< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ محمد ال‌عبیدان‌القطيفي

بحث الفقه

42/10/03

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: كتاب الصوم/ثبوت الهلال /تحديد المراد من وحدة الافق

لا إشكال في أنه إذا ثبت الهلال في بلد فإنه يثبت في البلد الذي يكون متحداً معه في الأفق. كما أنه لا إشكال أيضاً في أنه متى ثبت الهلال في البلاد الشرقية ثبت في البلاد الغربية بطريق أولى.

إنما الكلام والإشكال في أنه لو ثبت الهلال في بلد هل يثبت في البلدان التي لا تتحد معه أفقاً أو لا؟ بمعنى أنه يشترط كون البلد الثاني الذي لم ير فيه الهلال متحداً مع البلد الذي رؤي فيه في الأفق أو أنه لا يشترط ذلك فمتى رؤى الهلال في بلد ثبت لجميع البلدان التي تشترك معه في الليل حتى وإن كانت آفاقها مختلفة. ولا يذهب عليك أن الحديث ما لم يكن البلد الذي رؤي فيه الهلال شرقياً للبلد الذي يراد إثبات الهلال فيه.

والمعروف بين أصحابنا بل هو مشهورهم القول باشتراط اتحاد الأفق بين البلدين بلد الرؤية والبلد الذي سيثبت فيه الهلال. وقال آخرون بغير ذلك فمتى ثبت الهلال في بلد ثبت في كل البلدان.

ولا بأس قبل استعراض أدلة القولين من تقديم أمور:

الأول: تحديد المراد من وحدة الأفق:

وينبغي قبل كل شيء معرفة المراد من وحدة الأفق، ولا ريب في عدم كون المقصود منه المعنى العرفي وهو مدى الرؤية البصرية للإنسان حين مطالعته لمغرب الشمس أو شروقها، وهي النقطة التي يخيل للرائي فيها إلتقاء السماء بالأرض، والسر في ذلك يعود لأن هذا المعنى لا يتعدى كيلو مترات، مضافاً إلى أن المستفاد من الأمثلة المذكورة في كلماتهم البناء على الاتحاد بين البلدان المتباعدة عن بعضها البعض بكيلو مترات عديدة، فقد ورد التمثيل في كلماتهم بالنجف وبغداد والموصل، ويساعد على ذلك أيضاً ما سيأتي من النصوص المتضمنة لكفاية ثبوت الهلال لبلد لم ير فيه اعتماداً على ثبوته في بلد آخر.

والمستفاد من كلمات الأعلام، جعل المعيار في ذلك على أحد أمرين:

الأول: اتحاد مشارق البلدان ومغاربها أو تقاربها جداً في ذلك، وقد يعبر عنهم أحياناً في كلماتهم بالاتحاد في المطالع، وهذا يعني البناء على اختلاف البلدان التي لا تتفق في مطالعها بمعنى عدم وحدة المشارق والمغارب في الأفق. وممن صرح بذلك الشهيد الثاني(ره) في كتابه المسالك، قال(قده): إذا رئي في أحد البلاد المتقاربة ولم ير في الباقي وجب الصوم على الجميع، بخلاف المتباعدة فإن لكل واحدة منها حكم نفسها.[1]

ولا ريب في كون مثل بغداد والكوفة متقاربة، ومثل خراسان والعراق والشام متباعدة، إنما الكلام في الحد الذي يوجب البعد. والظاهر أن المرجع إلى اختلاف المطالع فإنها هي الموجبة لاختلاف الرؤية، بناءً على ما دلت عليه البراهين الاعتبارية من أن الأرض كروية فيختلف المطالع باختلاف محالّها، وتطلع الكواكب على جهاتها الشرقية قبل طلوعها على الغربية، وكذلك في الغروب، فعلى هذا يمكن أن لا يرى الهلال عند الغروب في البلاد الشرقية لقربه من الشمس، ثم يرى في تلك الليلة في الغربية لتأخر غروبها، فيحصل التباعد بينهما الموجب للرؤية، وهذا أمر قد شهدت به التجربة فضلاً عن البراهين.

ولا يخفى أن التفسير المذكور لاتحاد الآفاق بما ذكر يعتمد اعتماداً كلياً على ملاحظة خطوط العرض. توضيح ذلك:

هناك نوعان من الخطوط الوهمية تقسم العالم إلى قسمين، وهما خطوط الطول وخطوط العرض، فخطوط الطول تقسم العالم إلى عالمين: عالم شرقي وعالم غربي، وتقسمه خطوط العرض إلى عالمين آخرين، وهما عالم شمالي، وعالم جنوبي. وعليه، لو رأي الهلال في بلاد شرقية، فإنه يرى جزماً في البلاد الغربية إذا كانت متقاربة معها في خطوط العرض، ولم تكن متباعدة عنها، والسر في ذلك يعود إلى أن الإنسان إذا رأى الهلال بعد غروب الشمس فوق الأفق بمدة زمنية طرف اليمين أو الشمال، فإنه راه في الليلة الثانية بنفس المكان والخط والمسار بمسافة بعيدة، لأن الهلال يبتعد كل يوم عن الشمس بخمسين دقيقة تقريباً، وهذا يجعل استحالة رؤيته في البلاد الشرقية دون رؤيته في البلاد الغربية.

نعم لو كان البلدان متباعدين بحسب خطوط العرض، فإنه لا ملازمة بينهما في الرؤية ولو كانا في شرق العالم، فأستراليا مثلاً والتي تقع في الجنوب الشرقي تبعد عن البلدان التي تقع في الشمال الشرقي كالعراق بأربع عشرة ساعة، فلو رأي الهلال ليلة السبت في استراليا، فإن المفروض أن يكون القوت في العراق هو منتصف ليلة الجمعة، أو آخرها بملاحظة فصول السنة من الشتاء والصيف، وهذا يعني أن رؤية الهلال في استراليا لا يكون كافياً لرؤيته في بلدان مثل العراق وايران وغيرهما.

ومثل ذلك أيضاً في استحالة الرؤية لو كان التباعد بين البلدين بأكثر من سبعة عشر ساعة كالتباعد مثلاً بين استراليا والتي تقع كما عرفت فيا لجنوب الشرقي، وبين دول الشمال الغربي، كلندن مثلاً، لأن وقت رؤية الهلال في استراليا ليلة السبت يكون ليلة الخميس في لندن.

ويمنع من القبول بالتفسير المذكور عدم اعتنائه بالعوامل المؤثرة في تكون الهلال ورؤيته، وتركيزه بصورة أساسية على حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس فقط، وأن هذا هو العنصر المؤثر في رؤية الهلال وعدم رؤيته، بحيث لو بان الهلال في بعض أجزاء الكرة الأرضية كان ذلك موجباً لرؤيته لكل من كان واقعاً على نفس خط العرض. مع أن الواقع الخارجي خلاف ذلك تماماً، فقد يقع البلد الواحد على خط عرض واحد، إلا أنه يمكن رؤية الهلال في بعض أجزائه، ولا يمكن رؤيته في بقية الأجزاء الأخرى، وهذا يعني أنه لا يمكن عدّ الوقوع على خط العرض معياراً للاتحاد في الآفاق، إلا أن يدعى أنه يمكن أن يكون البلد الواحد واقعاً على خطي عرض مع أن الشاهد الخارجي على خلاف ذلك.

الثاني: ما ذكره بعض أساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته) في رسالته العملية منهاج الصالحين، من أن المقصود منه الملازمة في الرؤية، بحيث إذا رؤى الهلال في بلد كفى في الثبوت في غيره مع اشتراكهما في الأفق، بمعنى كون الرؤية الفعلية في البلد الأول ملازماً للرؤية للرؤية في البلد الثاني لولا المانع من سحاب أو غيم، أو جبل أو نحو ذلك[2] .

وقد خلت العبارة المذكورة من ذكره(دامت أيام بركاته) لموجبات ملازمة الرؤية، وعليه قد يمنع عدّ ما جاء في كلامه قولاً مغايراً للقول الأول، لأن موجبات ملازمة الرؤية هي الاشتراك في المطالع، فمتى كان البلدان واقعين على خط عرض واحد كفى ذلك للبناء على كونهما متحدين في الرؤية، وهذا المعنى كان موجوداً في مجموعة من فتاويه، فقد ورد في جوابه(أطال الله في عمره الشريف) في جواب على سؤال وجه له:

س: ما ملاك قرب وبعد البلدان عندكم من حيث رؤية الهلال؟

ج: ليس الاعتبار في الهلال بقرب البلاد وبعدها، بل المعيار بتوافق أفقهما بأن تكون رؤية الهلال في بلاد تلازم رؤيته في البلاد الأخرى لولا وجود الموانع من الغيوم ونحوها، فإذا رؤي الهلال في بلد فإنه يثبت في البلاد التي تقع غرب بلد الرؤية إذا لم تكن بعيدة كثيراً بحسب خطوط العرض[3] .

وقال في جواب على سؤال آخر:

س: أنا شخص أعيش في دبلن، فهل يجوز لي تعيـين الأول من رمضان المبارك بناءً على ثبوت الهلال في الكويت ودول الخليج؟

ج: عليك بملاحظة الهلال في أفقك وما يقاربه من آفاق، فإن ثبت الهلال في بلد آخر شرقي بلادك، وكان قريباً من بلدك من حيث خطوط العرض الجغرافي، وإن كان بعيداً في خطوط الطول، ثبت في بلدك أيضاً[4] .

وقد جاء هذا المعنى أيضاً في الكتاب الموافق لفتاويه(دامت أنفاس بركاته)، المعروف بالفقه للمغتربين في المسألة الثالثة عشر من كتاب الصوم.

ووفقاً لما تقدم، فإنه المقصود من الملازمة في الرؤية وقوع البلدين على خط عرض واحد، نعم لا ينفي اتحاد الأفق بين البلدين وقوعهما على خطي عرض يفرق بينهما مقدار درجة واحدة أو درجتين.

إلا أن التدقيق في الفتاوى الصادرة منه(دامت أيام بركاته)، أخيراً تفيد عدم ابتناء الملازمة المذكورة على الاشتراك في خطوط العرض، بل تستكشف الملازمة المذكورة من خلال ملاحظة أمور ثلاثة ترتبط بحال الهلال عند رؤيته تجعله قابلاً للرؤية، كما دل على ذلك قوله تعالى:- ﴿يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس﴾[5] ، فإن المستفاد منها اعتبار قابلية الهلال للرؤية ليكون ميقاتاً، وهذا لا يكون إلا إذا توفرت فيه أمور ثلاثة:

الأول: درجة الارتفاع عن الأفق، وهي تقدر ما بين أربع درجات أو ست، فلو كان الهلال عن الأفق بمقدار ثلاث درجات، لم تمكن رؤيته.

الثاني: نسبة القسم المنار من الهلال، وذلك بأن تكون نسبة الإضاءة فيه إلى أكبر قطر يبلغه.

الثالث: بعده الزاوي عن الشمس.

وما أفاده(دامت أيام وجوده الشريف)، تضمنته كلمات المختصين في هذا المجال من علماء الفلك.

ولا يخفى أن المعيار الثاني لتحديد المقصود من اتحاد الآفاق أوضح من المعيار الأول، وأضبط منه سيما في مقام التطبيق، ويمكن من خلاله تحديد البلدان المتحدة أفقاً مع بعضها البعض، والتي تختلف في الآفاق، نعم قد يختلف الحال من شهر لآخر وفق ظروف الهلال الطبيعية، فلا يمكن الجزم باتحاد بلدين في الأفق دائماً.


[2] منهاج الصالحين ج1 فصل ثبوت الهلال المسألة رقم 1044.
[3] الفوائد الفقهية ج1 ص207-208 سؤال 566.
[4] المصدر السابق ص211-212 سؤال 578.
[5] سورة البقرة الآية رقم 189.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo