< قائمة الدروس

الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/06/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : القطع
كان كلامنا في الإصول العملية الشرعية، ولا شبهة في أن هذه الإصول أحكام ظاهرية مختصة بالمجتهدين لإختصاص موضوعها بهم، كالأستصحاب وأصالة البراءة ونحوهما في الشبهات الحكمية، فإنّ اليقين بحدوث الحالة السابقة والشك في بقائها لا يمكن حصوله ألا للمجتهد بعد الفحص عن الأدلة وعدم وجدان الدليل في المسألة أو وجدانه ولكنّه مبتلى بالمعارض، ولم يكن هناك مرجح في البين، أو أن الدليل موجود ولكنّه مجمل، ففي مثل ذلك قد يحصل له اليقين بحدوث الحالة السابقة والشك في بقائها، ومن الواضح أن العامي لا يتمكن من تحصيل هذا اليقين والشك في البقاء .
فإذن إختصاص الإستصحاب بالمجتهد من جهة إختصاص موضوعه به في الشبهات الحكمية، وكذلك الحال في أصالة البراءة الشرعية وأصالة الأحتياط الشرعية وأصالة الطهارة وما شاكل ذلك من الأصول العملية التي تجري في الشبهات الحكمية، فإنها مختصةٌ بالمجتهدين، فعندئذٍ لا يجوز لغير المجتهد الرجوع اليه، لأن الحكم الظاهري مختص بالمجتهد، ولا يشمل غيره حتى يرجع اليه، ولا يجوز تقليده فيه .
فإذن، لا يجوز الرجوع الى المجتهد في هذه الأحكام الظاهرية كالأستصحاب والبراءة الشرعية ونحوهما وتقليده فيها، كما لا يجوز للمجتهد الإفتاء بذلك كالإفتاء بحجية الأستصحاب، أو بحجية أصالة البراءة، ليس للمجتهد الإفتاء بهذا الحكم، لإنه فتوىً بغير ما أنزل الله، فلا يمكن صدور مثل هذه الفتوى منه، هذه هي المشكلة في المقام، وهل يمكن حل هذه المشكلة أو لا ؟
والجواب : أنه يمكن علاج هذه المشكلة بطريقين :
الأول : أنّ الأحكام الظاهرية -كما مرّ- أحكام طريقية ولا شأن لها غير إثبات الواقع تنجيزاً أو تعذيراً، فإنه لا شأن للأستصحاب الا كونه منجزاً للواقع عند الإصابة ومعذراً عند الخطأ، وكذلك أصالة البراءة الشرعية فإنّها معذرة عن الواقع، ولا شأن لها غير ذلك، ومن هنا لا يترتب أيّ أثر عمليٌ على الأحكام الظاهرية غير كونها طريقاً الى إثبات الواقع تنجيزاً أو تعذيراً، والمفروض أن الواقع مشتركٌ بين المجتهد وغيره، فالمجتهد بواسطة هذه الاحكام الظاهرية يثبت الواقع و يصل أليه تنجيزاً أو تعذيراً ويفتي على أثبات الواقع تنجيزاً أو يفتي على إثبات الواقع تعذيراً .
فإذن يجوز رجوع غير المجتهد الى المجتهد من باب رجوع الجاهل الى العالم و من باب الرجوع الى أهل الخبرة والبصيرة، ولاشبهة في أن المجتهد من أهل الخبرة في ذلك، بعد ماذكرنا من أنه لا يعتبر في خبروية شخصٍ أن تكون عل أساس العلم الوجداني، فإذن لاشبهة في أن المجتهد من أهل الخبرة، فيجوز الرجوع اليه ويقلّده في إثبات الواقع الذي هو مشتركٌ بينه وبين غيره .
فإذن المجتهد في الأصول يقوم بتكوين هذه القواعد العامة الظاهرية، كقاعدة الأستصحاب وأصالة البراءة ونحوهما للوصول الى إثبات الواقع تنجيزاً أو تعذيراً، ومن الواضح أن المجتهد من أهل الخبرة في ذلك .
فإذن رجوع غير المجتهد أليه من باب الرجوع الى أهل الخبرة ورجوع الجاهل الى العالم، ويقلده في إثبات الواقع الذي هو مشترك بينه وبين غيره، وبذلك أنحلت المشكلة .
الثاني : كما يجوز التقليد في المسائل الفقهية، كذلك يجوز التقليد في المسائل الأصولية، فإنّ عمدة الدليل على التقليد هو السيرة القطعية من العقلاء والممضاة شرعاً الجارية على رجوع الجاهل الى العالم، الذي هو أمرٌ إرتكازيٌ ثابتٌ في أعماق نفس كل أحدٍ، ولا شبهة في أن المجتهد كما أنه من أهل الخبرة في المسائل الفقهية فهو من أهل الخبرة في المسائل الأصولية ايضاً، فإذن يجوز الرجوع الى المجتهد في المسائل الأصولية، وتقليده فيها، غاية الأمر أن تلك المسائل ثابتة للمجتهد بالأجتهاد والنظر والتفكير، ولكنها ثابتةٌ لغير المجتهد بالتقليد، فإذا قلّد غير المجتهد المجتهد في المسائل الأصولية فهل لغير المجتهد تطبيق هذه المسائل الأصولية على مصاديقها وعناصرها وأستنباط الأحكام منها ؟
قد يقال بذلك إذا كان غير المجتهد متمكن من تطبيق المسائل الأصولية على عناصرها، وإستنباط الأحكام الفقهية نتيجة لهذا العملية التطبيقية .
ولكنّ ذلك بعيدٌ، فإنّ غير المجتهد إذا لم يتمكن من تكوين القواعد العامة في الإصول على وفق شروطها وحدودها، لم يتمكن من تطبيقها على مصاديقها وعناصرها في الفقه ايضاً، فإنّ المجتهد قد قام بتكوين حجية خبر الثقة في الإصول بعد تنقيح جهات هذا الخبر من السند والدلالة والجهة وماشاكل ذلك، وفي تطبيق هذا الخبر على مصداقه وعنصره في الفقه، كما إذا قام الخبر على وجوب السورة في الصلاة، فلا بد من البحث فيه كما بحث في الإصول من أن سنده تامٌ أو لا ودلالته تامةٌ أو لا وعلى تقدير تماميتها فهل له معارضٌ او لا ؟ وهل لها حاكم وقرينة على خلافها أو لا ؟ ولا بدّ من تنقيح جهته من انه صدر لبيان الحكم الواقعي أو لا، ومن هنا قلنا أن ذهنية الإصولي مهما تطورت إنعكست في الذهنية الفقهية في مرحلة التطبيق ولا يمكن التفكيك بينهما، فإذا لم يتمكن من تكوين القواعد العامة الإصولية على وفق شروطها وحدودها، لم يتمكن من تطبيقها على مصاديقها وعناصرها في الفقه ايضاً .
وبكلمةٍ، أنه لا فرق في ذلك بين موارد الأمارات وموارد الإصول العملية، فكما أن في موارد الأمارات يجوز ان يرجع غير المجتهد الى المجتهد في المسائل الإصولية فإذا قلنا ان حجية خبر الثقة وحجية ظواهر الكتاب والسنة مختصةٌ بالمجتهدين فيجوز لغير المجتهد ان يرجع اليه، ويقلده في حجية أخبار الثقة غاية الأمر أن حجية أخبار الثقة ثابتةٌ للمجتهد بالأجتهادِ والبحثِ والتفكيرِ والنظرِ، وثابتةٌ لغيرِ المجتهدِ بالتقليدِ، هذا إذا قلنا بأن حجيةَ أخبار الثقة في الشبهات الحكمية مختصةٌ بالمجتهدين، وأما إذا قلنا بشمولها لغير المجتهدين، فإنّها حجةٌ مطلقاً للمجتهدِ وغير المجتهدِ غاية الأمر أن حجيتَها مشروطةٌ بشروطٍ، ولا يتمكنُ العامي من تحقيقِ هذه الشروط وتوفيرها ومنها الفحصُ عن وجود المقيد والمخصص والقرينة على الخلاف ومنها الفحص عن وجود المعارض لها، ومنها الفحصُ عن وجود دليل الحاكم أو الوارد وما شاكل ذلك، فعندئذٍ غيرُ المجتهد يرجع الى المجتهد في هذه المسائل الإصولية، ويقلده فيها غاية الأمر أن هذه المسائل ثابتةٌ للمجتهد بالأجتهاد والوجدان وثابتةٌ لغير المجتهد بالتقليد .
هذا في موارد الأمارات .
وأما في موارد الإصول العملية الشرعية، فيجوز لغير المجتهد أن يرجع الى المجتهد في إثبات الموضوع، فيقلد المجتهد في اليقين في الحالة السابقة والشك في بقائها، فعنئذٍ يكون حال المقلد حال المجتهد غاية الأمر أن المجتهدَ متيقنٌ في حدوث الحالة السابقة وشاك في بقائها حقيقةً ووجداناً، وغيرُ المجتهد متيقنٌ من حدوث الحالة السابقة وشاكٌ في بقائها تقليداً لا حقيقةً ووجداناً، فإذا صار غيرُ المجتهد موضوعاً للإستصحاب، فإن غير المجتهد برجوعه للمجتهد جعلَ نفسُه موضوعا للأحكام الشرعية، فإذا صار موضوعاً للأحكام الشرعية بالتقليد في الاحكام الظاهرية فتكون الأحكام الظاهرية حينئذٍ مشتركةً بينه وبين المجتهد غاية الأمر موضوعها ثابت للمجتهد حقيقةً وواقعاً وثابتٌ لغير المجتهد بالتقليد .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo