47/05/25
بسم الله الرحمن الرحیم
إمکان الواجب المعلّق/الأوامر (الواجب المعلّق و المنجّز) /مباحث الألفاظ
الموضوع: مباحث الألفاظ/الأوامر (الواجب المعلّق و المنجّز) /إمکان الواجب المعلّق
ملخص الجلسة الماضية
قلنا في الجلسة الماضية إنّ مسألة الواجب المعلّق (وجوب فعلي و واجب مستقبلي) واجهت إشكالَ المحالية؛ لأنه يعني حرمة الترك، و ترك الفعل في الحال جائ أصل هذا الإشكال هو الخلط بين التكوينيّات (الفلسفية) و التشريعات (الاعتباريّة)، لأنّه في التكوينيّات لا يمكن تفكيك الإرادة و المراد. و في المقابل، بيّن المرحوم الإمام الخميني (أعلى الله مقامه الشريف) أنّ الإرادة التشريعيّة يمكن أن تتعلّق بأمر استقبالي، كما هو شائع في الأوامر العرفيّة. هذا التفكيك بين ماهيّة الإرادة التكوينيّة و التشريعية يجعل وجود وجوب حالي لواجب استقبالي ممكناً. و كان المرحوم الشيخ الأنصاريّ يثبت وجوب مقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب بالتمييز بين زمان الوجوب و زمان الواجب.
تحليل الوجوب الحالي و الاستقبالي و دراستهما في التكاليف المعلّقة
كان النقاش في علم الأصول حول «الواجب المعلّق» حيث طُرح فيه قسمان: «الوجوب الحالي» و «الواجب الاستقبالي». الإشكال الذي ورد هو أنّه قيل: ما معنى «الوجوب الحالي»؟ و «الواجب الاستقبالي» محال. فمثلاً، عندما يبقى ثلاثة أشهر إلى شهر ذي الحجة و يصبح الشخص مستطيعاً، تقولون: «الوجوب» قد أتى و لكن «الواجب» نفسه لم يأتِ بعد و سيتحقّق لاحقاً. و قد عُدَّ هذا القول محالاً. و يقول الحائري الأصفهاني (رحمهالله):«و ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف و لا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة و ليسمّ منجّزاً أو إلى ما يتعلّق وجوبه به و يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له و ليسمّ معلّقاً كالحج فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة و يتوقّف فعله على مجيء وقته و هو غير مقدور له» [1]
هو يرى أنّ هذا الأمر محال، يقول: كيف يمكن أن يأتي الوجوب و لمـّا يوجد إلزام لإنجاز الفعل؟ إن كان الوجوب «حالياً» فيجب علينا أن نفعله، و إن كان «استقبالياً» فهو منافٍ أصلاً لمفهوم الوجوب؛ لأنّه إذا كان هناك وجوب، فيجب أن نفعله، و إن لم يكن هناك وجوب، فلا لزوم أيضاً. بناءً على ذلك، إمّا أنّه لا يوجد وجوب أو أنّ هذا التقسيم غير صحيح.
فمثلاً بالنظر إلى قوله- تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ﴾[2] فلتفترض أنّ الساعة، هي الحادية عشرة و لمـّا یدخل وقت صلاة الظهر (الساعة الثانية عشرة). في هذه الحالة، وجوب الصلاة موجود، و لكن الواجب نفسه (أي أداء الصلاة في الساعة الثانية عشرة) استقبالي. إذن «الوجوب» حالي، و لكن «الواجب» استقبالي. السؤال هو: ما هو الجواب على هذا الإشكال؟
الردّ على الإشكال
في رأينا، الجواب هو أنّه عندما يصدر خطاب من المولى، يشمل هذا الخطاب جميع الأفراد. لكن هذا الخطاب الواحد يتحقّق بصورتين بالنسبة لأفراد مختلفين:
• بالنسبة لبعض الأفراد، يكون كلٌّ من «الوجوب» و «الواجب» حالياً.
• و بالنسبة لآخرين، يكون «الوجوب» حالياً و لكن «الواجب» استقبالياً.
على سبيل المثال، يختلف وقت أذان الظهر في الدول المختلفة. يختلف وقت أذان الظهر بين العراق و إيران بحوالي نصف ساعة. و في لبنان و سوريا بحوالي ساعة، و في السعودية بحوالي ساعتين. و في بعض الدول الأخرى قد يوجد اختلاف زمني يصل إلى ستّ ساعات.
عندما يصدر خطاب ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾:
• بالنسبة لمن يعيشون في منطقة أصبحت فيها الساعة ظهراً، يكون كلٌّ من «الوجوب» و «الواجب» حالياً. أي يُقال لهم: «أدّوا الصلاة الآن».
• أمّا بالنسبة لمن هم في منطقة لم يحلّ فيها الظهر بعدُ (مثلاً سيصبح ظهراً بعد ساعتين)، فإنّ «الوجوب» حالي بالنسبة لهم (أي ثبت التكليف)، ولكن «الواجب» (أي فعل الصلاة نفسه) استقبالي. بالنسبة لهذه المجموعة، يكون الواجب معلقاً؛ أي الوجوب حالي، و لكن الواجب استقبالي.
بناءً على ذلك، قد لا يقع الأفراد المختلفون ضمن تقسيم واحد، بل ذلك بحسب ظروف زمانهم و مكانهم. بعضهم يكون وجوبه و واجبه حاليين، و البعض الآخر يكون وجوبه حالياً وواجبه استقبالياً. أمّا من يفصّلنا عنه ثلاث ساعات فارق زمني و لم يحلّ ظهره بعدُ، فواجبُه معلّق؛ أي وجوبه حاليّ و لكن واجبه استقبالي. أما لمن حل وقته في الساعة الثانية عشرة، فوجوبه حالي وواجبه حالي أيضاً.
هدفنا من ذكر هذا المثال هو أنّ الوجوب الحالي و الاستقبالي لا يعني أنّه متطابق دائماً. فبعض الأوقات كلاهما حاليان، و بعض الأوقات الوجوب حالي و الواجب استقبالي. المعيار هو وصول الخطاب إلى المكلَّف و اختلاف الأزمنة و الأمكنة.
مثال آخر: وجوب الحج
لنفترض أنّ شهر ذي الحجة قد حل، و يقول النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله): ﴿وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[3] . هذا الخطاب يصدر في نفس شهر ذي الحجة الذي تجب فيه أعمال الحج. فيقول (صلى الله عليه وآله): «سيروا إلى مكة وأدوا أعمال الحج». في هذا الوقت، بالنسبة لمن استطاعوا في نفس الشهر، يكون كلٌّ من «الوجوب» و«الواجب» حالياً. أما بالنسبة لمن يستطيعون في العام القادم وبقي بضعة أشهر على ذي الحجة، فإن «الوجوب» حالي (أي ثبت تكليف الحج في عهدتهم)، ولكن «الواجب» استقبالي (أي أن أداء الفعل يكون في المستقبل).
و مع ذلك، يقول الله تعالى بشكل مطلق: ﴿وَلِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حَجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا﴾. هل هذا الواجب معلّق أم منجّز؟
• بالنسبة لمن يَصِلُهم هذا الخطاب في شهر ذي الحجة، يكون الوجوب و الواجب کلاهما حالیّان.
• و بالنسبة لمن يستطيعون مثلاً في العام القادم قبل حلول ذي الحجة بأشهر، يكون الوجوب حالياً، و لكن الواجب استقبالي.
لذا، فإن أصل خطاب الشارع المقدس ليس معلّقاً بحدّ ذاته، بل هو منجّز، و لكن بالنسبة للأفراد المختلفين الذين هم في أزمنة و أمكنة متباينة، تنشأ حالات مختلفة. بعضهم يكون على هذا النحو، و بعضهم الآخر على ذاك النحو.
النتيجة هي أنّ الله المتعال أوجب الحجّ بقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حَجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا﴾، فهو بالنسبة للبعض الذين هم في شهر ذي الحجة الآن، وجوبه حالي و واجبه حالي أيضاً. و لكنه بالنسبة لمن يستطيعون العام القادم و بقي بضعة أشهر، وجوبه حالي و واجبه استقبالي.
إذن، النتيجة هي: أصل خطاب الشارع ليس معلقاً، بل هو منج ولكن بالنسبة للأفراد المختلفين الذين هم في أزمنة وأمكنة مختلفة، تتشكل حالات متباينة. بعضهم بهذه الصورة و البعض الآخر بصورة أخری.