< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

34/04/30

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: استحباب استئذان البالغة الرشيدة أباها
 كان الكلام في ولاية الأب على البالغة في عقد النكاح، وفصلنا الكلام في من له الولاية.
 بعد أن اخترنا عدم الولاية للأب مطلقا، وفصلنا بين المالكة أمرها فلا ولاية، وبين غيرها فله الولاية شراكة معها، فإذا كانت مالكة لأمرها هل يستحب للبالغة أن تستأذن أباها؟
  يمكن الاستدلال بأربعة أمور:
  ذكر عن جماعة الاستحباب، واستدل له في الرياض (ره) بأمرين:
  الأول: الأخبار التي سبق ذكرها مثلا: " لا يستأمرها أحد إلا الأب " " ولا تزوجوا ذوات الابكار إلا بإذن آبائهن " وغيرها من الروايات.
  الثاني: أن الأب في الأغلب أنظر لها ولمصلحتها ولمن يناسبها، بل في بعض الروايات النص على ذلك، ففي الوسائل ج 14 ب 3 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ح 6، عن حميد بن زياد عن الحسن بن محمد بن سماعة عن جعفر بن سماعة عن فضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (ع) قال: لا تستأمر الجارية التي بين أبويها [1] إذا أراد أن يزوجها هو أنظر لها، وأما الثيب فإنها تستأذن وإن كانت بين أبويها إذا أرادا أن يزوجاها ".
  ويمكن أن يُستدَل بدليلين:
  اولا: عموم بر الوالدين الشامل لأخذ إذنهم في الزواج، أو حرمة عقوق الوالدين وعدم الاستئذان من العقوق.
  ثانيا: عموم استحباب أخذ المشاورة والنصيحة كما في الحديث: " من شاور الرجال شاركهم في عقولهم ".
  وفي جميع هذه الادلة نظر:
  أما الدليل الأول: وهو الروايات فقد بيَّنا كونها مخصَّصة [2] بأدلة استقلال المالكة أمرها في الولاية على نفسها، فلا تصلح دليلا على الاستحباب.
  وأما الدليل الثاني: وهو كون الأب أنظر لمصلحتها. فهذا ينحل إلى قضيتين، كبرى وصغرى.
  الكبرى: كل من هو أنظر لمصلحتها صار وليا [3] ، أو استحب استئذانه.
  والصغرى: الأب أنظر لمصلحة البنت.
  أما الكبرى: فالظاهر من الرواية هو أن مناط [4] استئذان الأب هو كونه " أنظر لها "، فيكون " أنظر لها " هو ما يدور الحكم وجودا وعدما مداره في مقام الاثبات. وهذا لا يمكن الالتزام بعمومه، أي لا يمكن الالتزام باستحباب استئذان كل من هو " أنظر "، فلا بد أن يكون التفضيل في " أنظر " تفضيلا إضافيا بلحاظ البنت نفسها وليس مطلقا. وبهذا تنتفي الكبرى ويكون التعليل لخصوص الأب.
  وأما الصغرى: فغير مسلّمة دائما، فلا يمكن إثبات الاستحباب مطلقا وجعله قاعدة عامة.
 نعم هل نستطيع أن نستنبط من هذه الرواية قاعدة: أن " الأب أنظر لمصلحتها " فتكون القضية من المحمول والموضوع، وموضوع الابوة موضوع لحكم " أنظر لمصلحتها ". فإذا كانت الرواية إرشادية فتحمل على الاغلب، أما إذا كانت تأسيسية، أي أنه عند الشك نرجع اليها. فإذا شككنا هل نستطيع الرجوع لهذه الرواية كقاعدة. بعبارة أخرى: هذا العام " كل أب هو انظر لمصلحة ابنته ". هل هو مأخوذ على نحو الاغلب فيكون إرشاديا أو على نحو تأسيس القاعدة؟ [5] فعند الشك نرجع إلى هذا العام
 وعليه عند الشك في كون " الأب أنظر "، يمكن أن يقال: إن الرواية تشمل بعمومها حالة الشك، هذا الكلام يحتاج إلى جعل الرواية قد أخذت على نحو ضرب القاعدة. ولا أستظهر ذلك، بل استظهر أن الرواية إرشادية وردت مورد الأغلب، وعليه لا تكون دليلا عند الشك.
  أما الدليل الثالث: الذي يمكن الاستدلال به وهو كون الاستئذان من مصاديق برِّ الوالدين وعدم استئذانهما عقوق.
 هناك ثلاثة عناوين:
  أولا: برُّ الوالدين وهو مطلوب. ثانيا: عقوق الوالدين وهو محرم من الكبائر. ثالثا: طاعة الوالدين.
  أما الطاعة: فهل يجب إطاعة الوالدين في كل شيء؟ فهل يجوز له مخالفتهما؟ سنتحدث عنها في مسألة أحكام الاولاد. وملخص الكلام فيها: لم يثبت عندنا في مسألة الطاعة أكثر من قوله تعالى: " وصاحبهما في الدنيا معروفا ". وهذه المسألة ليست مسألة طاعة الوالدين،لم يأمرا بالزواج حتى يجب الطاعة، فهي خارجة تخصصا.
  بقي امران: البر والعقوق. العقوق محرم بلا شك، لكن الزواج من دون استئذانهما هل هو من العقوق او لا؟ قم هل هو من البر أن استأذن او لا؟
  البرّ: وهو مطلوب بلا شك وهناك نوعان: برٌّ واجب وبرٌّ مستحب.
  وملخص بعض الروايات في برّ الوالدين: ورد عن النبي (ص): " أفضل العمل الصلاة على ميقاتها ثم بر الوالدين ثم أن يسلم الناس من لسانك " [6] .
  هذه الرواية جمعت بين المستحب " الصلاة على ميقاتها " وبين " برِّ الوالدين " الذي هو امر واجب. وقلنا سابقا هل نستطيع عندما ترد عدّة أمور بنص واحد، بعضها واجب وبعضها مستحب أو بعضها محرم والآخر مكروه، كيف أحملها؟ هل نحملها على مطلق الطلب؟ قالوا: أنه يصبح من باب استعمال الصيغة في أكثر من معنى، أو يحمل الجميع على الاستحباب؟ أو تحمل كل واحدة بحسب القرائن؟
  قلنا: إنه تحمل على مطلق الطلب ولا مانع من أن يكون هناك قرينة على احدها.
  في رواية أخرى تظهر أن البر فريضة واجبة عن الامام علي (ع) " بر الوالدين أكبر فريضة ". يمكن استعمال " الفريضة " في الواجب والمستحب، مع أن ظاهرها الواجب إلا ان يقوم الدليل على خلاف
 ذلك. وفي رواية الامام الصادق (ع) " بر الوالدين واجب ".
 والذي يمكن الاستدلال به:
  اولا: أنه لو تمَّ كون الاستئذان من برِّ الوالدين الواجب لوجب وحرم تركه لأن الترك عقوق.
  ثانيا: لو تمَّ ذلك لشمل استئذان الأب والأم والجد والجدّة، ولشمل البالغ والبالغة أي الذكر والأنثى، ولشمل الثيب والبكر.
  فالمهم الكلام في الصغرى، فهل الاستئذان من البرّ الواجب؟ قد يقال هو من افراد البرّ المستحب.
  ولا شك أن إدارة الظَهرِ للوالدين خصوصا في مسألة كالزواج التي تتعلق بهما قهرا، كالمصاهرة والنسب وغيرها من الاحكام، وليس فيهما تأدب ورحمة لهما والله تعالى يقول :" وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيرا " وهذا الدليل قريب.
  وأما الدليل الرابع: " من شاور الرجال شاركها في عقولها " يدل على استحباب مطلق المشاركة.
  نقول: اولا: باب الاستئذان يختلف عن النصيحة.
  ثانيا: لو شمل ذلك فهو يشمل الثيب والبكر والمالكة أمرها وغير المالكة أمرها، نفس الكلام الذي ذكر في برّ الوالدين.
  تلخص: إنه يستحب للبكر الرشيدة الاستئذان إذا كان هذا الاستئذان من البرِّ وهو قريب جدا، والدليل الاول والثاني لصاحب الرياض (ره) لا دليل فيهما، والرابع، " المشاورة " لا دليل فيه أيضا.
 
 والحمد لله رب العالمين.


[1] ذكرنا في درس سابق أن معنى " بين أبويها " هي أن تكون تحت رعايتهما وفي حضانتهما، فلا قرار لها حينئذ ، وليست مالكة أمرها. وقلنا أن المالكة امرها هي التي امرها وقرارها بيدها تعمل وتسافر ساعة ما تشاء، وليست هي التي تنفق على نفسها فقط، وإن كان ذلك غالبا، فإذا استأذنت أباها فمن باب الآدب والتراحم والتواصل.وذكرنا أن الجارية تطلق على الحرة والامة، وهي من لها حالة الفتوة والشباب.
[2] قلنا أن طوائف الروايات في ولاية البنت على نفسها أربعة: بعضها يدل على استقلال الأب مطلقا، وبعضها على التفصيل بين المالكة أمرها فلها الولاية وبين غيرها، وبعضها في التشريك بينهما، وبعضها على استقلالها بالولاية على نفسها. وقلنا في مقام الجمع بين الروايات انها لم تحمل على الاستحباب، بل قلنا أن الروايات المفصلة بين المالكة أمرها وغير المالكة امرها هي التي جعلناها جامعا للروايات المتعارضة، ولم نذهب إلى احكام باب التعارض في المرجحات، وعند ذلك لا تدل هذه الروايات لى الاستحباب، بل هي مقدم على الروايات التي تقول بالولاية المستقلة للأب وحتى مع كراهتها " وإن كانت كارهة " فللأب أن يجبرها على الزواج "وروايات التشريك. وذكرنا انه إذا امكن أن نستظهر عدم التعارض والجمع يكون ذلك بابا لرفع التعارض.
[3] هنا عندما تصبح علّة أي ان هناك قضيتان كبرى وصغرى. الكبرى عموم العلّة العامة، والصغرى أن هذا مصداق للكبرى.
[4] الفرق بين المناط والملاك: أن الملاك هو المصلحة، ما يدور الحكم وجودا وعدما في مقام الثبوت. والمناط ما يدور الحكم وجودا وعدما في مقام الإثبات والبرهان. وفصلنا ذلك في درس سابق.
[5] تذكير: هناك قول عند ابناء العامة ، ابن قدامة في المغني ج 9 ص 54: " أو تزوج مشرقي بمغربية ثم مضت ستة أشهر واتت بولد " قال أبو حنيفة يلحقه نسبه لان الولد انما يلحقه بالعقد ومدة الحمل. هذا الحكم للوهلة الاولى غير منطقي ابدا، لكن بعد التأمل نرى أن له وجه، ولكنه ضعيف جدا يدل على قلّة الفقاهة، وذلك لان قوله (ص) " الولد للفراش "، فأخذ من قوله (ص) انه بمجرد العقد الشرعي رآها أو لم يرها فالولد للفراش. نقول: أن موضوع الرواية الزوجة الشرعية، وهي مأخوذة على نحو ضرب القاعدة، وليست مأخوذة على نحو الموضوعية أي بمجرد أن صار زوجا والذي وهو كناية عن الفراش اصبح موضوعا للحكم. فيستحب استئذانه.
[6] هناك رواية في المقام موجودة في المكاسب ج1 ص 316 لفتت نظري كثيرا. ما روي عن النبي (ص) انه خطب يوما فقال : " إن الدرهم يصيب الرجل من الربا أعظم من ستة وثلاثين زنية " نلاحظ انه من السهل الاستغابة ونستعيذ بالله، كثير من المعلقين على هذه الرواية احتار في فهم كيف يكون الزنى اهون من الغيبة. نقول: إن الدافع إلى الزنى أمر داخلي حاجة انسان، نعم هي من الفواحش كبيرة ومحرم. لكن الدافع إلى الغيبة غالبا سوء آدب وان لا يسلم الناس من لسانه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo