« قائمة الدروس
التفسیر الأستاذ محسن الفقیهی

47/04/15

بسم الله الرحمن الرحیم

آیة المئتان و الثلاثون/سورة البقرة /تفسیر القرآن الکریم

 

الموضوع: تفسیر القرآن الکریم/سورة البقرة /آیة المئتان و الثلاثون

 

﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[1]

یجري النقاش حول تفسیر آیة مئتین و ثلاثین من سورة البقرة.

أحكام الطلاق الثالث و فلسفة تشريع المـُحَلِّل

قال الله- تعالی- في هذه الآية الشريفة، بعد أن طلّق الزوج زوجته طلقةً واحدةً و راجعها، ثمّ طلّقها طلقةً ثانيةً و رجعها مرّةً أخرى، فإذا طلّقها للمرة الثالثة، فإنه لا يحل له مراجعتها مرة أخرى ﴿حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، إلا أن يأتي المـُحَلِّل ليتزوّج بهذه المرأة. و عندما يتمّ هذا الزواج، و إذا طلق المـُحَلِّل بعد الزواج، حينئذٍ يمكن للزوج الأوّل أن يعقد عليها عقداً جديداً.

عود الضمير في الآية:

یوجد ضمیران في عبارة ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾. يعود الضمير «ها» إلى المرأة، و يعود ضمير الفاعل إلى الزوج الثاني (المـُحَلِّل)؛ أي إذا طلّقها الزوج الثاني، فلا حرج على الزوجين الأوّلين أن يعودا إلى بعضهما البعض ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾؛ بشرط أن يظنّا ظنّاً قویّاً أو یوقِنا بقدرتهما على إقامة حدود الله؛ أي رعاية حقوق بعضهما البعض.

شرط الزواج الدائم لا المؤقت:

ذكر المفسّرون أنّ المقصود بقوله- تعالى ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ هو الطلاق الثالث؛ لأنّه قد ورد في الآية السابقة قوله- تعالى ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْريحٌ بِإِحْسانٍ﴾، وهذا الـ ﴿تَسْريحٌ بِإِحْسانٍ﴾ هو الطلاق الثالث.

وعليه، فالمقصود هنا هو الزواج من المـُحَلِّل بعقد دائم، لا بعقد مؤقت؛ لأنّ تعبير «الطلاق» في القرآن الكريم خاصّ بالعقد الدائم. و قد ورد في الروايات أنّه إذا كان زواج المـُحَلِّل متعةً، فإنه غير صحيح و لا يؤثّر في حِلّ المرأة لزوجها الأوّل.

سُئل الأئمة عليهم السلام في الروايات: إذا تزوج المـُحَلِّل بالمرأة زواج متعة، هل يكفي ذلك؟ فقال الإمام: «لا، ليس بصحيح».

ثم سُئلوا: إذا تزوّجها زواجاً دائماً و لكن لم يقع الوطء، فماذا؟ فأجاب الإمام: «ليس بصحيح أيضاً، يجب أن يقع الدخول»[2] . وقد ورد في الروايات تعبير «عسيلتها»، أي يجب أن يقع الزواج الحقيقي و الكامل.

حكمة تشريع المـُحَلِّل و أهميّة التأمّل في الطلاق:

النقطة الموجودة في هذه الآية الشريفة هي أنّ الله- تعالى- قد وضع في أحكامه مصالح و مفاسد. و من جملتها في أحكام الطلاق، أنّه وُضِعت نوع من الموانع و القيود لكي لا يتّخذ الرجل قراره بعجلة و في حالة الغضب.

على سبيل المثال:

    1. يجب أن تكون المرأة طاهرةً من الحيض.

    2. يجب أن يحضر مجلس الطلاق شاهدا عدل.

هذه الموانع هي لكي يهدأ الرجل قليلًا عند الغضب، و يفكّر، و ربما يتراجع عن قراره. لأنّ الطلاق أمر جسيم جدّاً، و قد وردت روايات متعدّدة في ذمّه. حتّى أنّه ورد في الروايات أنّ المرأة في فترة عدّة الطلاق الرجعي تتزيّن و تجمّل نفسها لكي يُشجَّع الزوج على الرجوع، و لكي لا تتفكّك الأسرة.

فلسفة وجود المـُحَلِّل:

أحد الموانع التي وضعها الله- تعالى- هي مسألة المـُحَلِّل. هذا الشرط هو لكي يتعامل الرجل بمزيد من الدقّة و التأمّل و ألّا يصدر الطلاق الثالث بتسرّع؛ لأنّه إذا فعل ذلك، فإنّه لن يكون له طريق للرجوع حتّى تتزوّج تلك المرأة برجل آخر و يقوم هو أيضاً بتطليقها.

هذه المسألة هي في الواقع نوع من الردع و التحذير لكي يتجنّب الرجال إساءة استخدام حقّ الطلاق، و أن يتصرّفوا بحكمة في القرارات الأسريّة.

لقد أعطى الله الرجل خيار الطلاق، و لكنّه في المقابل وضع موانع لكي لا يُساء استخدام هذه السلطة. الهدف هو أن تبقى الرابطة الأسريّة متينةً، و ألّا ينشأ اليأس من الحياة، و أن يُحفظ أمل الإصلاح و استمرار المعيشة.

مراعاة الحدود الإلهية في الحياة المشتركة:

في ختام الآية يقول- تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾؛ أي إنّ هذه هي حدود و قوانين إلهيّة يبيّنها الله لأهل العلم و العارفين. و المقصود هو أنّ الأحكام الإلهيّة لها مصالح عميقة لا يدركها كلّ أحد، بل أهل العلم و الفكر و البصيرة هم من يفهمون ما يكمن وراء هذه الأحكام من الخيرات و المصالح.

فالأحكام الإلهيّة كالصلاة و الزكاة و الخمس و الحج، كلّها من حدود الله، و كما أنّ رعايتها واجبة، فإنّ رعاية حقوق الزوج و الزوجة في الأسرة تُعدُّ أيضاً جزءاً من هذه الحدود الإلهيّة.

بناءً على ذلك، يجب أن تكون الرابطة الأسريّة محكّمةً و قويّةً، و ألّا تنحلّ بهذه السهولة. و رعاية حقوق الزوجة، و المحبة، و الوفاء، و حسن المعاشرة، هي من مصاديق إقامة حدود الله في الأسرة.

الخلاصة:

إنّ الأحكام الإلهيّة المتعلّقة بالطلاق و المـُحَلِّل لم تُشرَّع من أجل التضييق، بل من أجل إحداث التأمّل و الحفاظ على كيان الأسرة و منع القرارات المتسرّعة. يجب على الرجل أن يتصرّف بمسؤوليّة و تدبير و عدل في استخدام حقّ الطلاق، و أن يعلم أنّ الله- تعالى- قدّر حقوق المرأة بأهميّة تماثل سائر العبادات.

 


logo