47/04/12
بسم الله الرحمن الرحیم
رجوع القیود إلی الهیئة أو المادة/الأوامر /مباحث الألفاظ
الموضوع: مباحث الألفاظ/الأوامر /رجوع القیود إلی الهیئة أو المادة
خلاصة الجلسة السابقة: كانت مناقشتنا في الجلسة الماضية حول مسألة ما إذا كان التقييد تقييداً للمادّة أم تقييداً للهيئة؟ بعبارة أخرى، هل التقييد یرجع إلی الوجوب أم إلی الواجب؟ إذا ورد قيد في كلام الشارع، فهل هذا القيد قيدٌ للمادّة أم قيدٌ للهيئة؟
مقدمات المفوّتة و غير المفوّتة
بحثنا مستمر في مسألة «مقدّمات المفوّتة و غير المفوّتة». التفصيل الذي ذكره آية الله المكارم (حفظه الله) هو: إذا كانت المقدّمات من قبيل المقدمات المفوّتة، فيجب إتيانها قبل الوقت؛ أما إذا كانت غير مفوّتة، فلا يلزم إتيانها قبل الوقت. المثال الواضح لذلك هو حفظ الماء للوضوء قبل أذان الظهر. إذا اعتُبر حفظ الماء من المقدمات المفوّتة، وجب علينا حفظه قبل الوقت؛ و إذا لم يكن كذلك، فلا يلزم.
هنا يطرح سؤال فقهي:
لنفترض أنّ شخصاً حصل على مال كثير – كعشرة مليارات تومان – و أصبح مستطيعاً. هل يجب عليه فوراً تهيئة مقدمات الحج، أم يمكنه الانتظار حتى شهر ذي الحجة، بل و أن ينفق ذلك المال في مصارف أخرى بحيث لا يبقى لديه مال للحج عند موسم الحج؟ ما هو واجبه الشرعي هنا؟ هل وجب عليه الحج بمجرّد حصول الاستطاعة الفعلية فيجب عليه حفظ المقدّمات، أم يمكنه صرف المال في أمور أخرى، وإذا كان مستطيعاً في ذي الحجة، أتى بالحج؟ هذا المثال يوضّح أن بحثنا الأصولي – أي الواجب المطلق و الواجب المشروط ولوازم ذلك – توجَد له ثمرة جادّة في الفقه.
لنطبّق السؤال الآن على المسألة المبحوث عنها:
هل يجب حفظ الماء قبل أذان الظهر للوضوء أو الغسل أم لا؟
أقوال الفقهاء:
القول الأوّل: عدم وجوب حفظ الماء[1] [2] [3]
قال المحقّق الرشتي (رحمةالله علیه):«فمن يعلم أنّه لا يجد ماء بعد الوقت للوضوء و عنده من الماء ما يكفيه لا يجب عليه حفظ الماء أو الوضوء قبل الوقت كما حكم به بعض الأصحاب.» [4] ؛ أي: حتى لو علم المكلف أنه لن يجد ماء بعد الوقت للوضوء، فإنه لا يجب عليه حفظ الماء قبل الوقت.
قال الشهید الصدر (رحمةاللهعلیه):«نقول بجواز إراقة الماء قبل الوقت مع القطع بعدم إمكان تحصيل الماء للوضوء في الوقت»[5] ؛ .» أي: يجوز له إراقة الماء قبل الوقت، مع علمه القطعي بعدم إمكان تحصيل الماء للوضوء في الوقت. و دليلهم في ذلك هو أنّه ما دامت الصلاة لم تجب بعد، فمقدمتها ليست واجبةً أيضاً.
أدلّة القول الأوّل (عدم وجوب حفظ الماء):
الدلیل الأوّل:
إن الصلاة لا تجب إلا بدخول الوقت؛ و عليه فقبل دخول الوقت، لیست الصلاة واجبةً و لا مقدمتها. و بالتالي لا يوجد أيّ دليل شرعي على وجوب حفظ الماء قبل الوقت.
الدليل الثاني:
إنّ المتيقن من ثبوت ملاك الوجوب هو في فرض دخول الوقت؛ أي إنّ حفظ المقدمة (كالماء للوضوء) يكون ملزماً إذا كان في الوقت نفسه. أما قبل دخول الوقت، فلا نجد دليلاً على ثبوت الملاك.
بعبارة أخرى: حتى لو أُذّن بالظهر و دخل الوقت، تبقى المسألة قابلةً للنقاش؛ لأنه يتبقّى وقت واسع حتّى الغروب، و الوقت لم يضق بعد. و عليه، فإنّ إلزام المكلّف بحفظ الماء في بداية الوقت نفسه ليس خالياً من الإشكال. و الموضع الوحيد الذي يمكن أن نقول فيه بيقين بوجوب حفظ الماء هو عند ضيق الوقت؛ أي عندما يصبح احتمال فوات الصلاة قطعياً. أما قبل دخول الوقت، فلا يوجد أي دليل على وجوب الحفظ.
القول الثاني: وجوب حفظ الماء قبل الوقت[6] [7] [8]
في المقابل، ذهب بعض الفقهاء، مثل المحقق العراقي (رحمة الله عليه) إلى القول: «ما ورد على وجوب حفظ الماء قبل الوقت من النصوص على طبق القواعد، لا انه كان ذلك حكما تعبديا من الشارع.»[9] و قد ذهب هو و فریق آخر إلى أنّ «حفظ الماء» واجب؛ و ذلك لكونه من المقدمات المفوّتة.
رأي الأستاذ
برأینا، أنّ القول الثاني صحیح؛ أي حفظ الماء قبل الوقت یکون واجباً.
أدلّة القول الثاني (وجوب حفظ الماء قبل الوقت):
الدلیل الأوّل:
لقد سلّم كثير من الفقهاء بأنّ التكليف يتعلّق بالإتيان بالمقدمات المفوّتة قبل الوقت. النقاش الوحيد هو ما إذا كان الماء يُعدّ من المقدمات المفوّتة أم لا؟ قد يقول البعض بأنّ له بدلاً (أي التيمم)، و بالتالي فهو ليس مفوّتاً؛ لكن جماعة من الأعلام ذكروا صراحةً أنّ الماء و السّاتر هما جزء من المقدمات المفوّتة.
الدلیل الثاني:
و البرهان العقلي مؤيّدٌ لهذا القول أيضاً. فكما يحكم العقل بأنّه إذا كان والدك عطشاناً، و تَعلم أنّه سيصل بعد ساعة، و الماء متوفرٌ الآن ثم سينقطع لاحقاً، فإن وظيفتك هي حفظ الماء له؛ كذلك الشارع، عندما جَعَلَ وجوب الصلاة، فإنّ العقل يحكم بوجوب توفير مقدّمتها مسبقاً. وهذا هو بعينه قاعدة «وجوب المقدّمة للمقدّمة».
الدلیل الثالث:
لدينا في الفقه أمثلة كثيرة توجب على المكلّف توفير المقدّمات قبل حلول الوقت:
1. معرفة القبلة: الصلاة مشروطة باستقبال القبلة. فإذا لم يكن بالإمكان تحصيل معرفة القبلة في الوقت، لَزِمَ السعي لتحصيل هذه المعرفة قبل دخول الوقت.
2. تعلّم الأحكام: مَن كان مكلّفاً بالصلاة، يجب عليه تعلّم أحكام الصلاة و شروطها قبل الوقت؛ إذ لا يتوفّر وقت كافٍ للتعلّم أثناء وقت الصلاة. و كذلك في باب الصوم، يجب على المكلّف أن يتعلّم أحكام شهر رمضان قبل حلوله.
3. مسائل الحجّ: مَن كان عازماً على الحجّ، لا يجوز له تأجيل تعلّم الأحكام و الاطّلاع على المناسك إلى أيام الحجّ؛ لأنّ ذلك الوقت لا يتّسع لذلك. و لهذا السبب تحديداً، يتمّ توفير رجال دين في القوافل لتعليم الأحكام مسبقاً.
4. مسألة القصر و الإتمام: مَن يشرع في السفر، يجب عليه أن يتعلّم أحكام صلاة المسافر مسبقاً حتّى لا يقع في الترديد و الإشكال عند وقت العمل.
هذه الأمثلة تبيّن أنّه لا يمكن القول: «لا يوجد واجب قبل الوقت على الإطلاق» بل من الواضح أنّ المقدّمات الواجبة (بل و مقدّمة المقدّمة) يجب تحصيلها في بعض الحالات قبل دخول الوقت.
يُستفاد من مجموع هذه البيانات ما يلي:
• المقدّمات المفوّتة واجبة بلا ريب.
• أحياناً يتجاوز هذا الوجوب ليشمل مقدّمة المقدّمة أيضاً؛ كتعليم الأحكام، و تحصيل القبلة، أو تعلّم شروط الحجّ.
• وبناءً على ذلك، فإنّ حصر وجوب المقدّمات في وقت الواجب نفسه أمرٌ غير تامّ.
و تدلّ هذه الأمثلة جميعها على أن العقل والشرع كلاهما يحكمان بوجوب تحصيل المقدّمات المفوّتة قبل دخول الوقت.
أقوال المراجع المعاصرین
۱ . قال آیة الله المکارم الشیرازي : «كلما كان الشخص يملك من الماء ما يكفي فقط لأداء الوضوء أو الغسل، و علم أنّه لن يجد ماءً بديلاً إذا أراقه، فإذا دخل وقت الصلاة، يكون إراقة هذا الماء حراماً. و الأحوط وجوباً أن لا يفعل ذلك قبل دخول وقت الصلاة. و كذلك، إذا كان لديه احتمال عقلائي بأنّه لن يحصل على ماء آخر إذا أراق ما لديه، فالأحوط أیضاً هو أن يحتفظ بالماء. و في جميع هذه الحالات، إذا أراق الماء، يكون قد ارتكب عملاً مخالفاً، و لكن صلاته بالتيمم تكون صحيحةً».[10]
۲. قال آیةالله السبحاني (حفظهالله): «الشخص الذي يملك ما يكفي فقط للوضوء أو للغسل، إذا علم أو أخبره شاهد عدل أنه لن يجد ماءً إذا أراق ما لديه، فإذا دخل وقت الصلاة، يكون إراقة الماء حراماً. و الأحوط وجوباً ألا يُريق الماء قبل دخول وقت الصلاة. بل، كلما كان لديه احتمال عقلائي بأنه لن يجد ماءً إذا أراق ما لديه، فالأحوط وجوباً هو ألا يُريق الماء حتى قبل دخول وقت الصلاة.»[11]
۳. قال آیةالله الوحید الخراساني (حفظهالله):«الشخص الذي يملك ما يكفي فقط للوضوء أو الغسل، ولديه علم أو حجة شرعية بأنه لن يجد ماءً إذا أراق ما لديه، فإذا دخل وقت الصلاة، فإنّ إراقة الماء غير جائزة. و يُستحب استحباباً ألا يُريق الماء حتى قبل دخول وقت الصلاة.»[12]
إختلاف هذه الآراء قائمٌ على نفس المَبْنى الأصولي: فإذا كان وجوب الصلاة مطلقاً منذ البدء، فيجب تحصيل مُقدّماتها قبل دخول وقتها (مبنى الشيخ الأنصاري). أمّا إذا كان وجوب الصلاة مشروطاً بدخول الوقت (مبنى المحقّق الخراساني)، فإنّ المقدّمات أيضاً لا تجب إلّا بعد دخول الوقت.
برأینا: يجب تحصيل المقدّمات في المقدّمات المفوّتة (كالمياه، والساتر، وتعلّم الأحكام) قبل دخول الوقت؛ أمّا في غير المفوّتة، فلا يوجد تكليف قبل دخول الوقت.