< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ محمد ال‌عبیدان‌القطيفي

بحث الفقه

42/10/06

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: كتاب الصوم/ثبوت الهلال /معاير للرؤية

الأمر الرابع: معايير للرؤية:

إن المستفاد من الدراسات الفلكية القديمة أن هناك معايير لابد من توفرها حتى يمكن رؤية الهلال، وما لم تتوفر المعايير المذكورة لن تتم رؤيته، وقد تطورت المعايير في كلماتهم، فقد كانت محصورة في البداية في المعيار البابلي وهو من أقدم المعايير للرؤية في خصوص مدة البقاء، حيث اعتبر في إمكانية رؤية الهلال أن يبقى بعد غروب الشمس ثمانية وأربعين دقيقة، ويعبر عنها بمدة المكث.

واعتبر معيار الخوارزمي ملاحظة البعد الزاوي للهلال عن الشمس، وحدده بأن يكون أكبر من تسع درجات ونصف عند غروب الشم

وقنن موسى بن مأمون القرطبي هذا المعيار وجعله معتمداً على فصول السنة، وقام البتاني بمعادلات حسابية نتج عنها عدد من الجداول التي تستخدم لتحديد إمكانية رؤية الهلال فاعتبر أن يكون عمر الهلال لحظة غروب الشمس أكثر من يوم، وبعده الزاوي عن الشمس أكبر من أثني عشر درجة، وقد أيد البيروني معياره.

وخلال العقدين الأخيرين من القرن الميلادي الماضي ظهرت أبحاث الدكتور محمد إلياس الماليزي، بخصوص رؤية الهلال، وقد تلخصت أبحاثه في أمور ثلاثة:

أن يكون ارتفاع الهلال ما بين خمس إلى عشر درجات.

أن لا يقل عمر الهلال عن خمسة عشر ساعة.

أن تكون مدة مكثه بعد غروب الشمس ما بين واحد وأربعين دقيقة إلى ستين دقيقة.

ثم ظهر معيار مرصد جنوب إفريقيا، وبعده معيار يالوب، وأخيراً ظهر معيار عودة والذي يعتمد على سمك الهلال، والفرق الزاوي على الأفق ما بين موقعي غروبه وغروب الشم وقد ذكر أن رؤية الهلال تستدعي التعرف على الخصائص الدقيقة له لحظة غروب الشمس، مثل: العمر، والارتفاع عن الأفق، والبعد الزاوي عن الشمس، فإن هذه الخصائص تعطي فكرة أولية عن حالة الرؤية، وأنها مستحيلة أو صعبة، أم ممكنة، وهذا يختلف من مكان إلى آخر.

الأمر الخامس: كفاية الهلال القمري الطبيعي الفلكي:

قد عرفت في الأمر الثالث أن موضوع الأحكام الشرعية هو الهلال القمري الشرعي، والذي اعتبر فيه الأعلام الرؤية على الخلاف الموجود بينهم كما عرفت، ولم أجد من أكتفى بالهلال القمري الطبيعي الفلكي، حتى بعض الأساتذة(وفقه الله)، والذي بنى على عدم الفرق بين الهلالين القمري الطبيعي الفلكي والشرعي لم يكتف بكون الأول موضوعاً للأحكام الشرعية، بل اعتبر الرؤية، وظاهره اعتبار الرؤية الفعلية وعدم كفاية إمكان الرؤية.

وكيف ما كان، ففي تحديد موضوع الأحكام الشرعية محتملان:

الأول: البناء على أن موضوعها هو الشهر القمري الطبيعي، وهو ظاهرة كونية تبدأ بخروج القمر من المحاق وتنتهي بدخوله فيه، ولم يتدخل الشارع المقدس في تحديد مفهوم الشهر، فيكون الشهر التكويني هو نفسه الشهر الشرعي.

الثاني: البناء على أن موضوعها هو الشهر القمري الشرعي، وهو الذي يأخذ مضافاً إلى خروج القمر من المحاق، الرؤية قيداً في بدايته، على الخلاف الذي عرفته من كفاية إمكانية الرؤية، وعدم كفايتها بل لابد من تحقق الرؤية الحسية.

وتظهر الثمرة بين الاحتمالين في حجية قول الفلكي، ذلك أنه وفقاً للاحتمال الأول يمكن ترتيب الأثر على قول الفلكي، وعدّه أمارة دالة على كفاية ثبوت الهلال، فإنه الذي يمكنه الإخبار عن تحقق خروج القمر من المحاق، لعدم إمكانية رؤية ذلك بالعين المجردة عادة كما سمعت قبل قليل، بخلافه على الاحتمال الثاني، فإنه لو بني على كفاية إمكانية الرؤية فإنه يمكن التعويل على قول الفلكي ولو في الجملة، بخلاف ما بني على القول باعتبار الرؤية الحسية الفعلية، فإنه لا يمكن ذلك أصلاً.

وكما أشرت سابقاً لم أقف على قائل بالاحتمال الأول بين أعلام الطائفة، نعم قد نسب ذلك إلى بعضهم ثم عدل عنه، بل لم أقف على قائل به بين فقهاء المسلمين المعروفين.

وكيف ما كان، فإنه يمكن الاستدلال للاحتمال الأول بدليلين:

الأول: الكتاب العزيز:

وذلك من خلال التمسك ببعض الآيات الشريفة:

منها: قوله تعالى:- ﴿والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم﴾[1] ، وقوله سبحانه:- ﴿هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب﴾[2] . على أساس أن المستفاد منهما أنه سبحانه وتعالى قد أجرى حركة الكواكب والتي منها الشمس والقمر وفق نظام دقيق تحقيقاً لمصالح الخلق، وقد ذكرت الآية الثانية فائدتين للقمر:

الأولى: أنه ينير ظلمة الليالي السوداء.

الثانية: أنه وسيلة ضبط الحساب، ومعرفة السنين من خلال منازله المتعددة، فهو يبدأ هلالاً رفيعاً، ثم يكبر جزؤه النيّر شيئاً فشيئاً ليكون بدراً في ليلة منتصف الشهر، ويأخذ بعدها بالتناقص تدريجياً إلى أن يدخل في نهاية الشهر في المحاق، وتبدأ بعدها دور جديدة لشهر جديد.

ومن الواضح أن معرفة السنين والحساب وبدايات الشهور تعتمد على حركة النظام الكوني والمنازل الطبيعية للقمر، ولا ربط لذلك بمسألة الرؤية، فالمنازل حاصلة سواء رؤي الهلال أم لم يرَ، وعليه يكتفى في تحقق الغرض المطلوب بحصول الولادة الفلكية، وعليه يكون موضوع الأحكام الشرعية المرتبطة بالهلال هو خصوص الولادة الفلكية الطبيعية، ولا حاجة للبناء على اعتبار الشهر الشرعي.

والانصاف، عدم تمامية دلالة الآيتين على المدعى، ذلك أنهما ليستا في مقام البيان من هذه الجهة، لأن أقصى ما يظهر منهما دلالتهما على أن للقمر منفعة وفائدة يستفاد منه فيها، وأين هذا مما نحن فيه من كفاية تحقق الولادة الفلكية في ثبوت الهلال.

وإن شئت فقل، إن الآيتين ليستا ناظرتين لمسألة ثبوت الهلال، وكيفية ثبوته، وما يكتفى به وما لا يكتفى، فضلاً عما يعتبر فيه وما لا يعتبر، خصوصاً وأن القائل باعتبار الهلال الشرعي وأنه موضوع الأحكام الشرعية لا ينكر كون منازل القمر علامة تعرف بها السنين ويضبط بها الحساب، وإنما الكلام في كيفية التعرف إلى تلك المنازل، وإثبات المنـزلة التي يبدأ الشهر الجديد فيها، وهذا ما لم تتعرض إليه الآيتان محل البحث، بل هما ساكتتان عن الإشارة إلى وسيلة التعرف على المنـزلة.

وعليه، لابد من ملاحظة بقية الأدلة، فإن دلت على اعتبار كفاية الولادة الطبيعية للهلال، كان ذلك متعباً، وإن دلت على اعتبار الرؤية كان هو المتعين.

ومنها: قوله تعالى:- ﴿شهر رمضان الذي أنزل به القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾[3] ، ويتم الاستدلال على المدعى بالقسم الثاني من الآية، وهو قوله تعالى:- ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾، وتقريب دلالتها على المدعى يبتني على أن يكون المقصود من قوله تعالى:- (شهد)، بمعنى علم، ليكون معنى الآية عندها أن كل من علم بحلول شهر رمضان المبارك وجب عليه صومه، ومن المعلوم أن العلم به يحصل بخروج القمر من المحاق وهو المعبر عنه بالولادة الطبيعية التكوينية للقمر من دون حاجة إلى إمكانية رؤيته فضلاً عن رؤيته فعلاً، ويساعد على ذلك أن حمل الشهود في الآية على رؤية الهلال ليكون معنى الآية فمن شهد منكم هلال شهر رمضان بمعنى رآه فليصمه، كما صاحب الحدائق(ره)[4] ، يجعل وجوب الصوم معلقاً على رؤية المكلف له وهو باطل جزماً، لأن الصوم قد يجب ولو لم ير الهلال كما لو أتم المكلف العدة ثلاثين يوماً، كما يجب أيضاً لو تحقق أحد الأسباب الموجب لإحراز دخول الشهر من العلامات التي أشير إليها في النصوص، من التطويق، وغير ذلك.

وبالجملة، إن أقصى ما تدل عليه الآية المباركة هو العلم بدخول الشهر، ولا دلالة لها على بيان كيفية ثبوت الهلال، فتكون مساعدة على كفاية الناحية الطبيعية التكوينية في ثبوته.

نعم لو بني على أن المقصود من الشهود في الآية الشريفة بمعنى بالحضور، كما عن الراوندي(ره) في فقه القرآن[5] ، يعني عدم كون المكلف مسافراً حال دخول شهر رمضان المبارك، وهو ما أختاره غير واحد من المفسرين[6] ، وجعلوا القرينة على ذلك المقابلة الحاصلة فيها بالمريض والمسافر، قال تعالى:- (ومن كان مريضاً أو على سفر)، فإن المسافر يقابل الحاضر، فلا يكون شاهداً الشهر، والمريض غير القادر على الصيام منـزل منـزلة المسافر. فسوف تكون الآية أجنبية عن المدعى، لأنها لن تكون متعرضة للحديث عن الشهر والمقصود منه أساساً، فضلاً عن أن تكون مشيرة للحديث عن الهلال.

ويمكن منع المقابلة المذكورة والبناء على أن قوله تعالى:- (ومن كان مريضاً أو على سفر)، استئناف وإشارة إلى حكم جديد تذكره الآية المباركة غير الحكم المستفاد من قوله سبحانه:- (فمن شهد منكم الشهر)، وعليه لا يكون في البين ما يوجب تعين الاحتمال الثاني الوارد في كلام جملة من المفسرين.

ويؤيد هذا المعنى بل يساعد عليه أن قوله تعالى:- (ومن كان مريضاً أو على سفر)، مكرر لما سبق ذكره في قوله تعالى:- (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر)، وقد علل التكرار أنه لما كان قوله تعالى:- (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، ناسخاً لقوله تعالى:- (وعلى الذين يطيقونه فدية)، الظاهر في كون صوم شهر رمضان واجباً على التخيـير بينه وبين الفدية، وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنص الآية المباركة، فلما نسخ الحكم في تلك الآية وصار الصوم واجباً على التعيـين، أعيد ذكر المريض والمسافر دفعاً لتوهم وجوب الصوم عليهما بسبب النسخ الحاصل، وأنه يشملهما أيضاً، فكان تكرار ذكرهما لبيان أن المنسوخ هو تخيـير القادر على الصوم فقط.

والحاصل، إن المستفاد من الآية الشريفة أنها بصدد بيان وجوب الصوم، وموضوع ذلك هو احراز الشهر، وهو يتحقق بالعلم الأعم من الرؤية وغيرها.

وما ذكرناه في كون المقصود من الشهود في الآية المباركة بمعنى العلم، هو ما أختاره بعض كبار المفسرين(ره)، في تفسيره، قال(قده): الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم من جهته، وشهادة الشهر إنما هو ببلوغه والعلم به، ويكون بالبعض كما يكون بالكل.

وأما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الإنسان بالحضر مقابل السفر، فلا دليل عليه إلا من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن، ولا قرينة في الآية[7] .

 


[1] سورة يس الآية رقم 39.
[2] سورة يونس الآية رقم 5.
[3] سورة البقرة الآية رقم 185.
[4] الحدائق الناضرة ج13 ص240.
[5] فقه القرآن ص197.
[6] لاحظ على سبيل المثال الطبرسي في مجمع البيان ج ص274، مسالك الإفهام للكاظمي ج1 ص332، الكاشف ج1 ص284.
[7] الميزان في تفسير القرآن ج2 ص24.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo