47/05/28
بسم الله الرحمن الرحیم
آیة235/سورة البقرة /تفسیر القرآن الکریم
الموضوع: تفسیر القرآن الکریم/سورة البقرة /آیة235
﴿وَ لا جُناحَ عَلَيْکُمْ فيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَکْنَنْتُمْ في أَنْفُسِکُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّکُمْ سَتَذْکُرُونَهُنَّ وَ لکِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّکاحِ حَتَّي يَبْلُغَ الْکِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في أَنْفُسِکُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَليمٌ﴾[1]
یجري الکلام في تفسير آية مائتين و خمسٍ و ثلاثین من سورة البقرة.
يقول الله تعالى في هذه الآية: ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَیْکُمْ فِیمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَکْنَنتُمْ فِی أَنْفُسِکُمْ…﴾ الکلام في الحكم الإلهيّ المتعلّق بالنساء المعتدّات من الوفاة؛ أي اللواتي توفّي أزواجهنّ و وجب عليهنّ أن يقضين مدّةً معيّنةً من العدّة.
المشكلة الاجتماعية: استعجال الرجال في خطبة المرأة التي في العدّة
إنّ الله تعالى يعلم أنّ الرجل إذا علم أنّ امرأةً أصبحت بلا زوج، تميل نفسه عادةً و تتعجّل في أن يجد سبيلاً إلى خطبتها أو التواصل معها؛ و هذه حالة طبيعيّة من غرائز الإنسان، غير أنّها قد تؤول إلى الإفراط و التصرّفات غير السليمة.
و لذلك یأمر الله- تعالی- في هذه الآية بأنّه إذا أراد أحدهم أن يُظهر رغبةً أثناء عدّة الوفاة، فذلك ليس حراماً، لكن يجب أن يكون بحذر و بأسلوبٍ غير صريح، أي بكنايةٍ و تلميح. فمثل هذا السلوك مألوف بين الناس، و لكنّ الله- تعالى- يريد أن تُراعى حدوده و ضوابطه.
التعريض و الكناية في إظهار الرغبة:
قال الله- تعالى: ﴿لا جُنَاحَ عَلَیْکُمْ فِیمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ أي لا إثم عليكم إن عبّرتم عن رغبتكم في الخطبة بطريقةٍ تلميحيّة.
و التعريض هو الكناية؛ أن يريد الإنسان أن يقول شيئاً لكنّه يعبّر عنه بأسلوبٍ غير مباشر، فيه حياءٌ و لطف. ﴿أَوْ أَکْنَنتُمْ فِی أَنْفُسِکُمْ﴾ أي حتّى لو كانت النية في القلب و لم تُظهر، فإنّ الله يعلمها.
﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّکُمْ سَتَذْکُرُونَهُنَّ﴾ أي إنّ الله يعلم أنّ بعض الرجال سيذكر النساء، و ربما يقوم بزيارات أو مساعدات تمهّد للمستقبل، و إن لم يُعبّر عن ذلك صراحةً، فالله مطّلع عليه.
الحدود الشرعية في العدّة:
۱. السماح بالمحادثة و لكن بقدرٍ محدود
قال تعالى: ﴿وَلَکِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أي لا تَعِدُوا مواعدَ جديّةً و خفيّةً بالزواج. و إن أراد أحد أن يتكلّم، أمره الله- تعالی بــ ﴿أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾ أي قولاً معروفاً مهذّباً، اجتماعيّاً، قابل لأن يُتکلّم به على الملأ، و على نحوٍ لا يستنكر الناس سماعه. فلا يجوز استخدام ألفاظٍ فاحشة أو خفيفة.
إذن، الخطبة الصريحة ممنوعة، و الوعد الجادّ ممنوع، و الكلام الخاصّ الذي يثير، ممنوع؛ أمّا الحديث المحترم و التلميح فمسموح.
۲. تحريم عقد النكاح بشكلٍ تامّ، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّکَاحِ حَتَّى یَبْلُغَ الْکِتَابُ أَجَلَهُ﴾ أي لا تُقدِموا على التفكير جدّياً أو عقد النيّة القاطعة على الزواج حتى تنتهي العدّة كاملاً.
ما هو سبب شدّة هذا الحكم؟ لأنّ الزواج أثناء العدّة، لا سيّما إذا كان عن علمٍ، يُسبّب حرمةً أبديّةً بين الطرفين.
علم الله- تعالی- بالنيّات:
يقول الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ یَعْلَمُ مَا فِی أَنْفُسِکُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾، أي إنّ الله يعلم ما في قلوبكم؛ أأنتم تسعون إلى معصيةٍ أو تضمرون نيّة سوء؟ فخافوا اللهَ و كونوا على حذرٍ. ثمّ يختم بقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِیمٌ﴾؛ أي إنّ الله، مع أنّ بعض الناس قد يقع في المعصية أحياناً، فهو غفورٌ رحيمٌ، حليمٌ لا يعجَل بالعقوبة.
الدروس الفقهية المتعلّقة بحكم العقد أثناء العدّة:
1. مواضع التحريم الأبدي:
إذا كان الرجل عالماً بالحكم الشرعي، و عالماً بأنّ المرأة في العدّة، ثمّ أجرى عقد الزواج معها، فإنّها تُحرَّم عليه حرمةً أبديّةً.
2. حالة الجهل بالحكم أو بالموضوع:
إذا كان الرجل جاهلاً بالحكم الشرعي أو لا يعلم أنّ المرأة في العدّة، و أجرى العقد فقط (دون المواقعة)، فلا يُصبح الزواج محرّماً أبداً، و يمكن بعد ذلك إعادة العقد الصحيح بعد انقضاء العدّة.
أمّا إذا كان جاهلاً، و أجرى العقد ثمّ واقع المرأة، فإنّ الحرمة الأبديّة تثبت عليهما.
النتيجة: ينبغي التحفّظ الشديد و مراعاة التقوى التامّة في هذا الباب.
حكمة النهي عن الخطبة الصريحة أثناء العدّة:
إنّ لهذا النهي عللاً و حِكماً واضحةً، منها:
• منع الفتنة و الفساد:
فلو دخل الرجال على النساء في العدّة بلا تحفّظ، قد لا يملكون أنفسهم.
• مراعاة الحالة النفسيّة للمرأة المفجوعة:
المرأة التي عاشت عشرين أو ثلاثين سنةً مع زوجها ثمّ فقدته، تكون في حالٍ من الحزن و الاضطراب، و الحديث معها بالهزل أو الكلمات غير اللائقة، أو الإلحاح في التقارب يُعدّ مخالفةً للأدب و الخلق الرفيع.
• توجيه الغرائز وجهةً صحيحةً:
الإسلام لا يقمع الغريزة الجنسية، بل يهذّبها و يقودها إلى الطريق الحلال.
• الوقاية من العلاقات المحرّمة:
فتح الباب بلا ضوابط قد ينتهي إلى الوقوع في المعصية الكبرى.
النقاط التربوية و الاجتماعية للآية:
١. الإسلام دين الفطرة: يعلم الإسلام أنّ الإنسان لديه غريزة، و يجب استخدامها في المسار الصحيح، لا بالإفراط و التفريط.
٢. هداية الشباب، لا قمعهم: يجب على المجتمع الإسلامي أن يسهّل سبيل الزواج الحلال، و يقوم بالتعليم، و يمنع «الزواج الأبيض» و العلاقات الحرام، و لكنّه لا يقمع الغريزة.
٣. مراعاة مقتضى الحال: يجب مراعاة ظروف المرأة الثكلى و الزمان و المكان و مشاعرها؛ فالسلوك الخفيف أو العاطفي غير مناسب في هذا الوقت.
٤. مراعاة الأدب و الاحترام و القول المعروف: يجب التعامل بوقار و أدب و تسلية و ذكر محاسن المتوفّى و الاحترام له.
٥. مراعاة التقوى الإلهية: على الإنسان أن يعلم أنّ الله حاضر و ناظر على أعماله في جميع الأحوال.
الخلاصة النهائية:
تعلِّمُنا آیة المأتین و الخمس و الثلاثین من سورة البقرة ما يلي:
يجب توجيه الغرائز الإنسانيّة في المسار الصحيح.
إظهار الرغبة في فترة عِدّة الوفاة جائز فقط بالتلميح و«القول المعروف».
الخطبة الصريحة و العقد في هذه الفترة محرّمان، و قد يوجبان الحرمة المؤبّدة.
من الضروري مراعاة التقوى و الأدب و الاحترام و ضبط المشاعر.
إنّ الله يعلم النوايا و ما في الخفاء، و هو غفور و حليم تجاه أخطاء الإنسان.