< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/06/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ تمهيد / الراي الرابع في الفرق بين الأمارات والأصول

الرأي الرابع في الفرق بين الأمارات والأصول العملية

ذكر السيد الشهيد قده رأياً أخر في الفرق بين الأمارات والأصول العملية، وقال أنه أعمق مما ذكروا فليس الفرق في المجعول كما ذكر المحقق النائيني قده ولا على أساس أخذ الشك في موضوع الأصل ثبوتاً أو إثباتاً دون الأمارة، فليس الفرق بينهما فرقاً صياغياً وإنما هو فرق جوهري، وهو يرتبط بالبحث عن حقيقة الحكم الظاهري، وحيث فسَّره هناك بأنه الحكم الصادر من الشارع نتيجة التزاحم بين الأغراض الثبوتية للأحكام في مقام الحفظ، بمعنى أنَّ كل غرض من هذه الأغراض المتزاحمة يقتضي من المولى جعلاً معيناً لحفظه وهو خلاف ما يقتضيه الغرض الآخر المزاحم له، ومن هنا اصطلح عليه بالتزاحم الحفظي، ويوضحه بنحو التالي:

إذا فرضنا أنَّ المكلف حصلت له شبهة تحريمية فسيحصل له إحتمالان إحتمال حرمة الشيء وإحتمال حليته، فيتزاحم الغرضان في مقام الحفظ بمعنى أنَّ الحرمة لو كانت هي الثابتة واقعاً فالغرض اللزومي فيها يتطلب أن يحفظ بجعل الإحتياط عند الشك، وبذلك يضمن الشارع حفظ غرضه اللزومي الواقعي، وفي مقابل ذلك هناك غرض ترخيصي في الإباحة المحتملة - وهو إطلاق العنان للمكلف - وحفظه يتطلب جعل البراءة وبها يحفظ الغرض الترخيصي، فما يحفظ به الغرض للزومي غير ما يحفظ به الغرض الترخيصي، ففي هذه الحالة الشارع يجعل حكماً ظاهرياً لإخراج المكلف من حالة التردد بتعيين الوظيفة العملية له على أساس الغرض الأهم بنظره، وجعل لاحتياط هنا سوف يفوت على المكلف الغرض الترخيصي في بعض الأحيان كما لو كان المشكوك حلالاً في الواقع، بل سوف يفوت الغرض الترخيصي على الشارع نفسه لتقديمه الغرض اللزومي عليه، فإذا كان الغرض الإلزامي هو الأهم بنظر الشارع فيجعل الإحتياط ظاهراً فيكون هذا الحكم الظاهري تعبيراً عن أهمية الغرض اللزومي بالنسبة الى الغرض الترخيص عندما يتزاحمان في مقام الحفظ، وقد يكون الغرض الترخيصي هو الأهم بنظره ويمكن فرض ذلك فإن الدين دين يسر لا دين عسر فيجعل البراءة كحكم ظاهري تعبيراً عن أهمية الأغراض الترخيصية بالنسبة الى الأغراض اللزومية عند وقوع التزاحم بينها في مقام الحفظ، وجعل البراءة في الشبهات التحريمية وإن كان يفوت على المكلف الأغراض اللزومية في بعض الأحيان وذلك إذا إرتكب الفعل وكان محرماً في الواقع إلا أنَّ ذلك لمراعاة الغرض الأهم وهو الترخيصي بحسب الفرض.

ثم هذه الأهمية التي يلحظها الشارع تختلف فتارة يكون الملاك فيها هو نوعية الحكم المحتمل فقط، وأخرى يكون الملاك فيها هو درجة الإحتمال، ففي المثال السابق هناك إحتمالان ومحتملان التحريم والإباحة، فتارة يرجح الشارع أحدهما على الآخر لنوع الحكم المحتمل من دون ملاحظة درجة الاحتمال، فهذا الحكم لأنه إلزامي يكون أهم من الحكم الترخيص فيقدمه، ويجعل الحكم الظاهري على هذا الأساس، فإذا رجح الحرمة على الإباحة جعل الإحتياط فهو عبارة عن ترجيح الأغراض اللزومية على أساس نوعية الحكم المحتمل، أو العكس أي أنَّ الحكم الترخيصي يكون الأهم بنظره من الحكم الإلزامي لنوع الحكم المحتمل فيجعل البراءة، فهذه الأحكام الظاهرية تعبير عن أهمية الأغراض بالنسبة الى ما يزاحمها، فالإحتياط تعبير عن أهمية الأغراض اللزومية والبراءة تعبير عن اهمية الأغراض الترخيصية.

وقد تنشأ الأهمية من درجة الإحتمال لا لنوعية الحكم المحتمل، فيجعل الشارع الحكم الظاهري على أساس أقوائية هذا المحتمل في قبال الآخر كما هو الحال في باب الأحكام الظاهرية المجعولة في باب الأمارات، فإذا أخبر الثقة عن حكم كالحرمة مثلاً فهناك إحتمالان الحرمة وعدمها والترجيح هنا لا يكون على أساس نوع الحكم المحتمل، بل ليس معقولاً لاختلافه في أخبار الثقات مع ترجيحها جميعاً، فليس لخبر الثقة نوع معين حتى يأمر الشارع به، وإنما يكون الترجيح على أساس درجة الإحتمال لأنه يورث درجة عالية من إحتمال المطابقة للواقع سواء كان ما أخبر به الثقة هو حرمة شيء أو وجوبه أو الإباحة أو صحة معاملة.. الخ، فالأمر بالعمل بخبر الثقة لأنَّ مضمونه أرجح في إحتمال المطابقة مما يقابله، وهذا ما يُعبر عنه بالكاشفية النوعية عن الواقع التي على أساسها تجعل الحجية للأمارات، بمعنى أنَّ درجة إحتمال المطابقة فيها أكبر من درجة إحتمال عدم المطابقة لذلك يأمر الشارع بالعمل بخبر الثقة، وهو عبارة أخرى عن الحجية، وهو الحكم الظاهري في باب الأمارات، فالحجية تعبير عن ترجيح أحد الحكمين المحتملين على ما يقابله لكن لا على أساس نوعية الحكم المحتمل وإنما على أساس درجة الإحتمال.

فالقاعدة العامة هنا هي أنَّ الحكم الظاهري المجعول في باب الأمارات يكشف عن أهمية أحد الحكمين بالنسبة الى ما يقابله بإعتبار قوة درجة الكشف فيه، أي أقوائية الإحتمال، وأما في باب الأصول العملية فالحكم الظاهري المجعول على أساس أهمية المحتمل، وأما قوة الإحتمال فعادة ما تكون متساوية بل لا تُلحظ هنا، فإن كان الحكم اللزومي هو الأهم في نظره فيجعل الإحتياط، وإذا كان الحكم الترخيصي هو الأهم فيحفظه ويحفظ غرضه بجعل البراءة، وإن امتد إطلاق العنان الى مساحة تشمل غير المباحات الواقعية إلا أن ذلك لمصلحة الحفاظ على الأغراض الترخيصية الأهم بنظره بحسب الفرض.

وثم يقول إنَّ الفروق المذكورة لا تعدو أن تكون صياغية فنية وأما ما ذكرنا فهو الفرق الجوهري، نعم الأنسب في الترجيح على أساس درجة الاجتمال هو جعل الطريقية، كما أنَّ الأنسب في الترجيح على أساس نوع الحكم المحتمل هو الجري العملي ولكن ذلك لا يُعبر عن الفرق الجوهري بينهما.

الى هنا تبين أنَّ الآراء في التفريق بين الأمارات والأصول العملية هي أربعة، وفي مقام التعليق نقول:

إنَّ الوصول الى نتيجة في مقام إختيار أحد هذه الآراء يرتبط بمقدار ما يستطيع ذاك الرأي أن يطرح تفسيراً صناعياً مقبولاً لما إتفق عليه الجميع، وهما أمران:

الأول تفسير حجية مثبتات الأمارة وعدم حجية مثبتات الأصول العملية، فإنَّ الأصل المثبت ليس حجة بالإتفاق مهما قلنا في الفرق بين الأمارات والأصول العملية.

الثاني أنَّ الأمارة إنما يعقل جعلها حجة إذا كانت مفيدة للظن بخلاف الأصل العملي فإنه يجعل كذلك وإن لم يُفد الظن.

فأي الآراء يكون مفسراً لهذين الأمرين يكون هو الصحيح، والظاهر أنَّ الآراء الثلاثة المتقدمة تعجز عن تفسير هذين الأمرين، والأهم منهما هو الرأي الأول الذي يقول أنَّ المجعول في الأمارات هو الطريقية بينما المجعول في الأصول هو الجري العملي، بل تقدم أنَّ المحقق النائيني إنما ذهب الى هذا الرأي لتبرير هذا الفرق بين الأمارات والأصول، أي حجية مثبتات الأمارت ودون مثبتات الأصول العملية، فإن المجعول في الأمارات إذا كان هو الطريقية والعلمية فتكون الأمارة علماً بجعل الشارع والعلم بالشيء علم بلوازمه فتكون لوازمها حجة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo