< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/04/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/العلم الإجمالي/وجوب الموافقة القطعية/ أجوبة الأعلام عن إعتراض المحقق العراقي

بعد أن فرغنا عن البحث الثبوتي ومانعية العلم الإجمالي من جريان الأصل في بعض الأطراف وأن فيه قولان قول بالعلية وقول بالاقتضاء ، وعلى تقدير الإقتضاء يقع الكلام في البحث الإثباتي ، بمعنى بعد إمكان جريان الأصل المؤمِّن في بعض أطراف العلم الإجمالي هل يساعد الدليل على ذلك أم لا.

قال المشهور بوجود مانع إثباتي وهو المعارضة ، بمعنى أنّه لا مانع ثبوتاً من جريان الأصل في أحد الطرفين إلا أنه معارض بجريانه في الطرف الآخر ، وهذا ما عبّرنا عنه بأنَّ نسبة كِلا الطرفين الى دليل الأصل واحدة ، ولا يمكن إختصاص دليل الأصل بأحد الطرفين بعينه لأنه ترجيح بلا مرجح ، وشمول دليل الأصل لكلا الطرفين غير ممكن للزوم المخالفة القطعية ، ولا وجود للفرد المردد خارجاً حتى يُدعى شمول دليل الأصل له ، فيشمل دليل الأصل هذا الطرف وذاك الطرف ويتعارضان ويتساقطان ، فلا يجري الأصل في أحد الطرفين لهذا المانع الإثباتي لا للمانع الثبوتي.

وأشرنا الى أنَّ المحقق العراقي قده إستشكل في هذا الوجه بإشكالات منها أنَّ المحذور من جريان الأصل في كِلا الطرفين هو أنه يؤدي الى الترخيص في المخالفة القطعية ، ولكن يمكن الإلتزام بجريان الأصل في كِلا الطرفين من دون لزوم هذا المحذور وذلك بأن نلتزم بجريان الأصل في كل طرف بشرط ترك الآخر ، فلا يجري الأصل في أحدهما حتى يلزم الترجيح بلا مرجح ولا فيهما معاً حتى تلزم المخالفة القطعية ، بل يجري في أحدهما بشرط ترك الآخر فإذا إرتكب المكلف هذا الطرف فلا يُرخص له في إرتكاب الآخر ، وهذا يؤدي الى التخيير في جريان الأصل ، وهو يعني عدم وجوب الموافقة القطعية ، ولكن هذا لا يلتزم به أحد.

ومراده مما ذكره هو أنَّ المانع في المقام هو المانع الثبوتي لا الإثباتي وأنَّ الأصل لا يجري في أحد الطرفين في حد نفسه بقطع النظر عن المعارضة لأنَّ العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية كما هو علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ، وأما إذا تجاوزنا المانع الثبوتي فلا مانع إثباتاً من جريان الأصل في كلا الطرفين بنحو مشروط.

والتخريج الفني لهذا الإعتراض هو أنَّ دليل الأصل العملي المؤمِّن له إطلاقان إطلاق أحوالي وإطلاق أفرادي ، والإطلاق الأفرادي يجعله شاملاً لكلا الطرفين لأن موضوع الأصل متحقق فيهما وهو الشك ، والإطلاق الأحوالي هو شمول هذا الطرف في جميع حالاته أي مع ترك الطرف الآخر أو مع فعله ، وكذلك يشمل الطرف الثاني مطلقاً أي سواءً فعلتَ الأول أو لم تفعله ، والضرورات تُقدَّر بقدرها فنرفع اليد عن مفاد الدليل بمقدار الضرورة ، ولا تقتضي الضرورة هنا إلا رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي لدليل الأصل العملي ولا موجب لرفع اليد عن الإطلاق الأفرادي ، لأنَّ تقييد الإطلاق الأحوالي في كل طرف بترك الطرف الآخر يدفع محذور الترخيص في المخالفة القطعية ، ويبقى الإطلاق الأفرادي على حاله ، وهذا يعني شمول دليل الأصل لكلا الطرفين لكن بنحو مشروط.

وكان لهذا الإعتراض صدى واسعاً في زمانه ، وذكرت له أجوبة كثيرة تصل الى ثمانية أو تسعة ، ومحل بحثه في أصالة الإشتغال وأنَّ دليل الأصل هل يشمل طرفي العلم الإجمالي بنحو مشروط أم لا ؟

ونذكر هنا بعضاً من تلك الأجوبة كجواب المحقق النائيني وجواب السيد الخوئي وجواب السيد الشهيد.

أما جواب المحقق النائيني قده فحاصله: إنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل الملكة والعدم فإذا إمتنعت الملكة في مورد إمتنع عدمها ، وبتعبيره إذا إمتنع أحدهما إمتنع الآخر ، وتطبيقه في محل الكلام هو إذا إمتنع الإطلاق إمتنع التقييد ، أما إمتناع إطلاق دليل الأصل لكلا الطرفين فلأنه يؤدي الى الترخيص في المخالفة القطعية ، فيمتنع تقييد إطلاق دليل الأصل لكل طرفٍ مشروطاً بترك الطرف الآخر ، فيمتنع شمول دليل الأصل ولو بنحو مقيد لكلا الطرفين ، أي يمتنع جعل ترخيصين مشروطين في الطرفين لأنه تقييدٌ والمفروض أنَّ الإطلاق ممتنعٌ فيكون التقييد ممتنعاً أيضاً.

ويلاحظ على هذا الوجه - بقطع النظر عن أصل المبنى في التقابل بين الإطلاق والتقييد وأنه بنحو الملكة والعدم والصحيح هو تقابل النقيضين – إنَّ نفس إطلاق دليل الأصل لكل طرف غير ممتنع حتى يُقال إذا إمتنع الإطلاق إمتنع التقييد بل الممتنع هو إجتماع الإطلاقين في الطرفين لأنه يؤدي الى الترخيص في المخالفة القطعية ، أما ذات الإطلاق فليس ممتنعاً ، هذا أولاً.

وثانياً إنّ القابلية الملحوظة في تقابل الملكة والعدم هي قابلية المورد للملكة فإذا لم يكن قابلاً لها لا يكون قابلاً لعدمها ، وتطبيقه في محل الكلام بأن نقول إذا إستحال التقييد إستحال الإطلاق لا العكس كما صنع ، فالصحيح إذا كان المورد قابلاً للبصر يكون قابلاً للعمى لا إذا كان قابلاً للعمى يكون قابلاً للبصر.

وأما جواب السيد الخوئي قده فهو : إنَّ كلام المحقق العراقي من أنَّ جعل الترخيصين المشروطين في الطرفين لا يؤدي الى الترخيص في المخالفة القطعية صحيح لمكان الإشتراط ولكن يلزم منه محذور آخر وهو الترخيص القطعي في المخالفة ، ويتحقق فيما إذا ترك المكلف كِلا الطرفين فيتحقق حينئذٍ شرط الترخيص في كل منهما فيثبت الترخيص الفعلي في كِلا الطرفين وهو ترخيص قطعي في المخالفة وهو قبيح ولا يقل قبحاً عن الترخيص في المخالفة القطعية ، ولهذا المحذور لا يمكن الإلتزام بثبوت الترخيصين المشروطين في الطرفين لا لأجل لزوم الترخيص في المخالفة القطعية.

ثم يقول ولأجل هذا المحذور إلتزموا بعدم إمكان إجراء الأصل المؤمِّن في الطرفين حتى إذا كان المكلف عاجزاً عن الجمع بينهما ، كما إذا فرضنا أنَّ المكلف علم بأنه يحرم عليه البقاء في آن واحد في أحد مكانين ، والمكلف غير قادر على الجمع بين الطرفين وأن يبقى في مكانين في آن واحد أصلاً ، فلا إشكال في أنَّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية عليه ، فلا يجوز أن يبقى في كِلا المكانين لأنه يعلم بحرمة البقاء في أحد المكانين في هذه الساعة الخاصة مع أنه غير قادر على المخالفة القطعية ، مع إمكان أن يُجري الأصل في أحد الطرفين ويجلس في المكان الآخر ولا يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية لكنهم منعوا من هذا لأنه يؤدي الى الترخيص القطعي في المخالفة ، بمعنى أن المكلف إذا ترك الجلوس في المكانين يكون مرخصاً فعلاً في البقاء في كِلا المكانين بناءً على ما ذكره المحقق العراقي من وجود ترخيصين مشروطين في الطرفين ، وهذا ترخيص قطعي في المخالفة لا يمكن أن يصدر من الشارع.

ومرجع هذا الجواب الى دعوى أنَّ الترخيص القطعي في المخالفة قبيح في نفسه وإن لم يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية ، مع أنَّ هذا الترخيص لا يتنافى مع شيء فلا يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية كما هو واضح ، ولا يصطدم مع الحكم الواقعي لا في مقام المبادئ ولا في مقام الجعل ولا في مقام الإمتثال ، فلا وضوح في قبح هذا الترخيص ، وعلى الأقل ليس عليه برهان إذا لوحظ مجرداً عن مسألة الترخيص في المخالقة القطعية.

وأما جواب السيد الشهيد قده فحاصله هو إمكان التمسك ببعض الأخبار الواردة في موارد العلم الإجمالي بالتكليف ، والتي تأمر المكلف بالإجتناب والموافقة القطعية ، ومثاله ما ورد في لزوم الاجتناب عن جميع الأغنام الموطوء بعضها ، وهو أمرٌ بالموافقة القطعية الذي لا يتحقق إلا بالإجتناب عن جميع الأطراف ، وكذا ما ورد في الماءين الذين يُعلم بنجاسة أحدهما من الأمر بإراقتهما ثم التيمم ، وهذا أمر بلزوم تحصيل الموافقة القطعية في هذا العلم الإجمالي ، وهو يعني أنَّ الأصل لا يجري في أحد الطرفين حتى بنحو مشروط ، فلو كان يجري في أحد الطرفين فلماذا أمره بإراقة كِلا الإناءين والحال أنه إذا ترك أحد الماءين يتحقق الترخيص الفعلي في الآخر لتحقق شرطه ، هذا دليل في حد نفسه على عدم جريان الأصل المؤمِّن في أطراف العلم الإجمالي ولو بنحو مشروط.

وإذا ألغينا خصوصية هذين المثالين فيمكن إنتزاع كبرى كلية نافعة في المقام وهي أنَّ العلم الإجمالي يؤثر في وجوب الموافقة القطعية ويمنع من جريان الأصل في بعض الأطراف ولو بنحو مشروط.

والنتيجة هي أنَّ المانع الإثباتي من جريان الأصل في بعض الأطراف موجود وهو المعارضة ، فالمختار ثبوتاً هو الإقتضاء لكن هناك مانع إثباتي من جريان الأصول العملية في جميع الأطراف وكذا من جريانها في بعض الأطراف.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo