< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/10/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة - فقه حديث الرفع

المقام الثاني في تعيين ما هو الصحيح من الإحتمالات الثلاثة في حديث الرفع

قد يُستبعد الإحتمال الأول لأنه مخالف للظهور فهو مبني على التقدير والأصل عدمه، ومعه يدور الأمر بين الإحتمال الثاني والثالث.

وفي المقابل قد يقال هناك مخالفة للظهور في الاحتمالين الثاني والثالث لأنَّ حمل الرفع على الرفع التشريعي دون الحقيقي أو حمل العناوين في الحديث على أنَّ المراد منها وجوداتها التشريعية دون الحقيقية مخالفة أيضاً، فلماذا نرجح الاحتمالين الثاني والثالث على الإحتمال الأول؟

هذا الكلام له وجه في الكلام الصادر في مقام الإخبار، إلا أنه يصعب الإلتزام به بالنسبة الى كلام الشارع الصادر منه في مقام التشريع، فحمل الرفع على الرفع التشريعي في هذا المقام ليس فيه مخالفة للظاهر، وكذا لو قلنا إنَّ المرفوع هو الوجودات التشريعية لهذه العناوين الذي يعني أنها لم تقع موضوعاً للأثر الشرعي في عالم التشريع، فكل ذلك ليس فيه مخالفة للظاهر كالمخالفة في إرتكاب التقدير، فيبدو أنَّ الاحتمالين الثاني والثالث أقرب من الإحتمال الأول، وإن كان فيهما مخالفة للظهور من جهة أنَّ الظاهر من الحديث هو الرفع الحقيقي المسند الى الشيء بوجوده الحقيقي، ولكن المقام هو مقام التشريع فلا مانع من حمل الرفع على الرفع التشريعي أو أنَّ المرفوع هو الوجود التشريعي لهذه العناوين.

ومن هنا لابد من المفاضلة بين الاحتمالين الثاني والثالث، فنقول:

يبدو من الأصحاب البناء على الإحتمال الثالث وذلك بقرينة التزامهم في مورد ظهور الثمرة - أي المضطر الى ترك السورة في الصلاة - بأنه لا يمكن تصحيح الإتيان بالباقي بحديث الرفع،

فعلى الإحتمال الثاني يجب الإتيان بالباقي وتصح منه الصلاة وذلك لأنَّ هذا الإحتمال ينزل ما إضطر إليه منزلة المعدوم فإذا إضطر المكلف الى فعل نزَّله الحديث منزلة المعدوم، وإذا إضطر الى الترك كما في هذا الفرع نزَّله منزلة العدم، وهو يعني إعتباره موجوداً فيجب الإتيان بالباقي وتصح منه الصلاة.

وأما على الإحتمال الثالث فلا يثبت به إلا إنتفاء الأحكام والآثار الشرعية المترتبة على ما إضطر إليه، فإذا إضطر الى شرب الخمر فتنتفي الحرمة والحد، وإذا إضطر الى ترك السورة إنتفت الآثار المترتبة عليه كالحرمة، فلا يجب عليه الإتيان بالصلاة التامة المركبة من عشرة إجزاء ولا يمكن إثبات أكثر من ذلك بحسب هذا الإحتمال، والفقهاء إلتزموا في هذا الفرع بعدم وجوب الباقي وعدم صحة الصلاة الناقصة بمقتضى حديث الرفع، فقد يفهم منه بناؤهم على الإحتمال الثالث، نعم يمكن الإلتزام بذلك بالأدلة الخاصة من قبيل (لا تترك الصلاة بحال) وقاعدة الميسور إذا قلنا بها ولكن هذا بحث آخر، ولو بنوا على الإحتمال الثاني لالتزموا بصحة الصلاة ووجوب الإتيان بالباقي، فقد يفهم من ذلك ترجيح الإحتمال الثالث، نعم تعبيراتهم مشوشة ومختلفة فيعبرون أحياناً بالرفع التشريعي وهو يناسب الإحتمال الثاني لا الثالث.

وعلى أي حال الأقرب هو الإحتمال الثالث لنكتة في المقام وهي إنَّ الإحتمال الثاني لا يمكن تطبيقه على جميع الفقرات، فإنَّ الفعل المضطر اليه ليس مرفوعاً بالوجدان، وأما الإحتمال الأول فيمكن تطبيقه على جميع الفقرات لفو كان المقدر هو المؤاخذة فيمكن القول: لا مؤاخذة على ما إضطر إليه، ولا مؤاخذة على ما أكره عليه، ولا مؤاخذة على ما صدر منه خطأ أو نسياناً أو جهلاً.. الى آخر الفقرات، وكذا الكلام في الإحتمال الثالث فيمكن تطبيقه على جميع الفقرات فكل عنوان مرفوع بوجوده التشريعي، أي لم يقع موضوعاً لحكم في عالم التشريع، بينما الإحتمال الثاني لا يمكن فيه ذلك كما في فقرة (ما لا يطيقون) وذلك لأنّ الرفع التشريعي للوجود الحقيقي للشيء يتوقف على الوجود الحقيقي للشيء، فينزل الوجود الحقيقي للشيء منزلة المعدوم، وهذا يصح في فقرة (ما اضطروا إليه) ونحوها لأنَّ الفعل موجود حقيقة، وأما في (ما لا يطيقون) فلا يمكن ذلك لعدم الوجود الحقيقي لما لا يطاق، أو قل قد فُرض عدم وجود ما لا يطاق فلا معنى لتزيل وجوده الحقيقي منزلة المعدوم، بل يمكن أن يقال ذلك في النسيان أيضاً بناءً على أنَّ المراد بالنسيان المرفوع هو المنسي لا حالة النسيان إذ لا يوجد شيء في الخارج حتى يعتبره الشارع معدوماً أو ينزله منزلة المعدوم، فعدم إمكان تطبيق الإحتمال الثاني على جميع الفقرات يُشكل خللاً فيه، ومن هنا يكون الإحتمال الثالث هو الأقرب بعد استبعاد الإحتمال الأول.

الى هنا يتم الكلام عن الجهة الأولى.

الجهة الثانية

وأما الجهة الثانية فنتعرض فيها الى كلام يدور بينهم، وحاصله هو أنَّ الرفع والدفع هل هما بمعنى واحد أم لا؟

وهناك تترتب ثمرة على هذا البحث تظهر في الحديث نفسه.

المعروف هو التغاير بينهما فالمراد بالرفع إزالة الشيء بعد فرض وجوده، فأُخذ في الرفع وجود الشيء، والشيء لا يوجد إلا بوجود مقتضيه، وأما الدفع فهو منع المقتضي من التأثير في حصول المُقتضى، وبناءً على هذا أُشكل في حديث الرفع بأنه إذا كان معنى الرفع إزالة الشيء بعد تحققه فكيف صح إستعماله في الحديث في بعض الفقرات كــفقرة (ما اضطروا إليه) فبناءً على الإحتمال الثالث يكون المعنى هو رفع حكم الفعل المضطر إليه كالحرمة، بمعنى أنَّ الحرمة وجِد المقتضي لها فثبتت للفعل الذي إضطُر إليه ثم رفعها الشارع، والحال أنه لا حرمة من الأساس في مورد الإضطرار، وبعبارة أخرى المناسب هنا إستخدام كلمة الدفع لا الرفع لأنه منع من أصل تحقق الحرمة بمنع مقتضيها من التأثير في تحققها. وهذا دفع لا رفع فكيف إستعمل الرفع في محل الكلام؟

جواب المحقق النائيني قده:

أجاب المحقق النائيني قده بأنه لا فرق حقيقي بين الرفع والدفع بل هما بمعنى واحد، فالرفع ناظر الى مرحلة البقاء، والدفع ناظر الى مرحلة الحدوث، وذلك باعتبار أنَّ الممكن كما يحتاج الى علة في حدوثه كذلك يحتاج الى علة في بقائه، بمعنى أنَّ علة الحدوث لا تكفي في البقاء ولابد للمكن من العلة في مرحلة البقاء، والسر فيه واضح وهو أنَّ الممكن لا ينقلب الى الوجوب بحدوثه، فهو بحاجة الى العلة دائماً، وبناءً عليه لا فرق بين الرفع والدفع، فالدفع منع تأثير المقتضي حدوثاً والرفع منع من تأثير المقتضي بقاءً، فكل منهما منع في تأثير المقتضي في المُقتَضى ولكن المنع من التأثير تارة يكون في مرحلة الحدوث وأخرى يكون في مرحلة البقاء، واصطلح على الأول بالدفع وعلى الثاني بالرفع، وحيث لا فرق بينهما صح إستعمال الرفع في الحديث في تأثير المقتضي للحرمة في المقتَضى في مرحلة الحدوث.

واُجيب عنه:

هناك شيئان لابد من التفريق بينهما أحدهما ما يمنع من تأثير المقتضي في مرحلة الحدوث، والآخر ما يمنع من تأثير المقتضي في مرحلة البقاء، فإذا افترضنا أنَّ لفظ (الدفع) وضع للأول وأنَّ لفظ (الرفع) وضع للثاني فلا معنى لإستعمال أحدهما في موضع الآخر، وإن سلَّمنا كونهما بمعنى واحد وهو المنع من تأثير المقتضي لكنهما مختلفان بلحاظ مرحلتي الحدوث والبقاء كما إعترف به، فإذا أراد الشارع بيان عدم وجود الحرمة في الفعل الذي يضطر إليه المكلف فالمناسب هو إستعمال لفظ الدفع لا الرفع! وعلى هذا الأساس قالوا إنَّ الاستفهام باق على حاله.

ومن هنا ينبغي أن يكون الكلام في وجود جهة مصححة لإستعمال الرفع في هذه الموارد، بمعنى المنع من تأثير المقتضي في المُقتَضى حدوثاً، ومن هنا قيل أنَّ هناك وجه لبيان الجهة المصححة في إستعمال الرفع في هذه الفقرات وحاصله:

إنَّ المصحح لهذا الإستعمال هو ثبوت هذه الأحكام في الشرائع السابقة، فالحرمة ثابتة في الفعل المضطر إليه ولكن في الشرائع السابقة، فالرفع هنا بمعنى المنع من تأثير المقتضي في مرحلة البقاء ولكن بالنسبة الى الشرائع السابقة، ولهذا المعنى شواهد في الروايات وأنَّ بعض الأحكام كانت مشددة في الشرائع السابقة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo