< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

43/11/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الهلال:

     سرد القرائن التي تدلّ على ان الرؤية مأخوذة على نحو الطريقيّة.

     الجواب على القول الأول وهو كون بداية الشهر من حين التولّد.

     القول الثاني وهو كون بداية الشهر هو الرؤية الفعليّة الشخصية، والجواب عليه.

 

نعود للكلام في الرأي الأول وهو بداية الشهر القمري، وقلنا ان المسألة الرئيسية التي ينبغي الكلام فيها ولم أجد لها عنوانا خاصا في الكتب الفقهيّة وهو متى يبدأ الشهر القمري.

قلنا ان هناك أقوالا واحتمالات: الأول: هو التولّد، وقبل ان نذكره ثم ننفيه هناك مقدّمات من جملتها ان هل للرؤية موضوعيّة أو لا؟

وقلنا ان هناك قرائن عامّة من قبيل بعض الالفاظ التي تذكر عادة مثل: " إذا عرفت ان زيدا عالم فاكرمه " المعرفة هنا ليست جزءا من الموضوع، المقصود منها ان علميّة زيد هي المرادة، فالمعرفة عبارة عن طريق وكاشف يقيني. وكذلك لفظ " إذا تبيّنت " وغيرها من الالفاظ كلها من القرائن الخاصّة.

ومن القرائن الخاصّة أيضا على عدم موضوعيّة الرؤية الفعليّة كفايّة البيّنة [1] ، فان الرؤية لو كان لها موضوعيّة لوجب تحققها بنفسها، ولا تكفي البيّنة على رؤية الهلال فتكون من قبيل قيام الامارة مقام العلم، وهذا يحتاج إلى دليل. وهذا يدل على ان الرؤية ليس لها موضوعية بذاتها. وإلا لزم تكلّف توسيع موضوع الحكم على نحو الحكومة، وهو وإن كان ممكنا إلا انه لا دليل عليه.

سنبيّن هذه القرينة: في الحديث في الوسائل: ج 1 - محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم (ثقة)، عن أبيه (ثقة)، وعن محمد بن يحيى (ثقة)، عن أحمد بن محمد (ثقة) جميعا، عن ابن أبي عمير (ثقة)، عن حماد بن عثمان (ثقة)، عن الحلبي (ثقة)، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنه سئل عن الأهلّة فقال: هي أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر. ورواه المفيد في (المقنعة) عن حماد بن عثمان مثله. [2]

من حيث السند: الرواية مستفيضة ومعتبرة.

ح 3- محمد بن الحسن (الطوسي) بإسناده عن عمرو بن عثمان، عن الفضل، وعن زيد الشحام جميعا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن الأهلة، فقال: هي أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر. الحديث. [3]

ح 9- محمد بن الحسن بإسناده عن القاسم عن أبان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هلال شهر رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، قال: لا تصم إلا أن تراه فان شهد أهل بلد آخر فاقضه. [4]

هذه الروايات ظاهرها الرؤية الفعليّة الشخصيّة وان للرؤية موضوعيّة، وذلك لظهور ضمير المخاطب (رأيته) في ذلك، ثم بعد ذلك وردت روايات كفاية البيّنة، أي عدم كونها من المكلّف نفسه، وهذا له ثلاثة احتمالات:

الاول: أن يكون جعلا جديدا. أي إذا انت رأيت الهلال فصم فهذا وجوب اول، وإذا رآه غيرك فصم وهذا وجوب آخر.

هذا الاحتمال موجود لكنّه مستبعد جدا لان بداية الشهر هي بداية للجميع، الحكم واحد والبداية واحدة.

الثاني: ان يكون على نحو الحكومة أي توسيع مفهوم الرؤية الشخصيّة ليشمل الآخرين أي الرؤية الفعليّة والبيّنة كما إذا رآه غيرك. [5]

وهذا الاحتمال أي الحكومة - وهي ان ينظر دليل إلى دليل آخر يوسعه أو يضيقه بلحاظ الحكم -، ممكن لكنّه تكلّف يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه، ولا اظن انه يوجد حكومة، لان المقصود من الرؤية ليس خصوص الهلال الذي يحتاج للبيّنة الخاصة، فهو ككل الشهادات والامارات. فالمراد عدم موضوعيّة العلم والرؤية والشهادة والمعرفة أو التبيّن، فإن الموضوع هو واقع الامور.

الثالث: ان تكون الرؤية مأخوذة على نحو الطريقيّة، أي هي طريق موصل إلى بداية الشهر القمري.

اما الأول فنقطع بعدمه، إذ اننا نعلم بعدم وجود جعلين.

واما الثاني فهو ممكن الا انه يحتاج إلى تكلّف لا دليل عليه.

اما الثالث فالظاهر ان الرؤية مأخوذة على نحو الطريقيّة لإثبات اول الشهر وكذا في كل البيّنات، مثلا: في البيّنة على ان فلان سارق فتقطع يده " موضوع وجوب قطع اليد هو نفس السرقة وليس البيّنة على السرقة. (ولذلك قالوا انه يحكم القاضي بعلمه).

ويؤيّد الاحتمال الثالث كثرة الادلّة الأخرى عليه.

ومن القرائن الخاصة على ان الرؤية طريق وليس لها موضوعيّة مضي ثلاثين يوما من شعبان ولو لم يَرَ أحد الهلال.

ح 11- محمد بن الحسن، عن الحسين بن سعيد (ثقة)، عن فضالة (بن أيوب ثقة)، عن سيف بن عميرة (ثقة وثقه الشيخ الطوسي)، عن إسحاق بن عمار (ثقة فطحي)، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: في كتاب علي عليه السلام صم لرؤيته وأفطر لرؤيته، وإياك والشك والظن، فان خفى عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين. [6]

من حيث الدلالة السند موثّق لوجود إسحاق بن عمار الفطحي، معتبر.

من حيث الدلالة: اما ان هناك جعل جديد أو حكومة وتوسيع الرؤية لثلاثين. أو ان الرؤية مأخوذة على نحو الطريقية. والظاهر من الرواية ان الرؤية ليس لها موضوعيّة بالذات بل هي طريق لإثبات بداية الشهر، ويأتي في الاحتمالات ما ذكرناه سابقا.

ومن القرائن ما ثبت من قضاء يوم الشك الذي أفطر فيه المكلّف بعدما لم يثبت الهلال عنده، وكذلك إذا ثبت أنه من رمضان عن طريق رؤية الهلال ليلة التاسع والعشرين من بداية صيامه، فيثبت رمضان.

وهذه أيضا تدل على ان الرؤية ليس لها موضوعية بل هي طريق.

ومن القرائن الخاصّة ما ورد من ثبوت الشهر بالعدد والحساب، على كلام في اعتبار ذلك كما سيأتي في وسائل الإثبات. وهذا يعني أيضا ان الرؤية ليس لها موضوعيّة، فتكون هذه الرواية إذا اسقطناها من المؤيدات.

المقدّمة الثانية: إن الشهر القمري المعتبر شرعا هو نفسه الشهر القمري المعتبر لغة [7] ، أي لا توجد حقيقة شرعيّة، بل هو حقيقة لغويّة، وقد بيّنا ذلك، ويدّل عليه النصوص ومنها قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [8] الظاهر في كون رمضان كان موجودا بلفظه ومعناه قبل الإسلام، كذلك تدل عليه أصالة عدم النقل [9] من المعنى لللغوي السابق زمانا إلى معنى شرعي خاص.

المقدّمة الثالثة: ذكر بعض الباحثين أن العرب أخذوا العلوم الفلكيّة من البابليين، وقد برَع البابليون في ذلك كثيرا، ولعلّ من أسباب البراعة الأنبياء [10] وقد أخذ منهم الشهور القمريّة، وقد كان البابليون يعتمدون السنة الشمسيّة، ولكنهم عندما يحسبون السنة القمريّة يحسبون الشهر من الولادة إلى الولادة.

بعد بيان هذه المقدمات يمكن الاستدلال على كون مبدأ الشهر القمري هو التولّد بأمور وسنرّدها جميعا:

الدليل الأول: بعدما ثبت أن الرؤية طريق محض إلى معرفة بداية الشهر، فينحصر الأمر بالتولد، لأن الفلكيين يعتمدون التولّد كمبدأ زمني للشهر القمري، وهم أهل لغة، وإذا كان لهم اصطلاح خاص فهو يحتاج إلى دليل، فتنحصر البداية في التولد.

وجوابه: إن احتمالات بداية الشهر لا تنحصر في التولد كما سنرى في الأقوال الأخرى.

الدليل الثاني: إن بداية الشهر عند العرب كانت من التولد، وقد اعتبرها الشارع كما هي، بناء على ان ما كان عرفا كان شرعا في الأمور اللغويّة إلا إذا تدخّل الشارع في الأجزاء والشرائط والأسباب أو غير ذلك من الاسقاطات على القاعدة التي اسسناها.

والجواب: هذا صحيح لو تمّ كون بداية الشهر عند العرب هو التولد، ولكن هذا غير تام، وإن ادّعاه بعض الباحثين كما ذكرنا سابقا حين طلبت من أهل الخبرة المساعدة على ذلك، وقد ادّعى بعضهم كالبروفسور يوسف مروّة (ره) من بلدة النبطيّة في جبل عامل، ان الشهر القمري عند العرب كان يبدأ بولادة الهلال، وأرسل إلىّ دراسة حول الموضوع، لكن هذه الدراسة عبارة عن تتبعات واستنتاجات لم أقتنع بها، ولم أجد فيه ما تطمئن له النفس بحيث يمكن ان يبنى عليه وتكون دليلا، والدراسة موجودة لديّ، وهي من حوالي ستين صفحة قطع A 4، وأنصح بقراءتها لتضمنها لفوائد عديدة.

لذلك لم يثبت عندنا ان الشهر القمري عند الجاهليين يبدأ من التولّد كما ادعاه بعض الباحثين.

الدليل الثالث: استصحاب ما كان عند العرب وهو بدء الحساب من حين الولادة.

والجواب: الاستصحاب صحيح لان موضوع الحكم شرعي، ولكن الاشكال في ثبوت الموضوع، أي لم يثبت أن أول الشهر القمري هو الولادة عندهم.

ملاحظة: إن التاريخ الإسلامي كمؤرخين إسلاميين قد كتب بناء على أول الشهر القمري هو الرؤية، وهذا يطمئن على ان للرؤية نوع من الموضوعيّة، ولو كانت البداية غير ذلكم لأثر في كتابة التاريخ.

القول الثاني: وهو أن بداية الشهر هي من حين الرؤية الفعليّة بالعين المجرّدة، وهو المشهور.

ويمكن الاستدلال عليه بظاهر الروايات الكثيرة المستفيضة، بل المتواترة عند جميع المسلمين، وبعضها يحصر البداية بالرؤية، بالمنطوق والمفهوم.

وظاهر الروايات هو تحقق الرؤية بالعين المجرّدة، بل أن ظاهرها هو موضوعيّة الرؤية، أي أن الرؤية جزء موضوع وليست مجرّد كاشف وطريق لثبوت أول الشهر.

 

نذكر منها: ما في الوسائل: صحيحة الحلبي التي ذكرناها سابقا: ح1- محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنه سئل عن الأهلة فقال: هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر. ورواه المفيد في (المقنعة) عن حماد بن عثمان مثله. [11]

من حيث السند صحيحة.

من حيث الدلالة: هذه الرواية تدل بمفهوم الشرط على عدم وجوب الصوم قبل الرؤية الفعلية بالعين المجردة وكذا الإفطار.

فها هنا عنوانان:

عنوان الرؤية وظاهرها منصرف إلى العين المجرّدة.

وعنوان الهلال، وهو اول ظهور للقمر في افق السماء وليس القمر ككوكب لو لم يكن هناك مانع، وقد سمّي هلالا لأن الناس كانوا عندما يرونه بالعين المجرّدة يهللون ويكبرون، هكذا قال بعض اللغويون، أو أن هلّ بمعنى ظهر وبان.

 


[1] توضيح: إذا قامت البيّنة فهل تقوم مقام العلم لو اخذ العلم في موضوع الحكم؟.
[3] المصدر السابق.
[4] المصدر السابق.
[5] تذكير بمعنى الحكومة: وهو ان ينظر دليل إلى دليل آخر يوسعه أو يضيقه بلحاظ الحكم، مثلا: قلت: " يجب في الصلاة ان تكون على طهارة " ثم قلت: " الطواف صلاة " هنا وسعت مفهوم الصلاة ليشمل الطواف.
[7] ملاحظة: ما يقال ان المقصود هو الشهر القمري هو الشهر الشرعي فيه تسامح، فشهر رمضان هو نفسه ما كان في الجاهلية ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ وليس حقيقة شرعيّة.
[9] اصالة عدم النقل ليست استصحاب القهقرى واصالة عدم النقل امارة، اما استصحاب القهقرى فأصل عملي وشتان ما بينهما. وانما اعتبروا هذا الاستصحاب لقولهم ان العقلاء على ذلك، هذا يعني انه امارة عقلائية خاصة بالألفاظ وليست من باب الاستصحاب.
[10] الذي علّم الناس الخياطة هو النبي ادريس (ع)، والذي علمّ الناس الحديد النبي داوود (ع) وغيرهم من الانبياء، والامام الصادق (ع) علّم الناس الكيمياء.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo