« قائمة الدروس
التفسیر الأستاذ محسن الفقیهی

47/04/29

بسم الله الرحمن الرحیم

آیة؛ مئتان و إثنان و ثلاثون/سورة البقرة /تفسیر القرآن الکریم

 

الموضوع: تفسیر القرآن الکریم/سورة البقرة /آیة؛ مئتان و إثنان و ثلاثون

 

﴿وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْکِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِکَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ کانَ مِنْکُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِکُمْ أَزْکي‌ لَکُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[1]

یدور الحدیث حول تفسیر آیة: المئتان و الإثنان و الثلاثون من سورة البقرة.

المقدّمة:

يُشير اللهُ- سبحانه و تعالى- في هذه الآية الكريمة، إلى مسألةٍ مهمّةٍ في العلاقات الأسريّة و الاجتماعيّة، و هي كيفية تصرّف الإنسان بعد وقوع الطلاق.

ذُكر في الآيات السابقة، أنّ الطلاق أمرٌ مبغوضٌ عند الله تعالى، و لكن إن وقع لأيّ سببٍ كان، فينبغي أن يُتعامَل معه وفق الضوابط الإلهيّة.

انقضاء العدّة و حريّة المرأة في الزّواج:

يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، أي إذا طلّقتم النساء و انتهت عدّتُهنّ، أصبحنَ حرائرَ فيما يفعلنَ.

ثمّ قال سبحانه: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، أي لا تمنعوهنّ من الزّواج بعد انقضاء العدّة. فقد كان في الجاهليّة يعدّ من الأعراف أن يمنع الرجلُ طليقته من الزّواج مرّةً أخرى، فجاء الإسلام فنهى عن هذا الفعل الجائر، و بيّن أنّ المرأة إذا انتهت عدّتُها أصبحت حرّةً في اختيار من تشاء للزّواج، سواء أكان زوجها الأوّل أم زوجاً جديداً، و لا يملك أحدٌ أن يحول بينها و بين حقّها المشروع.

دلالةُ تعبيرِ ﴿أَزْوَاجِهِنَّ﴾ في الآية:

جاء التعبيرُ بلفظةِ ﴿أَزْوَاجِهِنَّ﴾ في هذه الآية الكريمة، و قد يُثارُ تساؤلٌ: كيف استُخدم لفظُ «الأزواج» في حين أنَّ العقدَ لم يُنعقدْ بعد؟

و قد أجابَ المفسّرون بأنَّ المقصودَ بـ «الأزواج» هنا هو الزوجُ بالقوّة؛ أيْ أنّ عقدَ الزواج لم يتحقّقْ بعدُ، ولكنَّ نيّةَ الزواج قائمةٌ.

و يشيرُ هذا التعبيرُ إلى أمرين:

    1. جوازُ عودةِ المرأةِ إلى زوجِها الأوّلِ بعقدٍ جديد، فلا یکون هناك مانع

    2. أو إمكانيّةُ زواجِها بشخصٍ آخرَ. و في كلتا الحالتين، لا يحقُّ لأيِّ شخصٍ أن يمنعَها من ذلك.

إستقلال المرأة المطلّقة في اتخاذ القرار:

یقول الله- تعالی- في استدامة الآیة: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَیْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ﴾، و هذا يعني: عندما يقعُ التراضي و الاتّفاقُ بينَ الطرفينِ بالصفةِ الحسنةِ و المـُتعارَفِ عليها شرعاً و عرفاً.

ومن هذا التعبيرِ القرآنيِّ يُستنبطُ أنَّ رضا المرأةِ المـُطلّقةِ شرطٌ أساسيٌّ لصحّةِ زواجها، و لا يعودُ الأمرُ بحاجةٍ إلى إذنِ الأبِ أو الأمِّ. بينما يُشترطُ إذنُ الوليِّ في زواجِ البِكرِ، فإنَّ المرأةَ إذا صارت مُطلّقةً أو أرملةً، تكونُ ولايةُ التقريرِ في يدِها وحدها.

و عليه، فلا ينبغي للأبِ أو الأمِّ أو أيِّ قريبٍ التدخّلُ في قرارِها. فإذا كانت المرأةُ ذاتَ خبرةٍ في الحياةِ و أرادت الآن الزواجَ من شخصٍ ما، فلا يحقُّ للآخرينَ أن يمنعوها.

ذمُّ الثقافةِ الجاهليّةِ والتعصّباتِ العائليّة:

نرى أحياناً في مجتمعِنا، أنّ الأُسر و خاصّةً الوالدين و بناءً على التعصّبِ أو الحفاظِ على المظاهر، يقولون: «هذه الفتاةُ أو المرأةُ تزوّجت مرّةً واحدةً، فقد كفاها، و لا ينبغي لها أن تتزوّجَ ثانيةً». و هذا فكرٌ خاطئٌ و جاهليٌّ.

إنّ الله تعالى يقولُ في هذه الآية: إذا كنتم تؤمنون باللهِ و اليومِ الآخرِ، فدَعُوا المطلّقاتِ يتزوّجن. فهذا العمل هو ما يُؤدّي إلى طهارةِ المجتمعِ و سلامتِه. إنّ التعصّباتِ التي لا مبرّرَ لها و منعَ إعادةِ زواجِ المطلّقاتِ يؤدّي إلى الفسادِ الاجتماعيِّ و الأخلاقيِّ.

علاقة الزواج بطهارة المجتمع:

يقولُ اللهُ تعالى بعدَ ذلك: ﴿ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ﴾، يعني: إنّ هذا الفعلَ (أي السماحَ بالزواجِ) هو أكثرُ تزكيةً و نقاءً لكم.

توضيحُ ذلك أنّ إبقاءَ المرأةِ بلا زوجٍ يُمهّدُ الطريقَ للفسادِ في المجتمع. فعندما تكونُ النساءُ بلا أزواجٍ، يطمعُ فيهنّ الرجالُ، وقد تتعرّضُ النساءُ أنفسُهُنَّ للخطرِ الوقوعِ في الإثم. بالتالي، فإنّ جذورَ الكثيرِ من المفاسدِ الاجتماعيةِ و حتّى مسألةِ عدمِ الالتزامِ بالحجابِ، تكمنُ في إبقاءِ النساءِ بلا أزواج. فإذا أردتم مجتمعاً طاهراً و ذا حیاء، فيجبُ تيسيرُ أسبابِ الزواجِ و السماحُ للرجالِ و النساءِ العُزّابِ بالزواج.

واجبُ الأسرةِ و المجتمع:

على الأُسَرِ أن تسعى لتيسيرِ زواجِ النساءِ غيرِ المـُتزوّجاتِ و البناتِ العازباتِ. فهذه مسؤوليةٌ دينيّةٌ و اجتماعية. لا ينبغي السماحُ للمرأةِ أن تبقى بلا زوجٍ، لأنّ نتيجةَ ذلك هي انتشارُ الفسادِ. و يجبُ على أهلِ الخيرِ أن يُساهِموا في تيسيرِ الزواجِ عبرَ تخفيفِ المهورِ، و تبسيطِ جهازِ الزواجِ، و الاتجاهِ نحو حياةٍ ذاتِ تكلفةٍ مُنخفضةٍ. فعندما يسهلُ الزواجُ، يطهرُ المجتمعُ، و يصبحُ الأمرُ بالالتزامِ بالحجابِ و العفّةِ أكثرَ تأثيراً و إعمالاً.

الاستنباطُ الفقهيُّ من كلمةِ ﴿بالمعروف﴾:

استخدمَ اللهُ- تعالى- في هذه الآيةِ و الآياتِ المماثلةِ، تعبيرَ ﴿بالمعروفِ﴾ مراراً و تكراراً. و قد استنبطَ المفسّرونَ و الفقهاءُ من هذهِ الكلمةِ نقطةً مهمّةً:

﴿بالمعروفِ﴾؛ أي: ما تعارَفَ عليهِ الناسُ فيما بينهم، ما دامَ أنّ الشارعَ لم ينهَ عنهُ؛ بمعنى أنّ العاداتِ و التقاليدَ والأعرافَ المـُتعارَفةَ في المـُدن و البلدانِ، هي محلُّ تأييدِ الإسلامِ ما لم تُخالِفِ الشريعةَ.

و ببیان آخر:

في كلِّ أرضٍ و زمانٍ، توجدُ آدابٌ و رسومٌ خاصّةٌ. و الشّارعُ المقدّسُ في الإسلامِ أمضى و صدّقَ هذهِ المتعارفاتِ طالما لم تكن مُحرَّمةً (كـالرِّبا أو الظلم).

و عليه، فإنّ العُرفَ المتشرِّعَ و العُرفَ العقلائيَّ لهُ مكانةٌ في الفقهِ الإسلاميِّ، و يمكنُ أن يكونَ أساساً للحكمِ الشرعيِّ.

الحكمُ الفقهيُّ الثاني: استقلالُ المرأةِ المطلّقةِ في الزواج

يُستنبطُ من هذهِ الآيةِ الكريمةِ حكمٌ شرعيٌ آخرُ: المرأةُ التي طُلِّقتْ و انقضتْ عدّتُها، لا وليَّ لها بعدَ ذلك، و اختيارُ زواجِها يرجعُ إليها وحدها. لا يحقُّ لأحدٍ أن يفرضَ رأيهُ عليها. فالزواجُ القسريُّ قد يؤدّي إلى الخلافِ و الفسادِ، أمّا الزواجُ الذي يتمُّ برضا المرأةِ و اختيارِها، فهو سببٌ لـلصفاءِ و العفّةِ و السكينةِ في الحياةِ الزوجيّةِ.

الخلاصةُ و الاستنتاجاتُ:

    1. تأمرُ هذهِ الآيةُ بألّا يحقَّ لأحدٍ أن يمنعَ المرأةَ من الزواجِ بعدَ الطلاقِ و انتهاءِ العِدّةِ.

    2. رضا المرأةِ شرطٌ أساسيٌ للزواجِ، و في حالةِ المُطلّقةِ، لا حاجةَ لإذنِ الوليِّ.

    3. يجبُ نبذُ التعصّباتِ العائليّةِ و الثقافيّةِ الجاهليّةِ.

    4. إنّ طهارةَ وسلامةَ المجتمعِ مرهونةٌ بتيسيرِ أسبابِ الزواجِ و منعِ بقاءِ النساءِ و الرجالِ بلا زوجٍ.

    5. العُرفُ المتعارفُ بين الناسِ، ما دامَ لا يخالفُ الشريعةَ، هو محلُّ تأييدِ الشارعِ المُقدّسِ.

 


logo