47/04/26
بسم الله الرحمن الرحیم
الفرق بین الوجوب و الإجارة/التکسّب بالواجبات /المکاسب المحرّمة
الموضوع: المکاسب المحرّمة/التکسّب بالواجبات /الفرق بین الوجوب و الإجارة
خلاصة الجلسة الماضية: دار النقاش في علم الفقه حول مسألة «الأجرة على الواجبات»، أي أخذ العوض المالي مقابل أداء التكليف الشرعي الواجب. و قد تناول الحديث آراءَ الفقهاء المشهورين، لا سیّما الشيخ النائيني و الشيخ الأنصاري، ثمّ سنناقش الانتقاداتِ التي وجّهها بعض أعلام الفقه، و منهم صاحب العروة السيد كاظم اليزدي، و الإمام الخميني، و المحقق الخوئي، إلى نظريات الشيخ الأنصاري، مع بيان مواقع الإشكال و مناقشة وجوهها العلمية.
إشکال في الأجرة علی الواجبات
أحد الإشكالات الرئيسة التي أثارها صاحب العروة في حاشيته على المكاسب يتعلّق بالسؤال الآتي:
هل وجوب العمل الشرعي ـ كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ـ ينافي مع جواز الإجارة عليه و أخذ الأجرة في مقابله، أم لا؟
«إنّ مجرّد الطّلب الشّرعي لا يقتضي جواز إجباره عليه إلّا من باب الأمر بالمعروف مع وجود شرائطه بخلاف ما إذا صار ملكاً له فإنّ له حينئذٍ إجباره بملاحظة أنّه ماله و يكون هذا مختصّاً به و أمّا مع مجرّد الوجوب الشرعي فلا يختصّ الإجبار به بل لكلّ واحد من المكلّفين إجباره من باب الأمر بالمعروف و إن لم يكن ممّن يتعلّق به ذلك الفعل و يعود نفعه إليه فكونه أكلاً بالباطل ممنوع ثمّ إنّه يمكن أن يفرض كون من وجب عليه جاهلاً بالوجوب و حينئذٍ لا يتمّ ما ذكر و أيضاً يمكن أن يكون عاجزاً عن الإتيان إلّا مع أخذ الأجرة.»[1]
تُصوَّر حالتان لإنجاز الواجب عند تبیین ذاك الإشکال:
1. إنجاز الواجب: إذا قام الشخص نفسه بإنجاز الواجب، فلا معنى للإجارة حينئذٍ؛ لأنّ تحقق الواجب قد تمّ بشكل مستقل، و تكون عقد الإجارة تحصيلاً للحاصل.
2. ترك الواجب: إذا لم يقم الشخص بالواجب، فالواجب على الآخرين هو الأمر بالمعروف، لا استئجاره؛ و في هذه الحالة أيضاً، تصبح الإجارة بلا معنى.
الفرق بين الوجوب و الإجارة
قد اعتبر السيد الكاظم اليزدي هذا الاستدلال غير تام، حيث يرى أنّ الفرض المذكور، و هو إما أن يتم إنجاز الأمر الواجب أو يُكتفى بالأمر بالمعروف، ليس فرضاً كاملاً و شرحه هو:
الجهل أو عصيان المكلف: قد يكون الشخص جاهلاً بوجوب الفعل، أو عالماً به ممتنعاً عن أدائه. و في هذه الحالة، تكتسب الإجارة معنى؛ لأنه يمكن حملُه على أداء وظيفته بمقابل مالي.
نماذج فقهية: في حالات مثل تجهيز الميت أو القضاء أو الطبابة (بوصفها واجباً كفائياً)، قد يمتنع الأفراد عن القيام بها إذا لم تُدفع الأجرة؛ إلا أن دفع الأجرة يوفّر الدافع اللازم لتحقّق الواجب.
الإلزام القانوني في الإجارة: في حين أن الوجوب الشرعي يقتصر على الإلزام التكليفي، والأمر بالمعروف لا يتجاوز التذكير والنصيحة، فإنّ عقد الإجارة بطبيعته مُلزم. و في حالة التخلّف، يمكن إجبار المؤجَّر عبر المحاكم الشرعية أو القانونية على تنفيذ التزامه.
و بناءً على ذلك، فإنّ الوجوب الشرعي لا ينافي عقد الإجارة؛ لأنّ الوجوب هو إلزام شرعي، بينما الإجارة تُنشئ إلزاماً قانونيّاً و تنفيذيّاً.
نطاق المنفعة في الإجارة
أحد مباني الشيخ الأنصاري هو أنّ عقد الإجارة يجب أن يتضمّن منفعةً محلَّلةً عقلائيّةً للموجِر (المؤجِّر). و قد رأى المرحوم الشهيدي في حاشية المكاسب أنّ في هذا الشرط ضيقَ النظر و يقول:
«إنّه إن أريد من المجّانيّة أنّ الواجب المقهور عليه الأجير من غير جهة الإجارة لا يفي بغرض المستأجر و لا ينتفع به و لا يتعلّق به غرضه ففيه منع واضح ضرورة تعلّق غرض العقلاء بإتيان المكلّف مثل ابنه أو صديقه بل و غيره أيضاً بواجباته العينيّة و حصولها بإتيانه كالمريض يتعلّق غرضه ببيان الطّبيب للدّواء و كالمترافعين يتعلّق غرضهما بقطع القاضي للخصومة بينهما و ينتفعان بقضائه من دون فرق بين وجوبه عليه عينا أو كفاية و إن أريد أنّه و إن كان يفي بغرضه إلّا أنّه لا يكفي مجرّد ذلك في صحّة الإجارة بل لا بدّ فيها مضافا إلى ذلك من عدم مقهوريّته عليه شرعا و إن أريد التّنافي الذّاتي بين مملوكيّة فعل للّه تعالى المستكشف من المقهوريّة و بين أخذ العوض ففيه مع منع التّنافي بينهما ففيه أنّه عين المدّعى و الاستدلال عليه بالآية دوريّ لا يجوز و إن أريد أنّ الواجب المقهور عليه المكلّف يوجده المكلّف فيختلّ رابع شروط صحّة الإجارة الموجب لكون المعاملة سفهيّة ففيه أنّه خلاف الوجدان إذ قد يطيعه و يوجده و قد يعصيه و لا يوجده.»[2]
ليس ضرورياً أن تكون المنفعة ماديةً و محسوسةً حتماً؛ بل يكفي أن يترتّب على الإجارة غرض عقلاني و مشروع.
من أمثلة هذه المنافع:
• الداعي المعنوي للمستأجِر في تشجيع الغير على أداء الواجب.
• الاطمئنان الأكبر و الدقة المتزايدة في إنجاز العمل، كما يظهر في مثال الطبيب؛ فعلى الرغم من أنّ علاج المريض واجب كفائي على الطبيب، إلّا أنّ المريض يدفع الأجرة ليحصل على اطمئنان بأنّ الطبيب سيُجري العلاج بدقة و اهتمام أكبر.
وعليه، يمكن أن تكون المنفعة ماديةً أو معنويةً و يكفي هذا القدر لصحّة الإجارة.
الإلزام القانوني و التشجیع العملي
يرى المرحوم الإمام الخميني (قدس سره) أيضاً أنه لا يوجد إجبار في الوجوب الشرعي؛ و لذلك، يمكن أن تكون الإجارة وسيلةً لإلزام أو تشجیع للقيام بالواجب.
قال: «إنّ دليله الذي انتهى إليه بعد قوله: لأنّ و لأنّ، أخصّ من المدّعى، فإنّ مدّعاه عدم جواز أخذها في مطلق الواجبات الكذائيّة و دليله على عدم احترام عمله جواز استيفائه منه بلا توقف على طيب نفسه و قهرا عليه بدليل الأمر بالمعروف، مع أنّ دليل الأمر بالمعروف لا تكفي في مطلق الموارد، كما لو كان الواجب موسّعا سيّما مثل قضاء الفوائت و بعض صلوات الآيات، فلا يمكن الاستيفاء بلا طيب نفسه و لا يجوز إلزامه بإتيانه فلا بدّ في استيفاء المنفعة المطلوبة من عقد الإجارة.»[3]
في الواجبات الموسَّعة أو صلاة القضاء، قد يتوانى الفرد في أداء الواجب. فإذا قام المؤدِّي بالعمل بقصد القربة مقابل أخذ الأجرة، فإنّ هذه الإجارة لا تمنع صحّة العمل فحسب، بل یشجّع علی تنفیذ الواجب. و فيما يتعلّق بإشكاليّة أكل المال بالباطل المحتملة، يصرّح سماحته بأنه عندما يوجد غرض عقلائي و يتمّ التبادل المالي برضى الطرفين (تجارةً عن تراضٍ) فإن ذلك يخرج عن شمول أكل المال بالباطل.
«مضافا إلى أنّ ما كان مالا عند العقلاء و تكون المعاملة عليه عقلائية منسلكة في التجارة عن تراض، فلا بدّ في دعوى كون أخذ الأجر عليه من أكل المال بالباطل من دليل تعبديّ مسقط لماليّته أو لإضافته إلى مالكه حتى يصير بتحكيم ذلك الدليل خارجا عن موضوع الأوّل و داخلا في الثاني، أو دلّ دليل على عدم صحّة المعاملة كالإجارة الغرريّة و نحوها. و مجرد إيجاب الشارع و إمكان استيفاء المنفعة بغير عقد الإجارة لا يوجب سقوط الشيء عن المالية. كيف؟ و قد فرض إمكان استيفاء المنفعة العقلائية المقوّمة للماليّة لدى العقلاء بطريق آخر. فإمكانه بذلك لا يعقل أن يكون معدما لماليته و كثيرا ما يمكن استيفاء منفعة بلا عقد إجارة مثلاً و استنقاذ عين بلا عقد بيع.»[4]
شرطٌ واجبٌ في ضمن عقدٍ لازم
يؤكّد المرحوم المحقق الخوئي (قدس سره) على هذا المبنی بالاستناد إلى قاعدة الشرط في ضمن العقد اللازم، حیث قال:
«إنّ المقهورية على الفعل من قبل الشارع و كونه واجبا بأمره لا تنافي المقهورية عليه من قبل الإجارة أيضاً، فيكون لازم الامتثال من ناحيتين و هذا نظير شرط امتثال الواجب في ضمن العقد و تظهر الثمرة فيما إذا خالف الأجير عن أمر ربه و لم يمتثل الواجب و لم يمكن إجباره على الامتثال من ناحية الأمر بالمعروف، فإنه يجوز للمستأجر أن يجبره على الامتثال و لو بمراجعة المحاكم المختصة.»[5]
يضرب مثالاً: إذا اشترط ضمن عقد الزواج أن يصطحب الزوج زوجته إلى الحج الواجب، مع أنّ الحج واجب عليهما أصلاً، فإن الشرط المذكور صحيح و يُنشئ التزاماً شرعياً جديداً. و من هذا المثال، يتبيّن أنّ الالتزام الشرعي لا يمنع من نشوء التزام تعاقدي. وكذلك الحال في عقد الإجارة، إذ يُنشئ التزاماً فقهياً و قانونياً جديداً لا ينشئه الالتزام الشرعيّ وحده.