47/04/19
بسم الله الرحمن الرحیم
رجوع القیود إلی الهیئة أو المادّة؛ الوجوب الإنشائي و الفعلي/الأوامر /مباحث الألفاظ
الموضوع: مباحث الألفاظ/الأوامر /رجوع القیود إلی الهیئة أو المادّة؛ الوجوب الإنشائي و الفعلي
خلاصة الجلسة السابقة: كان النقاش في الجلسة الماضية حول ما إذا كانت القيود في الأوامر راجعةً إلى المادّة أم إلى الهيئة؟ و بعبارة أخرى، هل القيود قيودٌ للوجوب أم قيودٌ للواجب؟ و قد ذُكر أيضاً أنّ الوجوب على نوعين: الوجوب الإنْشائي و الوجوب الفعليّ.
فالوجوب الإنْشائي هو أنّ الحكم قد تحقّق في مقام الإنشاء و جعل الشارع، و لكن لم تَتَحَقّق شروط تحقّقه في الخارج بعد؛ أي لم يبلغ الوجوب مرحلة الفعليّة.
أمّا الوجوب الفعلي، فهو أنّ الحكم الإنْشائي يكتسب الفعليّة بعد تحقّق جميع الشروط و المقدّمات، و يصير المكلّف مُلزَماً بالفعل بالامتثال.
و قبل الدخول في مبحث «الوجوب الإنْشائي و الوجوب الفعلي»، لا بدّ من طرح مُقدّمة، و هي:
- هل الإيجاد قابل للفصل عن الوجود؟ يُقال أحياناً: «أُوجِدَ و لكن لم يوجد.» و السؤال هو: هل من الممكن أن يتحقّق الإيجاد دون أن يتحقّق الوجود؟
فيُقال: في التكوينيّات، لا يمكن الفصل بين الإيجاد و الوجود؛ لأنه كلّما وقع الإيجاد، حتماً يتحقّق الوجود أيضاً.
- السؤال التالي هو: هل الإنشاء قابل للفصل عن المـُنشَأ؟ أي هل من الممكن أن يقع الإنشاء دون أن يتحقّق المـُنشَأ؟
و قد قيل في الجواب: بما أنّ مسألة الإنشاء و المـُنشَأ من مقولة الاعتباريّات لا التكوينيّات، فمن الممكن أن يُطرح تصوّر الفصل فيها. فمثلاً، شخصٌ يعتبر الوجوب على آخر (إيجاب) و يقول: «هذا العمل واجب عليك»؛ و لكن هل من الممكن أن يكون الإيجاب قد تحقّق، ولكن الوجوب الحقيقي (المَنشَأ) لم يأتِ؟
قال بعض الأصوليين: بما أنّ هذه الأمور اعتباريّة، فمن الممكن أن يكون الإيجاب محقّقاً و لكن الوجوب لا یکون فعلیّاً. فمثلاً، فُرض وجوب الصلاة، و لكنها ليست واجبةً عليّ لعدم قدرتي. و النتيجة: الإيجاب موجود و لكن الوجوب الفعلي غير موجود.
ومن هنا، فإن البحث يدور حول:
هل الإيجاب و الوجوب (أو بعبارة أخرى، الإنشاء والمـُنشَأ) قابلان للفصل أم لا؟
القول الثالث: عدم إمکان الفصل بین الإیجاد و الوجود و بین الإنشاء و الـمُنشأ
قد ذهب جمعٌ من الأكابر إلى أنّ الإنشاء و المـُنشأ غير قابلين للفصل بعضهما عن بعض؛ كما لا ينفصل الإيجاد عن الوجود في التكوينيّات. و على الرغم من أنّ هذه الأمور اعتباريّة، إلّا أنّه بمجرّد تحقّق الإنشاء، يتحقّق المـُنشَأ أيضاً؛ و لكن المـُنشَأ قد يكون مُطلقاً أو مُقيّداً و مُعلّقاً. فمثلاً، يقول الشارع: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ﴾[1] ؛ أي: أقم الصلاة عند زوال الشمس. و في هذه الحالة، يوجد إنشاء وجوب الصلاة، و لكنّ المـُنشَأ مُقيّد بوقت الزوال. فإذا كانت الساعة الآن الحادية عشرة صباحاً، فإنّ إنشاء وجوب الصلاة موجود، و لكن لم يحلَّ وقت الظهيرة بعد. فهل يوجد المشَأ في هذا الوقت أم لا؟
يقولون: لا تقعوا في الخطأ، فهذا ليس تفكيكاً؛ لأنّ الإنشاء في هذه الحالة قد تحقّق بصورة مُقيّدة، مثل «إِنْ جَاءَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ»؛ أي إن أتى زيد فأكرمه. فالإنشاء من البداية مُقيّد بمجيء زيد، و ليس المعنى أنّ الإنشاء قد تحقّق و لكن المـُنشأ لم يأتِ. وبناءً على ذلك، لا يمكن فصل الإنشاء عن المـُنشَأ؛ و لكنّ المـُنشَأ قد يكون مطلقاً تارةً و مُقيّداً أخری بشرط أو زمان خاص.
إنّ مجرّد كون المـُنشَأ ذا قيد لا يعني عدم وجوده، بل الإنشاء موجود و المـُنشأ موجود أيضاً، و لكن المـُنشَأ له قيد؛ كأن يلزم زمان معيّن لفعليّته. فليس هناك تفكيك مُحقّق بين الإنشاء و المـُنشَأ.
رأي المحقّق الخراساني (رحمهالله):
قال المحقّق الخراساني (رحمهالله) في کفایة الأصول ما حاصله: «هذا الكلام هو عينه ما نقوله نحن و لکن بتعبير آخر؛ لأنّنا قلنا: إنّ لدينا حكماً إنشائياً و حكماً فعلياً» فمثلاً، وجوب الصلاة قبل الزوال (في الساعة الحادية عشرة) يكون على نحو الإنشاء، و بعد الزوال (في الساعة الثانية عشرة) يكون على نحو الفعلية. فإذا حلّ الوقت، يصل ذلك الحكم الإنشائي إلى الفعليّة.
رأي المحقّق النائيني (رحمهالله):
المحقّق النائيني (رحمهالله)، مع كونه من تلاميذ المحقّق الخراساني (رحمهالله)، يخالف هذا المَبنى و يقول: «ليس للحكم نحوان من الوجود يسمّى بالإنشاء تارة، و بالفعلي أخرى، بل الحكم هو عبارة عمّا يتحقّق بتحقّق موضوعه، و هذا هو الّذي أنشأ أزلا قبل خلق عالم و آدم.» [2] أي ليس لدينا حكمان (إنشائي وفعلي)، بل لدينا حكم واحد لا أكثر.
توضيح هذا المطلب:
إنّ الله تعالى عندما يريد أن يشرّع حكماً، يلاحظ أولاً المصالح و المفاسد في الأشياء. فإذا كانت المصلحة موجودةً و لم يكن هناك مانع، تتعلّق الإرادة الإلهية بذلك. و بعد تحقّق الإرادة، يُظهر تلك الإرادة، و هذا الإظهار هو نفسه الحكم الواقعي الإلهي (الإنشائي والفعلي). قال: «بل الحكم هو عبارة عمّا يتحقّق بتحقّق موضوعه، و هذا هو الّذي أنشأ أزلا قبل خلق عالم و آدم.»[3] أي إنّ بداية الحكم هي وقوع الحکم فعلیّاً بتحقّق موضوعه، و هذا ما أنشأه الله- تعالى- منذ الأزل، قبل خلق العالم و آدم.
يقول المحقّق النائیني (رحمهالله): إنّ الله تعالى قد لاحظ مصالح الأحکام و مفاسدها في علمه الأزلي قبل خلق الإنسان و العالم. هو كالأب الذي لم يُرزق بولد بعد، ولكنه يخطّط في ذهنه لمستقبله و يقول: إن وُلد لي ولد، فسأفعل له كذا و كذا. و بالمقايسة نفسها، لاحظ الله- تعالى- مصالح أفعال البشر قبل خلق العالم، و جعل الحكم على أساس تلك المصالح. ثمّ بعد خلق العالم و الإنسان، أظهر تلك الإرادة و قال: «صلّوا»، «صوموا» و ما شابه ذلك.
و عليه، فالحكم الإلهي عند المحقّق النائيني (رحمهالله) واحد؛ وهو عبارة عن تلك الإرادة الأزليّة لله بناءً على المصالح و المفاسد الموجودة في الأشياء. و لذلك، فإنّ التعبير بـ «الحكم الإنشائي» و «الحكم الفعلي» غير صحيح، بل كلتاهما تشيران إلى الحقيقة الواحدة التي تظهر في مرتبة الإظهار، وفي قالب الخطاب الشرعي.