< قائمة الدروس

الموضوع : حجية القطع

إلى هنا قد تبين ، أن قضية حسن العدل وقبح الظلم قضيتان ثابتتان في الواقع ، ويدركهما العقل كسائر القضايا الواقعية ، وليس ثابتتين ببناء العقلاء وجعلهم ، إذ لا شبهة في أن الحسن صفة ذاتية للعدل ويستحيل انفكاكها عنه ، وكذلك القبح بالنسبة الى الظلم ، فلا يمكن أن يكونا مجعولين من العقلاء كالأحكام الشرعية ، فإنَّ الحسن ليس كالوجوب والقبح ليس كالحرمة ، لأن الوجوب والحرمة مجعولان من قبل الله تعالى في الشريعة المقدسة ، وليس الوجوب والحرمة أمرين ذاتيين للشيء ، وليس كذلك الحسن بالنسبة الى العدل ،فإنه ليس مجعولا من قبل العقلاء للعدل وكذلك القبح للظلم ، ولهذا لا يتوقف حسن العدل وقبح الظلم على وجود العقلاء في سطح الكرة الأرضية ، ولا على بنائهم وجعلهم لحسن العدل وقبح الظلم ، بل لو لم يكن – كما ذكر السيد الأستاذ (قده) – في سطح هذه الكرة إلا عاقل واحد فإنه يدرك حسن العدل وقبح الظلم ، لأن إدراكه أمر فطري وجبلّي وذاتي .

فإذن حسن العدل صفة ذاتية للعدل ويستحيل انفكاكها عنه كإمكان الممكن وزوجية الزوج وما شاكل ذلك من الصفات الذاتية التي يستحيل انفكاكها عن الموصوف ، وما نحن فيه أيضا كذلك ، وإن استشكل على السيد الأستاذ (قده) بأن افتراض وجود عاقل واحد على سطح الكرة الأرضية يدرك حسن العدل وقبح الظلم ، لو سلم فمن اين لنا معرفة أن عقل هذا الأنسان يدرك حسن العدل وقبح الظلم .

ولكن الظاهر أن هذا الأشكال غير وارد ، فإن هذا الأدراك أمر فطري للإنسان ، ومن الواضح أن فطرة الأنسان لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، فهذا الإشكال غير وارد .

فالنتيجة أن ما ذكره المحقق الأصفهاني (قده) من أن حسن العدل وقبح الظلم ثابتان ببناء العقلاء وبجعلهم ليس كما ينبغي ، بل هو غريب من مثله (قده) .

قد يقال كما قيل : أنه على هذا ما الفرق بين العقل النظري والعقل العملي ؟ فإن الفرق بين العقليين ، أن مدركات العقل النظري الأمور الواقعية الثابتة في الواقع كاستحالة الدور والتسلسل واجتماع النقيضين أو الضدين أو المثلين أو ما شاكل ذلك ، وأما العقل العملي فمدركاته أمر عملي كما هو الحال في الأحكام الشرعية كادراك وجوب شيء أو ادراك حرمة شيء ، ومن هذا القبيل ادراك حسن العدل ، فالحسن أمر مجعول للعدل كادراك الوجوب والحرمة فإنه بالعقل العملي ، فلو كان الحسن والقبح أمران واقعيان وثابتان في الواقع فما هو الفرق بين العقل النظري والعقل العملي ؟ فإن مدركات العقل النظري أمور واقعية وتبين من خلال ما تقدم ان حسن العدل وقبح الظلم كذلك .

والجواب عن ذلك ، أنَّ العقل عقل واحد وليس هنا عقلان احدهما نظري والأخر عملي ، لوضوح أن لكل انسان عقل واحد وليس له عقلان احدهما نظري والأخر عملي ، ولا فرق بينهما إلا في ذات المدرَك ، فإن مدرك العقل أمر واقعي غاية الأمر أنه قد يكون أمرا واقعيا كالمصلحة والمفسدة في الواقع أو استحالة الدور والتسلسل وما شاكل ذلك ، وقد يكون أمرا واقعيا كحسن العدل وقبح الظلم ، فالعقل يدرك جميع ذلك وهو عقل واحد والفرق بين تسمية العقل النظري والعقل العملي إنما هو في بعض خصوصيات المدرك ، فإنَّ المدرك إذا كان بنفسه يقتضي تحرك المكلف نحو المدرك والجري العملي على طبقه سمي ذلك بالعقل العملي ، وإما إذا لم يكن المدرك كذلك فالمدرك لا يقتضي بنفسه تحرك المكلف نحو الإتيان به ولا يقتضي الجري العملي على طبقه فهو عقل نظري ، كما إذا أدرك مصلحة في شيء أو مفسدة في شيء ، فإن المصلحة في نفسها لا تقتضي تحرك العاقل الى الإتيان بالمصلحة والجري العملي على طبقها ، وإنما تقتضي ذلك إذا جعل الشارع الوجوب على طبقها ، والمفسدة لا تقتضي الجري العملي للعاقل على طبقها إلا إذا جعل الشارع الحرمة على طبقها وحينئذٍ يتحرك المكلف بالابتعاد عنها ، وكذلك الحال إذا كان المدرك من قبيل استحالة الدور أو التسلسل ، وإما إذا كان المدرك حسن عدل أو قبح ظلم فإن الحسن وإن كان أمرا واقعيا ثابتا في الواقع وكذلك القبح فهو بنفسه يقتضي تحرك المكلف نحوه والجري العملي على طبقه بدون أي مقدمة خارجية وسمي هذا بالعقل العملي ، وكذلك إذا ادرك قبح شيء فهو بنفسه يقتضي تحرك المكلف بالابتعاد عنه ويقتضي الجري العملي على طبقه وسمي ذلك بالعقل العملي .

فإذن الفرق بين العقل العملي والعقل النظري ليس في ذات المدرك وإنما هو في صفة المدرك .

هذا اولا .

وثانيا : مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن حسن العدل أمر مجعول من قبل العقلاء وكذلك قبح الظلم ، إلا أن حجية القطع ليست من صغريات قاعدة حسن العدل وقبح الظلم ، فإن موضوع القاعدة الأولى العدل وموضوع الثانية الظلم ، ومعنى الظلم هو سلب صاحب الحق عن حقه ، ومعنى العدل ايصال صاحب الحق الى حقه ، وعلى هذا فتطبيق قاعدة حسن العدل وقبح الظلم على أن مخالفة القطع ظلم بحق المولى وتفويت لحق الطاعة ، وموافقته عدل لأنها أداء لحق المولى ، هذا التطبيق يتوقف على أن تكون مخالفة القطع ظلما في المرتبة السابقة وموافقة القطع عدلا في المرتبة السابقة أيضا ، لأن موافقة القطع عدلا في المرتبة السابقة منوط بثبوت حق الطاعة للمولى ومخالفة القطع ظلم منوط بثبوت حق الطاعة للمولى في المرتبة السابقة ، ولا شبهة في ثبوت هذا الحق للمولى في المرتبة السابقة ، فإن ثبوت هذا الحق للمولى الذاتي أمر ضروري ووجداني ، فإن للمولى الحقيقي حق الطاعة على عباده وهو أمر ضروري ووجداني ، وكذا بالنسبة الى المولى الجعلي ، فإنَّ المولى الذاتي هو الله تعالى وتقدس وأما المولى الجعلي فهو النبي الأكرم صلى الله عليه وأله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام ، فحق الطاعة ثابت للجميع في المرتبة السابقة ، فمخالفة القطع بحكم المولى ظلم على المولى وتفويت لحق طاعته وموافقة القطه بحكم المولى عدل وأداء لحق المولى .

فإذن تطبيق قاعدة قبح الظلم على مخالفة القطع يتوقف على أحراز أن مخالفة القطع ظلم في المرتبة السابقة ، فإن كل قاعدة تنطبق على مصاديقها وعناصرها إذا أحرز مصداقها في الخارج في المرتبة السابقة ، فلو توقف كون مخالفة القطع ظلما على تطبيق القاعدة لزم الدور .

فمن أجل ذلك لا يمكن أن تكون حجية القطع من صغريات هذه القاعدة .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo