« قائمة الدروس
التفسیر الأستاذ محسن الفقیهی

46/08/06

بسم الله الرحمن الرحیم

آية التاسعةعشر بعد المأتين/سورة البقرة /تفسیر القرآن

 

الموضوع: تفسیر القرآن/سورة البقرة /آية التاسعةعشر بعد المأتين

﴿يَسْئَلُونَکَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فيهِما إِثْمٌ کَبيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَکْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَکَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ کَذلِکَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَکُمُ الْآياتِ لَعَلَّکُمْ تَتَفَکَّرُونَ﴾[1]

یکون الکلام في تفسیر آیة التاسعةعشر بعد المأتین من سورة البقرة. يقول الله- تعالى- لنبيّه (صلّى الله عليه و آله): ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما﴾؛ أي للخمر و المیسر منافع احتماليّة و أضرار کذلك و لکن أضرارهما الاحتمالیّة أکثر من منافعهما. على الرغم من أنّ هاتين الظاهرتين قد تحتويان على بعض المنافع المحدودة للناس، إلا أنّ ضررهما و إثمهما أكبر بكثير.

معنی العفو:

﴿وَ يَسْئَلُونَکَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ ثمّ في استدامة الآیة سأل الناسُ النبيَّ (صلّی الله علیه و آله) عن الإنفاق و یجب علیه إرشادهم فیه ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾؛ قل لهم يا نبيّ الله إنّه يجب عليهم أن ینظروا إلی أنفسهم كيف ينفقون. إحدى معاني «العفو» هي السهولة و التساهل؛ أي یجب علی الإنسان في تعامله مع الآخرين و في مختلف أمور الحياة اجتنابُ التشدّد في غیر موضعه. هذا يعني وجوب تعامل الإنسان و مواجهته للآخرین بلطف و تساهل، سواء في الأسرة أو في المجتمع.

هناك معنى آخر للعفو هو تجنّب الإفراط و التفريط؛ أي لا یکن الإنسان بخيلاً لدرجة أنّه لا ينفق شيئاً و لا یکن سخيّاً جدّاً لدرجة أنه يعطي كلّ ماله و لا يترك شيئاً لنفسه. في الواقع، يجب أن يكون الإنفاق معتدلاً و متوازناً.

أمّا المعنى الآخر الذي قد يكون أنفذ في القلب، فهو التسامح. التسامح في الحياة خاصّةً في التعامل مع الآخرين، هو من صفات المتديّنين و العلماء. في العلاقات الاجتماعيّة و الأُسريّة، يجب على الإنسان أن يكون قادراً على العفو عن أخطاء الآخرين و عدم التعامل بخشونة. إحدى علامات المتديّن هي أنّه يسامح بسهولة عن تقصير الآخرين و لا يتصرّف بعصبيّة أو قسوة. التسامح في جميع الأمور سواء في الأسرة أو في المجتمع، يُعدّ من سمات العادل و العالم.

تُعلِّم الآية الشريفة الناسَ أنّه يجب التعامل مع القضايا الأخلاقيّة و الاجتماعيّة بعدل و توازن. لا تؤدّي المواجهات العنيفة و الحادّة إلى نتائج إيجابيّة، بل قد تزيد من تعقيد المشكلات. ليس من الضروريّ دائماً التعامل مع الناس بقسوة شديدة، بل أحياناً يكون من الضروريّ توجيههم بلين و تدبیر و هدایتهم بالتدريج نحو الصواب.

﴿کَذلِکَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَکُمُ الْآياتِ لَعَلَّکُمْ تَتَفَکَّرُونَ﴾ و قد ورد في الروایات: «تَفَکّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً»[2] .

حرمة الخمر:

الخمر تعني الستر، و الخمار هو ما يُلقی على الرأس ليحفظه. يُسمّی الخمر خمراً لأنّه يُغطّي عقل الإنسان و يُوقفه عن العمل. عندما يشرب الإنسان الخمر، يتوقّف عقله عن العمل و هذا محرّم.

أمّا عن الخمر و الميسر فقد قال الله- تعالى- إنّه بالرغم من أنّ لهما بعض المنافع المحدودة لبعض الأشخاص، إلّا أن ضررهما و ذنبهما أكبر بكثير. الخمر و الميسر يُزیلان عقل الإنسان و يُسبّبان مشاكل كثيرةً للفرد و المجتمع. في البداية لم يكن الخمر محرّماً، و لكن أصبح محرماً في القرآن و السنّة النبويّة بالتدریج. في البداية، نصح الله الناس بالاجتناب عن الخمر أثناء الصلاة حیث قال: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُکاری﴾[3] ثمّ بعد ذلك، بدأ يُظهر تأثيرهما السلبيّ تدريجياّ حتى يتخلّى الناس عن هذه العادة السيّئة شیئاً فشیئاً. و بعد فترة نزلت الآية و هي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصَابُ وَ الْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [4] فصار الخمر محرّماً.

تُعلِّمنا هذه الآية أنّه لا يجوز عند المواجهة مع المشاكل و العادات الخاطئة لدى الناس أن نتوقّع أنّ التغييرات ستحدث بسرعة في ليلة واحدة. يجب أن نوجّههم خطوةً خطوةً مع مراعاة حالتهم. كما أنّ هذه الآية تدعونا إلى أن نكون واقعيّين و منصفين عند مواجهة القضايا و الظواهر الاجتماعيّة و أن نبیّن المنافع و الأضرار معاً.

في النهاية، تذكّرنا هذه الآية أن یجب أن یکون للعقل و المنطق دورٌ في قرارات الإنسان و سلوکیّاته و أنّ المعاصي مثل شرب الخمر و المقامرة، على الرغم من أنّها قد تحمل منافع مؤقّتةً، إلّا أنّها تجرّ وراءها ضرراً و ذنباً کثیراً على المدى الطويل. يجب التصرّف في هذه الأمور بإنصاف و دقّة.

بيان الواقعيّات في الإعلانات:

إذا أردنا الترويج لشيء، يجب أن نذكر الحقيقة. يجب أن نقول إن لهذه الظاهرة منافع و أضراراً. الإعلانات التي نراها عادةً في الفضاء المجازي، تكون من جانب واحد؛ أي یقتصرون على المدح و یکذبون إلی حدّ لا یصدّق الإنسان ما یقولون. إذا قمتَ بإعلان شيء يجب علیك أن تذکر المنافع و الأضرار معاً. و هذا هو السبب في أنّ الله قد حرّم الخمر و المیسر فإنّ في کلّ مسألة منافع معيّنةً لكن بوجه العموم يكون إثمها أكبر. في الواقع، يجب حساب الضرر مقابل الفائدة في كلّ قضية. و كذلك في القوانين و القرارات المختلفة، يجب أن تتمّ دراسة المنافع و الأضرار بشكل دقيق و في النهاية يتمّ اتخاذ القرار الذي يعود بأكبر فائدة على المجتمع.

في هذه الآية الكريمة، قد تمّ بيان القانون في حرمة الخمر خطوةً خطوةً. و هذا بحدّ ذاته سياسة تُظهر أنّه يجب تنفیذ التکالیف بشكل تدريجي. على سبيل المثال، إذا كنت مسؤولاً في إدارة مكانٍ ما، لا يمكنك تنفیذ جميع القوانين بصرامة منذ اليوم الأوّل، لأنّ ذلك قد يسبّب مشاكل كثيرةً. يجب أن تتقدّم الأمورُ بهدوء و تدبير. هذا درس من الدروس التي تعلّمناه من هذه الآية و هو أنّه لا یجوز للإنسان أن ینفّذ القوانين أو الإجرائیّات بشكل قاسيّ، بل يجب أن یكون هذا التنفیذ تدريجيّاً و بصبر حتّى يتعوّد الناس عليها و يفهموها.

دور التفكير في اتخاذ القرارات:

النقطة الثانية هي أنّ كلّ شيء قد تكون له فوائد و أضرار. و لذلك، يجب أن نهتمّ بالحسابات الدقيقة عند اتخاذ القرارات. على سبيل المثال، إذا كان من المقرّر جعلُ قانونٍ ما، يجب أن نلفت النظر إلی فوائده و أضراره. قد يبدو أنّ هناك فائدةً في بعض الإجرائیّات، لكن بوجه العموم قد تكون أضراره أكثر. في هذه الحالة يجب أن نتركه جانباً. هذه النقطة تذكّرنا أنه عندما نواجه مسائل مختلفةً، يجب أن نقيّم الفوائد و الأضرار ثمّ نتّخذ قراراتٍ متوازنةً.

تذکّرنا هذه الآية أيضاً بأنّه لا یجوز لنا الإفراط و التفریط في أيّ أمر. يجب أن یتنتهي كلّ شيء من آخره بشكل متوازن. في التعامل مع الفاسدين أو في تنفيذ القوانين، يجب أن نتصرّف بحذر و تدبير، خاصّة ًفي القضايا الاجتماعيّة و الثقافيّة فلا یجوز أن نتوقّع حدوث التغيّرات لیلةً واحدةً. إذا حاولنا أن نتعامل مع الأمور بشكل قاسيّ مفاجئ، فقد نحصل على نتائج عكسيّة. و لكن إذا نفّذنا هذه التغيّرات تدريجيّاً فلدی الناس وقت أکثر لقبولها و ستُنفَّذ هذه التغييرات بشكل أفضل.

هذه المسألة تنطبق أيضاً على قوانين الدولة. في التعامل مع الجرائم و الانتهاكات، لا يجب أن نبدأ بالتعاملات القاسية الصارمة. يجب أن نرشد الناس إلی طریق الهدی من خلال التدبیر و بالتدریج. على سبيل المثال، عند التعامل مع انتهاك ما، قد نقدّم تساهلاً و تخفیفاً في المرّة الأولى و في المرّات التالية نكون أكثر صرامةً. هذه الطريقة تساهم في ردع الآخرين و تمنع تفاقم الأمور.

و أخيرًا، قال الله- تعالى- إنّه يجب علينا في جميع الأمور أن نلفت النظر إلی المصالح و المفاسد. التفكير في هذا الموضوع و دراسة القضايا بدقّة هو أمر ضروريّ سواء في الحياة الشخصيّة أو الاجتماعيّة أو الدينيّة. يجب أن ننتبه إلى أنّ كلّ قرار أو قانون نريد تطبيقه يجب أن يكون في طریق المصلحة العامّة و لمنع المفاسد. التفكير في هذا الموضوع ليس مهمّاً في الدنيا فحسب، بل هو أيضاً موضع اهتمام من الله في الآخرة.


logo