47/04/18
بسم الله الرحمن الرحیم
الوجوب في الواجب المشروط فعليّ أو إنشائي؟/الأوامر /مباحث الألفاظ
الموضوع: مباحث الألفاظ/الأوامر /الوجوب في الواجب المشروط فعليّ أو إنشائي؟
خلاصة الجلسة السابقة: كان النقاش في الجلسة السابقة حول مسألة «فقدان الماء قبل دخول الوقت» (انقطاع الماء قبل حلول وقت الصلاة). إذا علم الإنسان أنّ الماء سينقطع قبل أن يحين وقت الصلاة، فهل يجب عليه حفظ الماء للطهارة أم لا؟
الأمر الثالث: هل الوجوب في الواجب المشروط_ علی فرض رجوع القید إلی الهیئة_ فعليّ أو إنشائي؟
يدور النقاش في هذه الجلسة حول ما إذا كانت القيود في الأوامر راجعةً إلى المادّة أم إلى الهيئة؟ بعبارة أخرى، هل القيود قيدٌ للوجوب أم قيدٌ للواجب؟
لتوضيح ذلك، نذكر المثال المعروف: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلَی غَسَقِ اللَّیْلِ﴾[1] في هذه الآية، هل «دلوك الشمس» قيدٌ للوجوب، بمعنى أنّه لا وجود للوجوب قبل الزوال أصلاً؟ أم أنه قيدٌ للواجب، أي أنّ الوجوب قد تحقّق قبل الزوال، و لكن زمان إيقاع الواجب مقيَّد بالزوال؟
و قد وقع خلاف في هذه المسألة بين الشيخ الأعظم الأنصاري و المحقّق الخراساني.
الأقوال و تبیین المسئلة
القول الأول: أنّ الوجوب في الواجب المشروط إنشائي[2] [3] [4] [5] [6]
قال المحقّق الخراساني (رحمهالله): «الظاهر أنّ الواجب المشروط كما أشرنا إليه، أنّ نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط ، بحيث لا وجوب حقيقةً، و لا طلبَ واقعاً قبل حصول الشرط، كما هو ظاهر الخطاب التعليقي، ضرورة أنّ ظاهر خطاب ( إن جاءك زيد فأكرمه ) كون الشرط من قيود الهيئة، و أنّ طلب الإكرام و إيجابه معلّق على المجيء، لا أنّ الواجب فيه يكون مقيّداً به، بحيث يكون الطلب و الإِيجاب في الخطاب فعلّياً و مطلقاً، و إنّما الواجب يكون خاصّاً و مقيّداً، و هو الإكرام على تقدير المجيء.»[7]
یری المحقّق الخراساني (رحمهالله) أنّ الوجوب و الواجب كلاهما مقيَّدان بالزمان (الزوال)؛ أي أنّه لا يوجد وجوب فعلي و لا واجب قبل حلول الوقت. قبل الزوال، يوجد فقط إنشاء للوجوب، وليس فعليته.
ويقول الإمام الخمیني (قدس سره): «أنّ الحكم في الوجوب المشروط ليس فعليا إن كان هو المعنى المعبر عن البعث، أو كان هو نفس البعث. و يكون فعليا إن كان تعبيرا عن الإرادة الإيجابية و الطلب الوجوبيّ، أو نفس الطلب القلبي. و لا يكون فعليا إن كان معبرا عن الإرادة الفعلية المظهرة، أو كان هو نفس الإرادة المظهرة. و الّذي هو الحق: هو أن الحكم بمفهومه متقوم بمقام الإنشاء و الإبراز، فلا يكون هنا حكم فعلي قبل تحقّق الشرط.» [8]
الإمام الخمیني (قدس سره) يبيّن أيضاً هنا نفس المطلب، و يقول: قبل الوقت، الوجوب إنشائي، و هذا الوجوب الإنشائي يوجب الإتيان بالمقدّمات، و يقوم المكلّف بها. كما تتحقّق المصالح و المفاسد هنا؛ فالشارع المقدّس رأى هذه المصالح و المفاسد ثمّ أوجب طبيعة الصلاة و طبيعة الصوم، و لكنّه حدّد لهما زماناً و قال: يجب الإتيان بهما في هذا الزمان. أي إنّ أصل المصلحة و المفسدة قد رُوعي، و لكن زمان الواجب قد حُدِّد. ولهذا في مسألة «الاستطاعة»، عندما تتحقّق الاستطاعة، يأتي الوجوب الإنشائي، لكن الوجوب الفعليّ لم يأتِ بعد. في شهر ذي الحجة، يأتي الوجوب الفعلي، فيجب على المكلّف أن يرکب الطائرة و ينطلق إلى مكة.
القول الثاني:أنّ الوجوب في الواجب المشروط فعلي[9] [10] [11] [12] [13]
قال الشیخ الأعظم الأنصاري (رحمة الله علیه):«إنّ الوجوب في الواجب المشروط أيضاً وجوب فعليّ غاية الأمر أنّ الواجب فعل مخصوص على تقدير خاصّ و ليس ذلك بمزيّة الفرع على الأصل فإنّ مراعاة المقدّمة عين مراعاة ذيها.» [14]
الشيخ (رحمهالله) يقول بأنّ القيد راجع إلى المادة، وليس إلى الهيئة؛ لذا فالوجوب مطلق وفعلي حتى قبل الزوال، ولكن الواجب (الصلاة) مقيَّد بزمان الزوال. بعبارة أخرى، في الساعة الحادية عشرة هناك وجوب، لكن الواجب الفعلي لم يتحقق بعد في الخارج، لأنه لم يحن وقته.
تبيین فروق الوجوب
لقد طرح المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في بداية «كفاية الأصول» التقسيم المعروف للوجوب، حيث بيّن أنَّ للوجوب ثلاثَ مراحل:
1. مرحلة الإنشاء
2. مرحلة الفعلیّة
3. مرحلة التنجّز.
و يُعدُّ هذا التقسيم ناظراً لحلّ النزاع المذكور سابقاً. فعلى سبيل المثال، في الساعة الحادية عشرة - حيث لم يحن وقت الصلاة بعد - يكون لدينا «الوجوب الإنشائي»؛ أي أنَّ المولى قد أنشأ الحكم (البعث و الطلب)، و لكن شروط فعليّته لم تتحقّق بعد. و عند الساعة الثانية عشرة، بدخول الوقت، يصبح الوجوب «الوجوب الفعلي»؛ أي يحين وقت الامتثال الفعلي للواجب. و إذا حدث تأخير للفعل حتى آخر الوقت و اقترب الغروب، يصل ذلك الوجوب إلى مرحلة «التنجّز»؛ أي لا يجوز التأخير بعد ذلك، و يجب على المكلّف الامتثال فوراً.
توضيح بالأمثلة الفقهية
النموذج الواضح لهذه المراتب يمكن رؤيته في وجوب الحج. يقول- تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[15] عندما تتحقّق الاستطاعة الماليّة و لكن شهر ذي الحجة لم يأتِ بعد، يكون الوجوب الموجود هو «الوجوب الإنشائي». لكن هذا الوجوب يصبح «وجوباً فعليّاً» عندما يحين زمان العمل (ذي الحجة). وعندما يُحرم و يدخل في المناسك، يصبح الوجوب «منجزاً». ففي الفترة ما بين الاستطاعة و وقت الحج، يقتضي العقل و الشرع وجوب إعداد المقدّمات اللازمة (الزاد، والراحلة، وتدارك السفر) حتى تكون القدرة على الامتثال قائمةً في وقته. و هذا الإلزام بالمقدّمة هو نتيجة للوجوب الإنشائي.
نعود الآن إلى مسألة الصلاة: في الساعة الحادية عشرة، هل الوجوب فعلي أم إنشائي؟
يقول المحقّق الخراساني (رحمهالله): الوجوب في هذه الساعة إنشائي، و يصبح فعلياً في الساعة الثانية عشرة (وقت الزوال). بناءً على رأي المحقّق الخراساني بما أنّ الوجوب لم يفعّل بعد، فإنّ إلزام إعداد المقدّمات ليس واجباً في الوقت الحالي، إلّا في الموارد التي تكون فيها المقدّمة مفوّتةً.
أما الشيخ الأعظم الأنصاري فيخالفه و يقول: الوجوب فعليّ حتّى في الساعة الحادية عشرة، و إن لم يحن وقت إيقاع الواجب بعد.
بناءً على رأي الشيخ، بما أنّ الوجوب فعلي، فإن إعداد المقدّمات (حفظ ماء الوضوء، تجهيز الساتر، تعلّم القراءة، معرفة القبلة، وسائر مقدّمات العبادة) يصبح واجباً أیضاً.
الثمرة العملية للخلاف
تظهر ثمرة هذين المبنيين (مبنى الشيخ و مبنی المحقّق الخراساني) في مسألة لُزوم الإتيان بالمقدّمات قبل دخول الوقت.
• بناءً على رأي الشيخ (قدّس سرّه): بما أنَّ الوجوب فعلي قبل الوقت، يجب تهيئة جميع المقدّمات اللازمة لأداء الواجب حتّى قبل حلول وقته.
• بناءً على رأي المحقّق الخراساني (قدّس سرّه): بما أنَّ الوجوب قبل الوقت ليس فعلياً (بل إنشائياً)، فلا يلزم تهيئة المقدّمات، إلا إذا كانت من نوع المقدّمات المفوّتة.
تعريف المقدّمات المفوّتة:
هي المقدّمات التي إذا لم تُؤَدَّ قبل الوقت المحدّد، أصبح أداء الواجب غیر ممکن بعد ذلك الوقت؛ مثل: تجهيز الزاد و الراحلة للحج، أو تعلّم أحكام الصلاة للمكلَّف الذي بلغ حديثاً.و حتّى المحقّق الخراساني يوافق على لزوم المقدّمات المفوّتة، لأنَّ تركها يؤدّي إلى فوات الواجب بأكمله. و لکن في الموارد التي يوجد لها بدل، مثل الوضوء الذي بدله التيمّم، ذهب البعض إلى أنّها لا تُعدُّ من مصاديق المقدّمة المفوتة؛ و ذلك لأنَّ تركها لا يؤدّي إلى فوات أصل الواجب (أي الصلاة)، بل ينتقل الواجب إلى بدله الشرعي (التيمّم).
رأينا في المسألة:
نرى أنّ الخلاف بين الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني هو خلاف لفظي في الحقيقة، و كلاهما ناظر إلى حقيقة واحدة، و لكنّهما يختلفان في التعبير. الشيخ يسمّي الوجوب الإنشائي «فعلياً»؛ بينما فرّق المحقّق الخراساني بين الإنشاء و الفعليّة.
ومع ذلك، برأینا أنّ كلام المحقّق الخراساني أدق؛ لأنّه لم یکن الوجوب قابلاً للفعلیّة قبل تحقق شروطه و قيوده. قبل الزوال، الوجوب موجود فقط في مقام الإنشاء، و لكن مع دخول الوقت، یصیر الوجوب فعلیّاً.
خلاصة النقاش:
1. النزاع الأصلي: هل القيد راجع إلى المادة أم الهيئة؟
2. الشيخ الأعظم (رحمهالله): القيد للمادة؛ الوجوب فعلي قبل الوقت.
3. المحقّق الخراساني (رحمهالله): القيد للهيئة؛ الوجوب قبل الوقت إنشائي فقط.
4. مراحل الوجوب:
5. الوجوب الإنشائي ← الوجوب الفعلي ← الوجوب المنجّز.
6. الثمرة:
7. في قول الشيخ، المقدّمات واجبة قبل الوقت.
8. في قول المحقّق الخراساني، المقدّمات المفوِّتة فقط واجبة.
9. برأینا:
10. قول المحقّق الخراساني (رحمهالله) أدقّ؛ قبل الوقت، الوجوب إنشائي فقط، والفعليّة تتحقق في الوقت.