< قائمة الدروس

الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/06/13

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : القطع
بقي هنا أمران :
الأول : أنَّ التقليد هل يجب أن يكون للأعلم ولا يجوز تقليد غير الأعلم أو لا يجب تقليد الأعلم ؟ و على تقدير الوجوب فهل يجوز لغير الأعلم – مع إلتفاته الى أنه غير أعلم – الإفتاء أو لايجوز له ذلك ؟
الثاني : هل يجوز التبعيض في التقليد أو لا يجوز ؟
أما الأمر الأول، فلا شبهة في وجوب تقليد الأعلم، بل هو مقتضى السيرة القطعية من العقلاء المرتكزة في الأذهان الثابتة في أعماق نفوسهم، والممضاة شرعاً حيث لم يرد ردعٌ من قبل الشارع، قد جرت على الرجوع الى الأعلم في كل علم نظري، فمثلاً علم الطب يرجع فيه الى الأعلم في مورد الخلاف، وهكذا في سائر العلوم في مورد الخلاف بين الأعلم وغير الأعلم، فالمرتكز في الأذهان بحسب الجبلة والفطرة هو الرجوع الى الأعلم في مورد الخلاف، وكذلك الحال في الفقه والإصول، فإنَّ في مورد الخلاف بين الأعلم وغير الأعلم في المسائل الفقهية لا شبهة في وجوب الرجوع الى الأعلم، ولا يجوز العمل بقول غير الأعلم فإنه ليس بحجة .
وعلى هذا، فإذا قلد شخصٌ غير الأعلم مع إلتفاته بأنه غير أعلم وعمل بقوله و رأى أن قول غير الأعلم في مورد الخلاف مع الأعلم لا يكون حجة ومع ذلك هو قلده لسبب من الأسباب، فلا شبهة في بطلان عمله وعدم إجزائه لا في الوقت ولا في خارج الوقت، بل حتى في الأجزاء غير الركنية كما إذا فرضنا أن الأعلم يرى وجوب السورة في الصلاة أو وجوب جلسة الإستراحة فيها، وغير الأعلم لا يرى ذلك، ففي جميع هذه الصور صلاته محكومة بالبطلان ولا تكون مجزية، فإنَّ حديث لا تعاد لا يشمل العالم، بل هو مختص أما بالناسي كما بنى عليه المحقق النائيني (قده) أو أنه يشمل الجاهل المركب مطلقاً سواء أكان مقصراً أو كان غير مقصر، ويشمل الجاهل البسيط إذا كان قاصراً وأما إذا كان مقصراً فلا يكون مشمولاً للحديث، وأما إذا كان الشخصُ عالماً ملتفتاً بأنَّ عمله مخلٌ فلا يكون مشمولاً للحديث، فمن أجل ذلك تجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء في خارج الوقت، وأما إذا كان جاهلاً ولا يعلم أن تقليد غير الأعلم لا يكون مجزياً أو تخيل أنه أعلم من غيره ثم ظهر أنه غير أعلم فهل يجزي عمله أو لايجزي ؟
فهنا لا بد من التفصيل، فإنَّ الإختلاف بين الأعلم وغير الأعلم إن كان في المسألة التي يكون الجهل فيها عذراً كما إذا كان الجهل في الأجزاء غير الركنية كما إذا فرضنا أن الأعلم يرى وجوب السورة في الصلاة وغير الأعلم لايرى ذلك، والمكلف صلى بغير السورة إعتماداً على فتوى غير الأعلم، ففي مثل ذلك يجري حديث لا تعاد الصلاة إلا من خمس الوقت والقبلة والطهور والركوع والسجود، وأما الإخلال بسائر الأجزاء غير الركنية وغير المقومة للصلاة فإن كان عن جهل أو نسيان فهو لا يضر بصحة الصلاة ومشمول لحديث لا تعاد، وأما إذا كان الخلاف بين الأعلم وغيره في مسألة لا يكون الجهل فيها عذراً كما إذا كان الخلاف بينهما في الوضوء، فإذا فرضنا أن غير الأعلم جوّز الوضوء بماء الورد، والمكلف توضأ به وصلى وأما الأعلم فلا يرى جواز ذلك بل يرى بطلان الوضوء، ففي مثل ذلك لابد من الأعادة، فإنَّه غير مشمول لحديث لا تعاد، ومستثنى من حديث لا تعاد، أي أن المستثنى من حديث لا تعاد هو الطهارة الحدثية، أي لا تعاد الصلاة إلا من طهور أو وقت أو قبلة أو ركوع أو سجود، فإنَّها من أركان الصلاة ومن مقوماتها، فإذا كان الأختلاف بينهما في الأركان، فلا يكون جهل المقلد عذراً، فلا بد له من الأعادة في الوقت والقضاء في خارجه، هذا كله مما لاكلام فيه .
وإنما الكلام في أنه هل يجوز لغير الأعلم مع إلتفاته بأنه غير أعلم الإفتاء في موارد الإختلاف بينه وبين الأعلم ؟
الظاهر أنه لا يجوز له الإفتاء، لأنه يحتمل إحتمالاً عقلائياً أن الأعلم في تكوين القواعد العامة أو في تطبيقها على عناصرها الخاصة في الفقه وصل الى نكتة لم يصل اليها، ومن أجل وصول الأعلم الى تلك الخصوصية أفتى بوجوب السورة في الصلاة مثلاً أو أفتى بوجوب جلسة الإستراحة في الصلاة، وأما غير الأعلم فلم يصل الى تلك النكتة ولم يلتفت اليها، فأن الوصول اليها خارج عن مقدوره، فلا يتمكن من الوصول اليها، فمن أجل ذلك لا يجوز له الإفتاء بعدم وجوب السورة في الصلاة أو عدم وجوب جلسة الإستراحة فيها، ولو أفتى فهو إفتاء بغير علم وهو محرم عليه .
فإذن لا يجوز لغير الأعلم مع إلتفاته بأنه غير الأعلم الإفتاء في موارد الخلاف .
هذا كله في الأمر الأول .
وأما الأمر الثاني وهو جواز التبعيض في التقليد، بأن يقلد مجتهداً في باب الطهارة ويقلد مجتهداً أخر في باب الصلاة أو يقلد مجتهداً في مسألة ويقلد مجتهداً أخر في مسألة أخرى من نفس الباب .
لا شبهة في عدم جواز ذلك، والوجه فيه أن من كان أعلم في تكوين القواعد العامة المشتركة بين أبواب الفقه في الحدود المسموح بها شرعاً وفق شروطها، كحجية أخبار الثقة وحجية الظواهر كظواهر الكتاب والسنة وحجية الإستصحاب وما شاكل ذلك من القواعد الإصولية العامة، فهو أعلم أيضاً في تطبيقها على عناصرها الخاصة في الفقه، فإنَّ نسبة الفقه الى الأصول نسبة العلم التطبيقي الى العلم النظري، والعلم التطبيقي يتولد من العلم النظري وليس علماً مستقلاً، ومن هنا قلنا أن الباحث الإصولي كلما كان أكثر دقة وعمقاً وثقة فهو أكثر دقة في التطبيق، لأن الذهنية الإصولية تنعكس تماما في الذهنية الفقهية .فإذن لا يمكن التفكيك بينهما .
وعلى هذا، فلا يجوز التبعيض في التقليد بأن يقلد الأعلم في بعض المسائل ويقلد غيره في بعضها الأخر، لأن غيره ليس بأعلم منه فلا يجوز الرجوع الى غيره، فالتبعيض غير جائز، إذ هو مبني على جواز تقليد غير الأعلم، فإن قلنا بوجوب تقليد الأعلم فلا يجوز التبعيض .
الى هنا قد تمت مقدمة بحث القطع وبعد ذلك يقع الكلام فيما ذكره شيخنا الأنصاري (قده) من أن المكلف إذا ألتفت الى حكم شرعي فإما أن يحصل القطع أو الظن أو الشك، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo