« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث التفسیر

47/04/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (التاسع والستون): بحث روائي في تفسير الآية (25) من سورة البقرة

الموضوع: الدرس (التاسع والستون): بحث روائي في تفسير الآية (25) من سورة البقرة

وردت عدة روايات شريفة في تفسير الآية 25 من سورة البقرة، وقد ذكرها المرحوم العلامة السيد هاشم البحراني التوبلاني في البرهان في تفسير القرآن، وقد تطرق إليها أيضاً سماحة آية الله الشيخ علي أكبر السيفي المازندراني في تفسيره "منهاج التبيان في تفسير القرآن" - التفسير الروائي الاجتهادي على أساس القواعد الأصولية. ولننقل هذه الروايات من هذا الكتاب ونستفيد من تعليقات المؤلف حفظه الله.

الرواية الأولى:

المعتبرة المروية في تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام - بناءً على اعتبار هذا الكتاب - قال: قال علي بن الحسين عليه السلام: "﴿وبشر الذين آمنوا﴾ بالله وصدقوك في نبوتك فاتخذوك إماماً وصدقوك في أقوالك وصوَّبوك في أفعالك واتخذوا أخاك علياً بعدك إماماً ولك وصياً مرضياً وانقادوا لما يأمرهم به وصاروا إلى ما أصارهم إليه ورأوا له ما يرون لك إلا النبوة التي افردت بها، وأن الجنان لا تصير لهم إلا بموالاته وموالاة من ينص لهم عليه من ذريته وبموالاة سائر أهل ولايته ومعاداة أهل مخالفته وعداوته، وأن النيران لا تهدء عنهم ولا تعدل بهم عن عذابها إلا بتنكبهم عن موالاة مخالفيهم (تنكب أي أعرض) ومؤازرة شانئهم (المؤازرة: المعاضدة، الشانئ هو المُبغض)، ﴿وعملوا الصالحات﴾ من أداء الفرائض واجتناب المحارم ولم يكونوا كهؤلاء الكافرين بك، بشِّرهم ﴿أن لهم جنات﴾ - بساتين - ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾، من تحت شجرها ومساكنها، ﴿كلما رُزقوا منها﴾ - من تلك الجنان - ﴿من ثمرة﴾ من ثمارها ﴿رزقاً﴾ طعاماً يُؤتَون به ﴿قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل﴾ في الدنيا، فأسماؤه كأسماء ما في الدنيا من تفاح وسفرجل ورمان وكذا وكذا، وإن كان ما هناك مخالفاً لما في الدنيا فإنه في غاية الطيب، وإنه لا يستحيل إلى ما تستحيل إليه ثمار الدنيا من عذرة وسائر المكروهات من صفراء وسوداء ودم، بل لا يتولد من مأكولهم إلا العرق الذي يجري من أعراضهم أطيب رائحة من المسك.

﴿وأُتوا به﴾ - بذلك الرزق من الثمار من تلك البساتين - ﴿متشابهاً﴾، يُشبه بعضه بعضاً بأنها كلها خيار لا رذل فيها (يعني جيدة لا سوء فيها)، وبأن كل صنف منها في غاية الطيب واللذة، ليس كثمار الدنيا التي بعضها نيء وبعضها متجاوز لحد النضج والإدراك إلى الفساد من حموضة ومرارة وسائر ضروب المكاره.

ومتشابهاً أيضاً: متفاوت الألوان مختلفات الطعوم.

﴿ولهم فيها﴾ - في تلك الجنان - ﴿أزواج مطهَّرة﴾ من أنواع الأقذار والمكاره، مطهرات من الحيض والنفاس، لا ولّاجات ولا خرّاجات (ولّاجات من الولوج الدخول، يعني يدخلون فيما لا يعنيهن، خرّاجات: خرّاج ولّاج، يعني كثير الطواف والسعي)، ولا دخّالات ولا ختّالات (ختله يعني خدعه عن غفلة)، ولا متغايرات ولا لأزواجهن فاركات (الفرك هو البغض، فركت المرأة زوجها أي أبغضته)، ولا صخّابات (رجل صخِب وصخّاب يعني كثير اللغط والجلبة، والمراد: السليطة اللسان)، ولا غيّابات ولا فحّاشات، ومن كل العيوب والمكاره بريئات، ﴿وهم فيها خالدون﴾، مقيمون في تلك البساتين والجنان"[1] .

أقول: هذا الحديث في مستهله يجري مجرى الجري والتطبيق، وقد طبَّق الإيمان على خصوص من آمن بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد فسَّرت هذه الرواية تمام الآية ونصّت على أن المراد بالتشابه هو تشابه ثمار الآخرة بثمار الدنيا من ناحية الشكل لكنها مختلفة من ناحية الطعم، كما فسَّرت الأزواج المطهَّرة بأنها مطهَّرة من الأمور المادية والمعنوية، فهي مطهَّرة عن الحيض والنفاس وغير ذلك من القاذورات المادية، ومطهَّرة أيضاً من القاذورات المعنوية كاللجاجة والكره للزوج وغير ذلك.

الرواية الثانية:

طبعاً يمكن مراجعته في منهاج التبيان[2] .

الرواية الثانية معتبرة مروية في تفسير الإمام العسكري أيضاً، قال: قال علي بن الحسين عليه السلام: "معاشر شيعتنا، أما الجنة فلن تفوتكم سريعاً كان أو بطيئاً" (يعني الجنة أبدية)، "ولكن تنافسوا في الدرجات، واعلموا أن أرفعكم درجات وأحسنكم قصوراً ودوراً وأبنية أحسنكم إيجاباً لإخوانه المؤمنين وأكثركم مواساة لفقرائهم.

إن الله عز وجل ليُقرِّب الواحد منكم إلى الجنة بكلمة طيبة يُكلِّم بها أخاه المؤمن الفقير بأكثر من مسيرة ألف عام بقدمه، وإن كان من المعذَّبين بالنار" (يعني إذا كان هو من المعذَّبين بالنار وأكرم أخاه المؤمن الفقير، الله عز وجل يرفع عنه عذاب النار)، "فلا تحتقروا الإحسان إلى إخوانكم فسوف ينفعكم الله تعالى حيث لا يقوم مقام ذلك غيره"[3] .

سؤال: ما الفرق بين المعتبرة الأولى والمعتبرة الثانية؟

الجواب: المعتبرة الأولى نظرت إلى الإيمان، والمعتبرة الثانية نظرت وركَّزت على العمل الصالح. في المعتبرة الأولى ركزت على اشتراط الاعتقاد بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام في الإيمان، وذكرت بعض الطاعات: أداء الفرائض واجتناب المحارم. لكن في الرواية الثانية ركَّزت المعتبرة على العمل الصالح، وأن من أهم الأعمال الصالحة قضاء حاجة المؤمن خصوصاً الفقير.

الرواية الثالثة:

ما رواه الصدوق مرسلاً في الفقيه[4] .

قال الصدوق: سُئل الصادق عليه السلام عن قوله عز وجل: ﴿ولهم فيها أزواج مطهَّرة ﴾، قال: " الْأَزْوَاجُ الْمُطَهَّرَةُ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَ لَا يُحْدِثْنَ ".

وهذه الرواية نفت القاذورات المادية عن الأزواج في الآخرة وفي الجنة.

الرواية الرابعة:

ما رواه الكليني في الكافي بإسناده عن أبي هاشم، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: " إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ لِأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ خُلِّدُوا فِيهَا أَنْ يَعْصُوا اللَّهَ أَبَداً وَ إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ بَقُوا فِيهَا أَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ أَبَداً فَبِالنِّيَّاتِ خُلِّدَ هَؤُلَاءِ وَ هَؤُلَاءِ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى- قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‌ شاكِلَتِهِ‌ قَالَ عَلَى نِيَّتِهِ "[5] .

هذه الرواية الرابعة مصداق لقوله صلى الله عليه وآله: "إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى"[6] ، فالنية الصالحة توجب الخلود في الجنة، والنية السيئة توجب الخلود في النار، والسر في ذلك: أنه لو رُدُّوا لعادوا، المؤمن لو يُرَد ينوي أن يستمر في الطاعة، والفاسق لو يُرَد ينوي أن يستمر في فسقه.

الرواية الخامسة:

معتبرة سليم بن قيس عن علي بن الحسين في حديث بقوله: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: "إن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار وفرقة في الجنة، وثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين تنتحل محبتنا أهل البيت، واحدة منها في الجنة واثنتا عشرة في النار."

إلى أن يقول: قلت: أيدخل النار إلا كافر أو مشرك؟

قال عليه السلام: "لا يدخل النار إلا كافر، إلا أن يشاء الله" (أي أنه يُخلَّد في النار الكافر، وأما المسلم المذنب والفاسق يمحَّص، يدخل النار إلى أن يُمحَّص ثم ينتقل إلى الجنة).

قلت: فمن لقي الله مؤمناً عارفاً بإمامه مطيعاً له أمِن أهل الجنة هو؟

قال عليه السلام: "نعم، إذا لقي الله وهو مؤمن"، قال الله عز وجل: ﴿آمنوا وعملوا الصالحات ﴾، ﴿الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾، ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾.

قلت: فمن لقي الله منهم على الكبائر؟

قال عليه السلام: "هو في مشيئته، إن عذَّبه فبذنبه، وإن تجاوز عنه فبرحمته".

قلت: فيُدخله النار وهو مؤمن؟

قال عليه السلام: "نعم، بذنبه، لأنه ليس من المؤمنين الذين عنى أنه لهم ولي وأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هم المؤمنون الذين يتقون الله والذين يعملون الصالحات والذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم"[7] .

هذه الرواية المعتبرة دلت على تقييد قوله تعالى: ﴿بشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ بما دلّ من الآيات على اشتراط التقوى وعدم لبس الإيمان بظلم في استحقاق الجنة وثواب الآخرة، وهذا التخصيص هو مقتضى القاعدة العقلائية في الحوار بين هاتين الطائفتين من الروايات:

طائفة تقول: "بشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار".

وطائفة تقول: أن هذا إذا ارتكب ذنباً يدخل النار.

فتُقيَّد، يعني: بشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.

فهذه الرواية مقتضى القاعدة الأصولية بحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد.

ويُستفاد من هذه الروايات نكات:

ذكر خمساً منها الشيخ سيفي مازندراني حفظه الله في منهاج التبيان[8] ،

الأولى: إن البشارة بالجنة من الله إنما هي للذين آمنوا بولاية علي بن أبي طالب وأولاده المعصومين عليهم السلام، بعد الإيمان بالله تعالى ورسوله المصطفى صلى الله عليه وآله، وأنه لا تتحقق حقيقة الإيمان بالله ورسوله إلا بالإيمان بولاية علي والأئمة المعصومين عليهم السلام، هذا هو تفسير الإيمان في هذه الآية: أخذ فيه قيد الولاية لعلي والأئمة عليهم السلام.

الثانية: أن الإيمان بالله ورسوله والأئمة عليهم السلام لا يكفي لاستحقاق الجنة، بل يُشترط أيضاً في استحقاق الجنة الإيمان والعمل بجميع الأعمال الصالحة، يعني عندنا حُسن فاعلي وهو الإيمان، وعندنا حُسن فِعلي وهو الإتيان بالأعمال الصالحة.

والمراد بالعمل الصالح أداء الواجبات وعدم فعل المحرمات عن عمد من غير توبة، إذ التوبة في رأس الأعمال الصالحة، هذه المقدمة الثانية نستفيدها من المعتبرة الأولى والأخيرة، دخول الجنة منوط بالإيمان والعمل الصالح.

الثالثة: إن ثمار الجنة يُشبه بعضها بعضاً في الجودة وحُسن الطيب واللذة والطعم الجيد، وأن أزواج الجنة مطهَّرة ومنزَّهة من أي قذارة ودناءة وعيب ورذالة، كما جاء في المعتبرة الأولى، لكن الرواية دلت على أن التشابه بلحاظ الدنيا لا بلحاظ الآخرة أو السنخية بين العمل وجزاء العمل.

الرابعة: إن الإحسان إلى الأخ المؤمن وإكرامه بالقول الطيب اللين من أكثر ما له دخل في استحقاق درجات الجنة.

أقول: أسرع شيء يُدخل الجنة بعد الإيمان بالله وأداء الواجبات والفرائض وترك المحرمات هو خدمة الأخ المؤمن، يُدخلك الجنة سريع، قضاء حاجة المؤمن وقضاء حوائج الناس من أسرع الطرق للدخول إلى الجنة.

الخامسة: إن علة الخلود في كل من الجنة والنار إنما هي نية فعل كل من الطاعة والمعصية أبداً على فرض البقاء في الحياة الدنيا، يعني لو فُرِض أنه يبقى في الدنيا لبقي على عصيانه، ولو فُرِض أنه يبقى في الدنيا لبقى على طاعته.

هذا تمام الكلام في البحث الروائي في الآية خمسة وعشرين من سورة البقرة.


[2] . منهاج الصواب، ج1، ص415 إلى 419.
[8] . منهاج الصواب، ج1، ص418.
logo