« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث التفسیر

47/04/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الواحد والسبعون): بحث روائية في تفسير الآية (26) من سورة البقرة

الموضوع: الدرس (الواحد والسبعون): بحث روائية في تفسير الآية (26) من سورة البقرة

 

بحث روائي في تفسير الآية ستة وعشرين من سورة البقرة، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾[1] . آمنا بالله، صدق الله العلي العظيم.

خلاصة تفسير الآية: إن الله عز وجل لا يترك أن يضرب مثلاً لهداية الناس ولو كان المثل بأمر صغير كالبعوضة أو شيء أكبر منها فوقها أو أحقر منها، لكن الذين آمنوا يعلمون من هذا المثل أنه حق من الله عز وجل، وأما الذين كفروا فيقولون: ماذا يريد الله بهذا المثل؟ وهذا المثل يوجب ضلال الكثيرين ويوجب هداية الكثيرين، لكن الذي يضل به هو خصوص الفاسقين الذين خرجوا عن طاعة الله. فالمراد بالهداية والضلال هنا هو الهداية والضلال الجزائي لا الابتدائي. قلنا: الهداية الابتدائية والجزائية من الله، لكن الضلال الابتدائي لا يكون من الله وإنما من الشيطان وأعوانه، والضلال الجزائي يكون من الله أيضاً إذا لم يهتدِ الإنسان وسعى في غيه وضلاله.

ولنقرأ مجموعة من الروايات الواردة في تفسير هذه الآية:

الرواية الأولى

روى أبو علي الطبرسي في مجمع البيان[2] ، قال: روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: "إنما ضرب الله المثل بالبعوضة لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله سبحانه أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته"، هذه الرواية تشير إلى المغزى والغاية من ذكر البعوضة، وهي أنها على صغر حجمها فيها جميع أعضاء الفيل وزيادة عضوين.

الرواية الثانية

ما رواه علي بن إبراهيم القمي، قال: قال الصادق عليه السلام: "إن هذا القول من الله عز وجل رد على من زعم أن الله تبارك وتعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم، فقال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾"[3] .

وهذه الرواية ناظرة إلى الهداية الابتدائية، وأن الله عز وجل لكي يهدي الناس لا يتوقف في إيراد المثل ولو بشيء حقير كالبعوضة، وهي تنفي الضلال الابتدائي عن الله عز وجل، فالله عز وجل لا يضل العباد بل يهديهم، نعم إذا ازدادوا في غيهم وضلالهم وكلهم إلى أنفسهم، وهذا هو الضلال الجزائي، يعني جزاءً لاستمرارهم في غيهم وضلالهم يكلهم إلى أنفسهم فيزدادوا ضلالاً.

الرواية الثالثة

رواية المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه السلام: "إن هذا المثل ضربه الله لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فالبعوضة أمير المؤمنين عليه السلام، وما فوقها رسول الله صلى الله عليه وآله، والدليل على ذلك قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ يعني أمير المؤمنين عليه السلام كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله الميثاق عليهم له، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، فرد الله عليهم فقال عليه السلام: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ في علي، ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ يعني من صلة أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام، ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾"[4] .

وقد عبر سماحة آية الله الشيخ علي أكبر السيفي المازندراني في كتابه منهاج التبيان في تفسير القرآن[5] عن هذه الرواية بالمعتبرة، لكننا لا نقبل تفسير القمي الواصل إلينا، وقد بحثناه في الرجال، إذ نرى أن أصل تفسير القمي قد صدر من علي بن إبراهيم القمي، لكن النسخة الواصلة إلينا من تفسير القمي هي نسخة مختلطة من تفسير القمي لعلي بن إبراهيم القمي، وتفسير أبي الجارود الزيدي الذي يروي عن الإمام الباقر، ومن رسالة المحكم والمتشابه، والجامع لهذه النسخ الثلاث على الأقل شخص اسمه أبو الفضل العباس وهو مجهول في الرجال، فلا يمكن الاعتماد على هذه النسخة.

وقد ذهب شيخنا الأستاذ الداوري حفظه الله إلى تقسيم تفسير القمي الواصل إلينا إلى قسمين: القسم الأول وقد استخرج منه روايات تفسير القمي، والقسم الثاني استخرج منه ما عدا روايات تفسير القمي كروايات أبي الجارود، فقال بحجية القسم الأول دون الثاني.

أقول: لا يمكن الاعتماد على ذلك، إذ أن الجامع بين التفسيرين مجهول، فكيف يؤخذ بجمعه ونحن لا نعرف وثاقته؟! لذلك حتى لو صح سند رواية المعلى بن خنيس فإننا لا نعبر عنها بالمعتبرة، فتسقط عن الاعتبار فلا يمكن الأخذ بها.

هذا تمام الكلام في مناقشة الرواية الأولى من ناحية السند.

وأما من ناحية المضمون، فلعل الحكمة في تمثيل أمير المؤمنين عليه السلام بالبعوضة والنبي صلى الله عليه وآله بما فوق البعوضة لعله إشارة إلى احتقاره واستصغاره لنفسه مع ماله من عظم القدر وجلالة المنزلة في مقابل عظمة الله عز وجل، وهذا البيان قد جاء في كلام العلامة المجلسي، وسيأتي عند مناقشة الرواية الأخيرة أن أصل هذا الكلام ليس في تفسير هذه الآية وإنما هو في رواية مستقلة عن أمير المؤمنين وعن النبي، وقد قرنا بالله تبارك وتعالى.

قال العلامة المجلسي رحمه الله: "مثل الله بهم عليهم السلام لذاته تعالى من قوله: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وأمثاله، لئلا يتوهم أن لهم عليهم السلام في جنب عظمته تعالى قدراً، أو لهم مشاركة له تعالى في كنه ذاته وصفاته، أو الحلول أو الاتحاد تعالى الله عن جميع ذلك، فنبه الله تعالى بذلك على أنهم وإن كانوا أعظم المخلوقات وأشرفها فهم في جنب عظمته تعالى كالبعوضة وأشباهها، والله تعالى يعلم حقائق كلامه وحججه عليهم السلام"[6] .

إذاً هذه الرواية ساقطة سنداً ودلالةً، ولكن يستفاد منها أن قوله تعالى: ﴿وَمَا فَوْقَهَا﴾ ليس إشارة إلى الأحقر بل إلى الأعلى، إذ مثلت البعوضة بأمير المؤمنين وما فوقها بالنبي صلى الله عليه وآله، فيكون ليس المراد بالبعوضة الحقير وما فوقها الأحقر، بل يراد بالبعوضة الحقير وما فوقها هو الذي أكبر منها.

الرواية [الثانية] الرابعة

ما ورد في تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وقد عبر عنها الشيخ سيفي المازندراني حفظه الله بالمعتبرة المروية في تفسير العسكري، لكننا لا نرى اعتبار التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري، فتسقط هذه الرواية سنداً.

وأما البحث الدلالي، ففي هذه الرواية الطويلة التي سنقرأها في ذيلها ما يصحح الرواية التي قبلها، إذ جاء في ذيل هذه الرواية أن بعضهم قال: ما شاء الله ومحمد، ما شاء الله وعلي، فجعلوا مشيئة الله والنبي محمد والإمام علي واحدة، فالإمام عليه السلام قال: أنا كالبعوضة أمام الله، فحينما مثل نفسه بالبعوضة أو النبي بالذبابة، هذا لا يعني أن هذه الآية تشير إلى أن البعوضة هو الإمام علي والذبابة هو النبي صلى الله عليه وآله - وأستغفر الله على هذا الكلام - بل هذا حديث آخر، والإمام الباقر عليه السلام يقول: إن من فسر هذه الآية بأمير المؤمنين هذا مشتبه، ولنقرأ الرواية بتمامها لكي يتضح المطلب.

في تفسير الإمام العسكري[7] ، قال: قال الباقر عليه السلام: "فلما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾، وذكر الذباب في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ الآية، ولما قال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖوَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، وضرب المثل في هذه السورة، بالذي استوقد ناراً وبالصيب من السماء، قالت الكفار والنواصب: وما هذا من الأمثال فيضرب؟! يريدون به الطعن على رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال الله يا محمد: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ أي لا يترك حياءً ﴿أَن يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ للحق – وفي نسخة: للخلق – يوضحه به عند عباده المؤمنين ﴿مَا بعوضة﴾ أي ما هو ﴿بَعُوضَةً﴾ المثل ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ فوق البعوضة وهو الذباب يضرب به المثل إذا علم أن فيه صلاح عباده المؤمنين ونفعهم".

إذاً هنا الإمام الباقر يذكر أن البعوضة يعني أصغر المخلوقات، وما فوقها الذبابة، وما يطبقه على النبي والإمام علي عليه السلام.

ثم يقول الإمام الباقر: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وبولاية محمد صلى الله عليه وآله وعلي وآلهما الطيبين، وسلم لرسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة أحكامهم وأخبارهم وأحوالهم، ولم يقابلهم في أمورهم، ولم يتعاط الدخول في أسرارهم - يعني لم يخض في أسرارهم - ولم يفش شيئاً مما يقف عليه منها إلا بإذنهم ﴿فَيَعْلَمُونَ﴾ يعلم هؤلاء المؤمنون الذين هذه صفتهم ﴿أَنَّهُ﴾ المثل المضروب ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ أراد به الحق وإبانته والكشف عنه وإيضاحه.

إذاً يبين أن هذا مثل: البعوضة مثل، وما فوقها وهو الذبابة مثل.

ثم قال عليه السلام: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بمحمد صلى الله عليه وآله بمعارضتهم في علي بـ لم وكيف، وتركهم الانقياد في سائر ما أمر به، ﴿فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، يقول الذين كفروا: إن الله يضل بهذا المثل كثيراً ويهدي به كثيراً، فلا معنى للمثل لأنه وإن نفع به من يهديه فهو يضر به من يضله به.

أقول: هذا المقطع من هذه الرواية يدل على أن هذه المقولة هي للكفار وليست مقولة رب العالمين، وهي: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، أي أن الكفار قالوا: هذا مثل لا يصلح الاستشهاد به لأنه كما يهدي كثيراً أيضاً يضل كثيراً، فلو قلنا باعتبار الرواية لأمكن القول بأن هذا القول هو قول الكفار.

وأيضاً يستفاد من هذه الرواية الجري والتطبيق، إذ أنها طبقت معارضة ولجاجة الكفار على مصداق بارز وهو إنكار ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، مع أن الآية واردة في سياق الكفار لا المنافقين والفاسقين، لكن هذا التفسير وهذه الرواية طبقت الرواية على من أنكر ولاية أمير المؤمنين، لأنه ورد في ذيل الآية: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ أي الخارجين عن الطاعة، والنواصب والمنافقون مرقوا وفسقوا وخرجوا عن طاعة الدين.

ثم قال الإمام الباقر عليه السلام - الرواية طويلة -: "فرد الله تعالى عليهم قيلهم فقال: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ﴾ يعني ما يضل الله بالمثل ﴿إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ الجانين على أنفسهم بترك تأمله وبوضعه على خلاف ما أمر الله بوضعه عليه".

إذاً واضح من هذا الذيل أن مقول القول هو للكفار، وأن الله عز وجل في الآية عقب عليه بقوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾.

قال الإمام الباقر: "ثم وصف هؤلاء الفاسقين الخارجين عن دين الله وطاعته فقال: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ المأخوذ عليهم بالربوبية ولمحمد صلى الله عليه وآله بالنبوة ولعلي عليه السلام بالإمامة ولشيعتهما بالمحبة والكرامة ﴿مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ إحكامه وتغليظه، ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ من الأرحام والقرابات أن يتعاهدوهم ويقضوا حقوقهم".

هذا الآن الرواية في مقام تفسير الآية التي بعدها آية سبع وعشرين.

"وأفضل رحم أوجبه حقاً رحم رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن حقهم بمحمد كان كما أن حق قرابات الإنسان بأبيه وأمه، ومحمد صلى الله عليه وآله أعظم حقاً من أبويه، كذلك حق رحمه أعظم وقطيعته أفظع وأفضح. ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بالبراءة ممن فرض الله إمامته واعتقد إمامة من قد فرض الله مخالفته، ﴿أُولَٰئِكَ﴾ أهل هذه الصفة ﴿هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ قد خسروا أنفسهم وأهليهم لما صاروا إلى النيران وحرموا الجنان، فيا لها من خسارة! ألزمتهم عذاب الأبد وحرمتهم نعيم الأبد".

قال عليه السلام: "وقال الباقر عليه السلام: ألا ومن سلم لنا ما لا يدري ثقة بأنا محقون عالمون لا نقف به إلا على أوضح المحجات، سلم الله تعالى إليه من قصور الجنة أيضاً ما لا يعلم قدرها هو ولا يقدرها إلا خالقها، ألا ومن ترك المراء والجدل واقتصر على التسليم لنا وترك الأذى حبسه الله على الصراط، فإذا حبسه الله على الصراط فجاءته الملائكة تجادله على أعماله وتواقفه على ذنوبه، فإذا النداء من قبل الله عز وجل: يا ملائكتي، عبدي هذا لم يجادل وسلم الأمر لأئمته، فلا تجادلوه وسلموه في جناني إلى أئمته، يكون منيخاً فيها بقربهم كما كان مسلماً في الدنيا لهم.

وأما من عارضنا بـ لِمَ وكيف ونقض الجملة بالتفصيل، قالت له الملائكة على الصراط: واقفنا يا عبد الله وجادلنا على أعمالك كما جادلت أنت في الدنيا الحاكين لك عن أئمتك، فيأتيهم النداء: صدقتم، بما عامل فعاملوه، إلا فواقفوه، فيوافق ويطول حسابه ويشتد في ذلك الحساب عذابه، فما أعظم هناك ندامته وأشد حسراته، لا ينجيه هناك إلا رحمة الله إن لم يكن فارق في الدنيا جملة دينه، وإلا فهو في النار أبد الآباد".

قال عليه السلام: "قال الباقر عليه السلام: ويقال للموفي بعهوده في الدنيا في نذوره وأيمانه ومواعيده: يا أيها الملائكة، وفى هذا العبد في الدنيا بعهوده فأوفوا له ها هنا بما وعدناه وسامحوه ولا تناقشوه، فحينئذ تصيره الملائكة إلى الجنان.

وأما من قطع رحمه، فإن كان وصل رحم محمد صلى الله عليه وآله وقد قطع رحمه، شفع أرحام محمد إلى رحمه وقالوا: لك من حسناتنا وطاعاتنا ما شئت فاعف عنه، فيعطونه منها ما يشاء فيعفو عنه، ويعطي الله المعطين ما ينفعهم ولا ينقصهم.

وإن كان وصل أرحام نفسه وقطع أرحام محمد صلى الله عليه وآله بأن جحد حقهم ودفع عن واجبهم وسمى غيرهم بأسمائهم ولقبهم بألقابهم ونبذ بألقاب قبيحة مخالفيهم من أهل ولايتهم، قيل له: يا عبد الله، اكتسبت عداوة آل محمد الطهر أئمتك لصداقة هؤلاء، فاستعن بهم الآن ليعينوك، فلا يجد معيناً ولا مغيثاً، ويصير إلى العذاب الأليم المهين".

الشاهد هنا - نعم - ذيل الرواية: قال عليه السلام: "قال الباقر: ومن سمانا بأسمائنا ولقبنا بألقابنا ولم يسمِّ أضدادنا بأسمائنا ولم يلقبهم بألقابنا إلا عند الضرورة التي عنده مثلها نسمي نحن ونلقب أعداءنا بأسمائنا وألقابنا، فإن الله تعالى يقول لنا يوم القيامة: اقترحوا إلى أوليائكم هؤلاء ما تعينوهم به، فنقترح لهم على الله عز وجل ما يكون قدر الدنيا كلها فيه كقدر خردلة في السماوات والأرض، فيعطيهم الله تعالى إياه ويضاعفه لهم أضعافاً مضاعفات".

الآن الشاهد: فقيل للباقر عليه السلام: "فإن بعض من ينتحل موالاتكم يزعم أن البعوضة علي عليه السلام وأن ما فوقها وهو الذباب محمد رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال الباقر عليه السلام: سمع هؤلاء شيئاً لم يضعوه على وجهه، إنما كان رسول الله صلى الله عليه وآله قاعداً ذات يوم هو وعلي عليه السلام إذ سمع قائلاً يقول: ما شاء الله وشاء محمد، وسمع آخر يقول: ما شاء الله وشاء علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تقرنوا محمداً وعلياً بالله عز وجل، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد، ما شاء الله ثم شاء علي، إن مشيئة الله هي القاهرة التي لا تساوى ولا تكافأ ولا تداني، وما محمد رسول الله في الله وفي قدرته إلا كذبابة تطير في هذه المسالك الواسعة - وفي نسخة: في هذه الممالك الواسعة - وما علي في الله وفي قدرته إلا كبعوضة في جملة هذه المسالك - وفي نسخة: جملة هذه الممالك - مع أن فضل الله تعالى على محمد وعلي هو الفضل الذي لا يفي به فضله على جميع خلقه من أول الدهر إلى آخره. هذا ما قال رسول الله في ذكر الذباب والبعوضة في هذا المكان، فلا يدخل في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً﴾"[8] .

أقول: إن قلنا باعتبار الروايتين كما هو مبنى الشيخ السيفي المازندراني تكون الرواية الثانية مقيدة للرواية الأولى وحاكمة عليها. وإن قلنا بعدم اعتبار الروايتين فلا يمكن تطبيق البعوضة على أمير المؤمنين والذبابة على النبي صلى الله عليه وآله، بل نحملها على الفهم المتعارف: إن الله عز وجل لكي يهدي الناس لا يترك أن يذكر مثالاً ولو حقيراً بالبعوضة وما فوقها.

هذا تمام الكلام في التفسير الروائي للآية ستة وعشرين من سورة البقرة.


[5] . منهاج التبيان في تفسير القرآن، الشيخ علي أكبر السيفي المازندراني، ج1، ص422.
logo