.

او لا خصوصيّة لموضوع الحكم مثلا إذا وقعت نقطة دم على اليد كيف اطهرها؟ فإذا وقعت على الرجل هل هناك خصوصية لليد دون الرجل. هذا نسميّه اسقاط الخصوصيّة. مثالا أخر: "العلم فريضة على كل مسلم" هل العلم لا يكون فريضة على المسلمة؟ فلا خصوصية في الحديث للرجولة. ومثال: الرجل الشاك في ركعات الصلاة حيث نعلم انه لا خصوصيّة للرجولة فيشمل الحكم النساء.

فمع القول بإسقاط الخصوصيّة يكون الذكر أو الانثى بحكم واحد.

ذكرنا مفهوم الموافقة وهو أن الحكمين يتفقان وله اشكال: تارة مفهوم الاولويّة كما في قوله تعالى: " ولا تقل لهما أف" أي الأولى ان لا تضربهما، وتارة يكون المفهوم إذا كان المناط واحدا، واخر بإسقاط الخصوصية فاجري الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

هذا المفهوم يقابله مفهوم المخالفة مثلا في الشرط تأتي بحكم مخالف، مثلا: "في الغنم السائمة زكاة" السوم هو العلّة، وبناء على ان الوصف علّة يكون في الإبل السائمة زكاة أيضا وفي غيرها المعلوفة لا زكاة فيها.

بعضهم قد لا يفرّق بين مفهوم الأولوية ومفهوم الوافقة، وهذا غير صحيح لان مفهوم الموافقة نفس الحكم وقد لا يكون هناك اولويّة، فلا يكون الحكم لأجل الاولويّة دائما فهناك أمور أخرى بمفهوم الموافقة كوحدة الملاك والمناط واسقاط الخصوصيّة. وهذه الأقسام كلّها من باب مفهوم الموافقة وهو معتبر عند الجميع أبناء الخاصّة والعامّة ولا اشكال فيه.

وإما أن تكون العلّة مظنونة لكن بغير ظن معتبر، وهذا هو القياس الذي اختلف عليه المسلمون. الأصل عدم حجيّته، لأن الظن لا يغني من الحق شيئا، إذن لا بد في حجيّته من دليل.

ومما استدلّوا به على حجيّة القياس مظنون العلّة:

القرآن الكريم بآيات منها:

قوله تعالى في سورة الحشر: ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾ بناء على تفسير الاعتبار بالعبرة والمجاوزة، والقياس عبور ومجاوزة من الأصل إلى الفرع، وهذا مطلق يشمل عبور الحكم من شيء إلى شيء آخر.

وفيه:
إن الاعتبار هو الاتعاظ لغة، وهو الأنسب بمعنى الآية الواردة في الذين كفروا من أهل الكتاب. والاتعاظ لا يتمّ إلا بالمعلوم، وهو مورد الآية، ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾[2] وهذا معلوم لا مظنون، والكلام في العلّة المظنونة.

قال ابن حزم في كتابه "ابطال القياس" ص 30 وهو يرد على القياس: "ومحال أن يقول لنا "فاعتبروا يا اولي الابصار" ويريد القياس، ثم لا يبيّن لنا في القرآن ولا في الحديث أي شيء نقيس؟ ولا متى نقيس؟ ولا على أي شيء نقيس؟ ولو وجدنا ذلك لوجب أن نقيس ما أمرنا بقياسه حيث أمرنا، وحرّم علينا أن نقيس ما لا نص فيه جملة، ولا نتعدى حدوده". [3]

نقد كلام ابن حزم: إنه يمكن أن يقال له: إطلاق القياس كاف ولكن يمكن أن نجيب: إنه أمر بالقياس، ولكن في خصوص المعلوم العلّة لا في مظنونها.

ومن الآيات قوله تعالى: في سورة يس: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾یس79[4] فالقرآن استدل بالقياس لافحام من ينكر إحياء العظام وهي رميم، ولولا أن القياس حجّة لما صحّ الاستدلال فيها.

وقد أجيب على ذلك بأجوبة، لكننا نرى أن الجواب هو كالجواب عن سابقتها، فإن العلّة معلومة لا مظنونة، لان العلّة هي عدم عجز الله تعالى، وهي في المقيس أقوى من المقيس عليه.

وقد استدلوا أيضا بآيات أخرى مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ﴾مائ95[5] و ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [6] والتشبث بمثل هذه الآيات لا يعدو أن يكون من باب تشبث الغريق بالطحلب. ام كما يقولون في اللهجة العامّة عندنا تمسك الغريق بحبل الهوا. ونكرر ان كلامنا في العلّة المظنونة.

هذا الدليل من كتاب الله اما الدليل من السنة يأتي غدا ان شاء الله.


[1] قاله ابن خلدون في مقدمة تاريخه من أن أبا حنيفة لتشدده في شروط الصحة لم يصح عنده إلاّ سبعة عشر حديثاً. " لم يذكر عمله بالقياس". ويقول محمد جواد مغنية في كتاب الشيعة في الميزان، الصفحة ٨٠: ولكن أبا حنيفة لم يثبت عنده من أحاديث الرسول إلا سبعة عشر حديثا، لأنه لا يقبل الحديث إلا إذا رواه جماعة عن جماعة، أو اتفق فقهاء الأمصار على العمل به، أو رواه صحابي، ولم يخالفه فيه أحد. وهذا التشدد في الحديث أدى به إلى تضييق العمل بالسنة، أو طرحها بالنتيجة، والتوسع في العمل بالرأي، سواء أكان الرأي قياسا أم استحسانا أم مصالح مرسلة. " ومن الأمور الظاهرة في فقه أبي حنيفة الحيل الشرعية، وقد أصبحت فيما بعد بابا واسعا من أبواب الفقه في مذهب أبي حنيفة وغيره من المذاهب، وإن كانت في مذهب أبي حنيفة أظهر .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo