« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث التفسیر

47/04/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الثالث والسبعون): العهود التي بين الله والإنسان

الموضوع: الدرس (الثالث والسبعون): العهود التي بين الله والإنسان

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾[1] . لقد تكرر لفظ العهد والميثاق في عدة آيات، فلا بد من معرفة معنى العهد، وما المقصود بالعهود التي بين الله والإنسان؟ أي أن هناك ميثاقاً وعهداً قد أُبرم بين العبد وهو الإنسان وبين مولاه وهو الله عز وجل.

التعبير بالميثاق من باب تشبيه المعقول بالمحسوس مثل الحبل، ومن هنا تُنسَب للميثاق آثار الحبل، فكما أن الحبل يربط بين شيئين فإن العهد والميثاق يُحقق الارتباط بين فردين أو جماعتين أو فرد وجماعة أي بين الطرفين، وكما أن الحبل قابل للنقض والقطع فإن العهد أيضاً قابل للنقض والقطع.

[أنواع العهود في القرآن]

لقد ذكر القرآن الكريم أنواعاً كثيرة من العهود التي يتحتم على الإنسان الالتزام بها، وهذا بحث قرآني من باب تفسير القرآن بالقرآن، فلا بد أن نراجع الآيات التي ذُكر فيها مفردة العهد والميثاق، وهي كما يلي:

- قال تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾[2] .

- ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ﴾[3] .

- ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾[4] .

وإذا راجعنا آيات أُخَر سنجد أنها تدل على أن بعض العهود الإلهية قد أُخذت من أنبياء الله تبارك وتعالى، كما تدل عليه الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ﴾[5] .

نعم، في بعض الآيات هناك عهود خاصة بأقوام وجماعات معينة كالعهد إلى أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾[6] .

وهناك آيات تشير إلى عهود عامة تشمل جميع البشر، كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ﴾[7] .

بعض الآيات أكدت على حفظ الميثاق والوفاء بالعهود، كقوله تعالى:

- ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾[8] .

- ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾[9] .

- ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾[10] .

- ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾[11] .

- ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾[12] .

إذاً هناك حث وتأكيد على الوفاء بالعهد والميثاق، فما هو معنى العهد والميثاق؟

[وجوه أربعة لمعنى العهد والميثاق]

في الآية الكريمة موطن بحثنا ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾[13] ، تطرقنا في الدرس السابق وقلنا إن المراد به الدين. واليوم نطرح وجوه أربعة يمكن أن تُطرح لمعنى العهد والميثاق:

[المعنى الأول: عالم الذر]

المراد بالعهد هو الميثاق الذي أُخذ على الناس في عالم الذر، ويستند أصحاب هذا القول إلى الآية ١٧٢ من سورة الأعراف وبعض الأحاديث في تفسير العياشي[14] .

ومفاد هذا القول أن الله عز وجل أخرج من صُلب آدم عليه السلام ذرات صغيرة ثم أخذ العهد على الأرواح المتعلقة بتلك الذرات.

الإنسان - كل إنسان - يمر بستة عوالم:

الأول: عالم الأرواح.

الثاني: عالم الأبدان.

الثالث: عالم الأرحام.

الرابع: عالم الدنيا.

الخامس: عالم البرزخ أو القبر.

السادس: عالم القيامة.

هذه عوالم ستة، فعالم الذر أي عالم من العوالم الستة؟ قطعاً عالم الذر ليس هو عالم الأرحام أو الدنيا أو القبر أو الآخرة، فعالم الذر هل هو عالم الأرواح أو هو عالم الذرات؟

عالم الأرواح يسبق عالم الأبدان على الأقل بألفي عام، يعني الله عز وجل أولاً خلق الأرواح وبعد ألفي عام خلق الأبدان، فبلحاظ عالم الأبدان أول بدن خُلق هو بدن أبينا آدم عليه السلام ثم جاءت ذريته، لكن بحسب عالم الأرواح وعالم الأنوار فإن أول ما خلق الله نور نبينا محمد صلى الله عليه وآله، ثم استل النور - نور علي، ثم استل منه نور فاطمة، ثم الحسن، ثم الحسين.

[سؤال:] إذاً عالم الذر هل هو عالم الأرواح أو عالم الأبدان؟

الجواب: عالم الذر هو عالم الأبدان وليس عالم الأرواح، لكن هناك بدن خفيف لطيف وهناك بدن كثيف جسيم، نحن الآن في عالم الأبدان الكثيفة الثقيلة، لكن أول ما خلق الله بدن أبينا آدم عليه السلام جعل في صلبه أجسام خفيفة لطيفة بهيئة ذرات فسُمي بعالم الذر.

في عالم الذر الله عز وجل استنطق الناس بعد أن خلقهم - خلق أرواحهم ثم خلق أبدانهم في هيئة ذرات - أي جعل تلك الأرواح في تلك الذرات الخفيفة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ﴾[15] إلى آخر الآية.

فبعض المفسرين يقول: هذه الآية ١٧٢ من سورة الأعراف ناظرة إلى ذلك العهد الذي أخذه الله، ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْۖ قَالُوا بَلَىٰ﴾[16] ، هذا العهد الذي أخذه الله في عالم الذر من آدم وبني آدم في ذلك العالم - عالم الذر - حيث تعلقت الأرواح بالذرات الصغيرة في موطن وهو صُلب آدم عليه السلام.

إذاً القول الأول: المراد بالعهد هو العهد الذي أخذه الله من الناس بالتعبد له والإقرار له بالربوبية والعبودية في عالم الذر، هذا الرأي الأول.

[المعنى الثاني: العقل والفطرة]

المراد بالعهد الميثاق الذي أخذه الله بواسطة العقل والفطرة، أي المراد الحجة الباطنية، فالله عز وجل جعل للإنسان حجة باطنة وهي العقل والقلب والضمير، وحجة ظاهرة وهم الأنبياء والمرسلون والأئمة الطاهرون.

فكل إنسان له وازع نفسي، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾[17] ، هذا بالنسبة إلى ماذا؟ العقل والضمير.

وأما بالنسبة إلى الفطرة أي الخلقة الطبيعية الطاهرة، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚلَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[18] .

إذاً القول الثاني يرى أن المراد بالعهد هو العقل والفطرة أي الحجة الباطنة، فالله عز وجل يحتج بالعقل والفطرة كما يحتج بالحجة الظاهرة وهم الأنبياء والرسل، قال تعالى: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[19] .

والمراد بالعقل هنا ليس خصوص العقل النظري بل يراد به العقل العملي، فالعقل واحد والخلاف في مدركاته، فحينما يقسم العقل إلى نظري وعملي يراد بالعقل القوة المدركة، وما يدركه العقل إما ما ينبغي أن يُعلم وينظر ككون الله واحد، أو ما ينبغي أن يُعمل ويُفعَل كحسن العدل وقبح الظلم وحسن الأمانة وقبح الخيانة وحسن الصدق وقبح الكذب، هذه مقولات لا يُقال فيها: ينبغي أن تُعلَم، ما الفائدة؟ تعلم أن الصدق حسن وتكذب، ما الفائدة؟ فالمراد القوة المدركة الشاملة للحكمة النظرية والحكمة العملية.

الخلاصة: الرأي الأول يرى أن المراد بالعهد هو العهد الذي أُخذ من الناس في عالم الذر. الرأي الثاني يرى أن المراد بالعهد هو الحجة الباطنة من عقل وفطرة.

 

[المعنى الثالث: الحجة الأعم من العقل والنقل]

المراد بالعهد هو الحجة الأعم من العقل والنقل، ففي علم الأصول - أصول الفقه - يُطلق لفظ الحجة على الدليل الأعم من الدليل النقلي والدليل العقلي، فيُراد بالعهد الحجة الأعم من الوحي والكتاب السماوي والعقل، أي جميع الحجج الظاهرة والباطنة معاً.

ومن هنا يُعلم أن الرأي الثالث يستبطن الرأي الثاني، فالرأي الثاني للعهد يختص بخصوص الحجة الباطنة، والرأي الثالث للعهد يعم ويشمل الحجة الظاهرة والباطنة معاً.

[المعنى الرابع: الوحي الخاص]

المراد من العهد هو الوحي الخاص، أي خصوص الشرائع السماوية التي بعث الله الأنبياء بها، فما كان من الفاسقين إلا أن كفروا بالأنبياء والرسل.

إذاً المراد بالعهد في القول الرابع هو خصوص الدين الإلهي، وهذا المعنى الرابع موجود ضمن المعنى الثالث، إذ المعنى الثالث يرى العهد هو الأعم من الحجة العقلية والحجة النقلية، أعم من الحجة الباطنة والحجة الظاهرة.

إذاً المعنى الرابع مصداق من مصاديق المعنى الثالث، كما أن المعنى الثاني مصداق من مصاديق المعنى الثالث.

[تنقيح المفهوم العام للعهد]

وإن أردنا أن ننقِّح مفهوم العهد أو الميثاق بشكل عام فإنه يمكن القول أن المعنى الثالث هو الصحيح، فالمراد بعهد الله وميثاق الله الأعم من الحجة الظاهرة والباطنة والأعم من الدليل العقلي والدليل النقلي.

ولكن لو راجعنا سياق الآية الكريمة فإنه ليس ببعيد أنها ناظرة إلى خصوص المعنى الرابع، أي خصوص الدين والوحي الخاص، إذ أن بداية آية ٢٦ ناظرة إلى أن الله عز وجل لكي يهدي الناس لا يستحيي أن يضرب بعوضة فما فوقها، وهذا ناظر إلى ماذا؟ إلى الدين والعهد الخاص للناس والوحي.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾[20] .

إذاً الهداية والإضلال بالوحي الخاص، فالآية ٢٦ ناظرة إلى ماذا؟ إلى العهد الخاص، ثم تأتي الآية ٢٧ لبيان الفاسقين وصفاتهم، قالت: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[21] .

فهذه الآية في مقام شرح حال الفاسقين وتتمة للآية ٢٦، فبلحاظ السياق يُحمل العهد على خصوص الدين، أي خصوص المعنى الرابع.

[عطف الخاص على العام في الآية]

وهذه الآية عُطف فيها الخاص على العام، فقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾[22] هذه الصفة الأولى. الصفة الثانية: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾[23] ، هذه نتيجة للأمر الأول، إذا نقضوا عهد الله فإنهم سيقطعون ما أمر الله به أن يوصل، بعد وإذا قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ستكون النتيجة أنهم يفسدون في الأرض.

فهذه الأمور الثلاثة من باب عطف الخاص على العام، فإذا نقض الكافر دين الله من بعد ميثاقه سيأتي الأمر الخاص: قطع ما أمر الله به أن يوصل، قطع ما أمر الله به أن يوصل مصداق من مصاديق نقض عهد الله، بعد الفساد في الأرض مصداق من مصاديق نقض عهد الله.

[أهم خصائص الفسّاق]

لكن ذُكرت هذه الثلاثة في عرض بعضها لبيان الأهمية، يعني أهم مميزات وخصائص الفسّاق:

أولاً: نقض دين الله ومحاربة دين الله

ثانياً: قطع ما أمر الله به أن يوصل كصلة الأرحام والدين

وثالثاً: نشر الفساد في الأرض

وإذا راجعنا الآيات الكريمة سنجد أن بعضها أشارت إلى الدين ونصّت عليه على أنه حبل الله، وفي مقابل ذلك أشارت الآيات إلى نقض العهد أي مخالفة ذلك الميثاق المبرم.

[الآيات الدالة على أن العهد هو الدين]

قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ﴾[24] ، إذاً المراد بنعمة الله وميثاقه دين الله.

قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾[25] ، واضح أن حبل الله ظاهر في دين الله وليس في خصوص العقل.

هذه الآية أوضح، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾[26] .

هذه الآيات بشكل صريح تدل على أنه يوجد عهد وميثاق متين وقوي بين الرب والمربوب، بين الخالق والمخلوق، وهذا العهد يتلقى من خلال الوحي والدين.

النتيجة النهائية:

﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾[27] يعني ينقضون دين الله، ودين الله موافق للعقل والفطرة، لكن المراد بعهد الله دين الله تبارك وتعالى.

 


logo