46/11/08
المسؤولية العامة والنظام المالي الجديد
الموضوع: المسؤولية العامة والنظام المالي الجديد
مقدمة : في المسؤولية الإلهية والاختيار:
كنّا في هذا البحث أنّ نجاح القيادة الإلهيّة الاصطفائيّة بقانون السّنّة الإلهيّة هو أنّ التّغيير سواءٌ إلى الأحسن أو إلى الأسوأ، هو أمرٌ بين أمرين، فلا جبر ولا تفويض. ومن إعجاز أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) هو قضية أمرٌ بين أمرين، وهذه المقولة عظيمةٌ. ففلسفة خلق الدّنيا قائمةٌ على الامتحان، والامتحان قائمٌ على الاختيار، والاختيار هو لا جبر ولا تفويض، ولكن أمرٌ بين أمرين.
المسؤولية الفردية والمسؤولية الجمعية:
وفي الحقيقة، أحد الأبعاد العظيمة في المسؤوليّة العامّة هو أنّ الإنسان له فعلٌ فرديٌّ وله فعلٌ جمعيٌّ؛ فليس فعل الإنسان منحصرا بالبعد الفرديّ، وإنّما هناك فعلٌ جمعيٌّ في البيئة الجمعيّة والبيئة الاجتماعيّة والبيئة المجموعيّة. وهذا الفعل الجمعيّ والاجتماعيّ والمجموعيّ ان الإنسان مسؤولٌ عنه أشدّ من فعله الفرديّ، وهذا عكس ما نظنّ ونحسب كثيرا أنّ الفعل الفرديّ للإنسان هو تمام المسؤوليّة، أمّا الفعل الجمعيّ فيتشاطر الوزر فيقلّ.
والقرآن يفنّد هذا التّخيّل من عدّة جوانب. قوله تعالى: ﴿تخاصم أهل النّار﴾ فيتخاصم أهل النّار أنّه ربّنا حمل معظم الوزر أو ضعفه على الظّالمين وأئمّة الجور، ولكن أئمّة الجور يقولون: أنتم بملء إرادتكم قدّمتم أعمالكم ولكم وزركم، فلماذا نحن نتحمّل وزركم؟ ولماذا يضاعف علينا؟ ولكنّ القرآن يقول: ﴿لكلّ ضعفٌ﴾ يعني أئمّة الجور لهم ضعف الوزر. راجع سورة الأعراف، الآية ثمانية وثلاثين: ﴿حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابا ضعفا من النّار قال لكلّ ضعفٌ ولكن لا تشعرون﴾. يعني لكلّ ضعفٌ فليس فقط حدود فعلك الفرديّ، أنت مسؤوليّتك الفعليّ الجمعيّ أعظم من الفعل الفرديّ.
قوله تعالى: ﴿ومن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره﴾. فهنا في المسؤوليّة الفرديّة ما قال اللّه تعالى: ضعفٌ، بل في المسؤوليّة الفرديّة قال: ﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾. ما الفرق بين ﴿لها ما كسبت﴾ و﴿عليها ما اكتسبت﴾؟ كسبت يعني حتّى لو عفويّا من دون قصد كسبت شيئا، هذا منّة من اللّه يحسب لها الثّواب. اكتسبت يعني افتعلت، يعني فعلت الفعل بقصد. فالوزر والمسؤوليّة في السّيّئات تخفيفا من اللّه ما تحتسب إلّا مع العمد والترصّد، أمّا غيره فقد تكون لممٌ فيغفره اللّه.
ففرقٌ بين كلمة “كسبت” وكلمة “اكتسبت”. اكتسبت يعني بتعمّد وإصرار، وهذه منّةٌ من اللّه حيث قال: ﴿لها ما كسبت﴾ فوسّع الثّواب لا بخصوص ما قصده، وانما حتّى لو لم يقصده أو عفويّا صار على يديه هذا أيضا يحسب له ثوابٌ، وهذا منّةٌ من اللّه في جانب الثّواب. أمّا في جانب المعصية يضيّق الدّائرة: ﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾، ففي جانب المعصية أضيق. فهذا نصّ القرآن في الفرق بين [كسبت واكتسبت] والحصانات هذا على صعيد المسؤوليّة الفرديّة. أمّا على صعيد المسؤوليّة الاجتماعيّة، هناك تشدّدٌ أكثر، فهناك يكون ضعفٌ، فلكلّ ضعفٌ.
لماذا المسؤوليّة هناك شديدةٌ ويضاعف الوزر؟ مثلا في الحسنات، يضاعف اللّه الحسنات سبعة أو سبعمائة، أمّا السّيّئات فلا يضاعفها اللّه، فـ﴿جزاء سيّئة سيّئةٌ مثلها﴾. ففي الجانب الفرديّ نعم، أمّا في جانب المسؤوليّة العامّة يضاعف لكلّ ضعفٌ.
المسؤولية الاجتماعية والنهي عن المنكر:
في الّذين اعتدوا في السّبت ﴿قالوا لم تعظون قوما اللّه مهلكهم﴾؟ قالوا: ﴿معذرة ولعلّهم يرجعون﴾. فجاء العذاب، فـ﴿أنجينا الّذين ينهون عن السّوء﴾ فأولئك صلحاء، لكن لم يكونوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فشملهم العذاب. لذلك القرآن يقول: ﴿واتّقوا فتنة﴾ يعني اتّقوا النّار التي ﴿لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة﴾. وهذه نكتةٌ مهمّةٌ.
وهذا المنطق الإباحيّ الغربيّ أو العلمانيّ يقول: هذا حقّي، كلا حقّك أن تمارسه في بيتك لا أن تمارسه أمام النّاس في البيئة الاجتماعيّة، فتلوّثها بالفجور والفسوق فان هذا ليس حقّك. فالمظهر العامّ حقّ الجميع. إذا أنت كنت تريد أن تمارس شيطنة وعربدة، فمارسه في بيتك، أمّا هذا السّرطان والوباء لا يمكن أن تمارسه في البيئة الاجتماعيّة وتجعل عدوى وترويجا. كيف يمكن أن تفتح أماكن فساد في العلن؟ من قال هذا حقّك؟ فأين حقّ المتديّن؟ لأنّ الجوّ العامّ حقّ الجميع وليس حقّ الفاجرين والفاجرات والدّاعرين والدّاعرات والفاسدين والفاسدات، فأين حقّ الصّالحين والصّالحات؟ هذه مغالطةٌ غربيّةٌ علمانيّةٌ. الجوّ العامّ حقّك في مدار بيتك وخصوصيّاتك، أمّا البيئة العامّة فمسؤوليّة وملك الجميع. فطبيعة الحقّ الاجتماعيّ هو حقٌّ جمعيٌّ مجموعيٌّ، غير منفصل وغير المفكّك. فهذه مغالطةٌ ودجلٌ محضٌ.
فلاحظ إذن هذا في المسؤوليّة الاجتماعيّة المجموعيّة أمرٌ مهمٌّ، وهذه نقطةٌ مهمّةٌ في باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. ونقلنا كرارا كلام السّيّد محسن الحكيم وكلام الأكابر ألّا نخلط بين المنكر والمعروف الفرديّ والمنكر والمعروف الاجتماعيّ والدّينيّ. فبالتّالي إذن في المسؤوليّة العامّة يقول الباري تعالى: ﴿قال لكلّ ضعفٌ ولكن لا تشعرون﴾. يعني ليس أنت مسؤولٌ فقط عن فعلك، وانما مسؤولٌ عن الطّرف الآخر وفعله. فأيّ مـمارسة في الجوّ العامّ هذا ليس فقط فعل الفاجر، ولكنّ الجوّ العامّ والبيئة العامّة الكلّ يجب أن يحرصها عن الوباء لأنّ الكلّ تصيبهم عدوى، فلست مسؤولا عن فعلي فقط.
وهذه مغالطةٌ أن تقول حقٌّ خاصٌّ ، الجوّ العامّ هو جوٌّ عامٌّ، ولكنّ الجوّ الخاصّ أنت مارس ما تريده، أمّا في الجوّ العامّ لا يمكن أن تنشر وباء أخلاقيّة وفكريّة هذا ليس من حقّك، هذا حقّ الجمهور وحقٌّ مشتركٌ. طبيعة الجوّ العامّ حقٌّ وجوٌّ مشتركٌ، فلمّا يكون كذلك فهي مسؤوليّةٌ مشتركةٌ، والإنسان يساءل عن المشترك أشدّ من الفرديّ ومن الخاصّ، مثل منطق القرآن: ﴿لكلّ ضعفٌ﴾ و﴿واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة﴾. يعني المساءلة لا تصيب فقط الجاني، حتّى السّاكت عن الجاني تصيبه لأنّه قصّر في مسؤوليّته.
اللّه فقط ينجي من لم يقصّر، بل عندنا بياناتٌ في القرآن والرّوايات أنّه حتّى الّذي لم يقصّر وقام بالمسؤوليّة لا ينجو إلّا إذا ابتعد بيئيّا عن بؤرة الفساد. وهذا غير الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، حيث إذا أتت اللّعنة الإلهيّة لا ينجو منها حتّى الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر إلّا إذا اعتزل بؤرة الفساد. فإذا كان قريبا وإن لم يكن مسؤولا لأنّه قام بمسؤوليّته من حيث الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لكن لا ينجو إذا أتت النّقمة عليه يعني حتّى الصّالحين ربّما يؤكلون بنار النّقمة .
انه ورد في الرّوايات أنّ ربّما شابٌّ صالحٌ وربّما كان عين للنّبيّ موسى (عليه السّلام) متغلغلا في النّظام الفرعونيّ، لكن حين السّاعة الّتي يجب أن يعزل نفسه ما عزل نفسه، فلمّا أتى الغرق غرق معهم. فالنّبيّ موسى ناجى اللّه أنّ هذا عنصرٌ صالحٌ، قال: لأنّه لم يعزل نفسه، وإذا أتته النّقمة تشمله. عندنا رواياتٌ وآياتٌ كثيرةٌ انه حتّى الّذي يقوم بمسؤوليّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إن لم يعزل نفسه بيئيّا اجتماعيّا عن بؤرة الفساد حينئذ إذا حلّت اللّعنة والنّقمة الإلهيّة فتشمله. وهذا الشّمول فقط في الدّنيا، لا أنّه معذّبٌ في الآخرة.
لذلك عندنا هكذا حكمٌ شرعيٌّ موجودٌ ومنصوصٌ عليه، انه كان محمّد بن مسلم -وهو فقيهٌ ومرجعٌ وتلميذ الإمام الباقر والصّادق (عليهما السّلام)- يمرّ بعض الأحيان على القضاة ويتردّد مجالسهم، فقال له الإمام: ألا تعلم أنّ هذه مجالس اللّعن والنّقمة الإلهيّة؟ فتردّدك إذا كان في وظيفة هذا بحثٌ آخر، وإذا كان بإيعاز أيضا بحثٌ آخر. أمّا في غير ذلك فإذا حلّت النّقمة ستصيبك. مع أنّه عندنا مسؤوليّة التّغلغل والاختراق للنّظم الفاسدة كوظيفة، ولكن غير هذه الوظيفة إذا مررت من باب المداراة هنا تصيبك النّقمة. ففي مجالس السّوء ومجالس الباطل إذا حلّت النّقمة واللّعنة الإلهيّة -اللّعنة قد لا تكون حتّى مادّيّة حتّى لو كانت روحيّة- تصيب الإنسان.
الرّواية موجودةٌ في أمالي الصّدوق، وهي قصّة الشّابّ المغرق بالذّنوب، كان نبّاش القبور وزيادة على ذلك ارتكب فجورا في أحد المرّات، فكان يائسا من رحمة الله فقبل أن يتعرّف رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) على تفاصيل ذنبه بثّ له الأمل في المغفرة، إلى أن أفصح عن ذنبه. فما أن سمع رسول اللّه بشدّة الذّنب قال: ابتعد عنّي. مع أنّه هو سيّد الرّسل وأعظم الكائنات، لكنه ينئى بنفسه عنه. يعني هذا الذّنب كتلةٌ من النّار المتحرّكةٌ. فبعض الذّنوب هكذا يلتصق الإنسان بها كأنّما يلتصق بجمرة، فلا تعلم أيّ وقت تحلّ النّقمة وتستأصله.
فالبيئة الاجتماعيّة بيئةٌ مشتركةٌ وليس حقّا خاصّا، وإنّما حقٌّ عامٌّ. وهذه في عرف كلّ الدّول. وهذه مغالطةٌ من العلمانيّين أنّهم يقولون هذا حقٌّ خاصٌّ. كلّا، إنّه حقٌّ عامٌّ. أنت تريد مـمارسات شاذّة خاصّة ساقطة تمارسها فمارسها في بيئتك الخاصّة، لا أن تنشرها في المجتمع، سيّما المجتمع الّذي ينتمي إلى الدّين وإلى المذهب، لا سيّما في الأماكن المقدّسة فحينئذ القضيّة تكون أشدّ وأشدّ، حيث الأماكن والعتبات المقدّسة هي مشعرٌ وحرمٌ إلهيٌّ. حرمٌ يعني أوقفه اللّه منذ أن خلق السّماوات والأرض إلى يوم القيامة، ولها أحكامٌ خاصّةٌ. وليس خصوص العتبة الشّريفة، وإنّما تمتدّ إلى ربوع المدينة بل الأوسع منها، سواءٌ بالنّسبة للنّجف الأشرف أو كربلاء المقدّسة أو الكاظميّة او سامراء فان لها أحكامها.
الحرم بتعبير الشّيخ جعفر كاشف الغطاء هو مشعرٌ إلهيٌّ وليس مشعرا لعبدة الشّيطان والطّقوس الشّيطانية والفجور، إنّما هو مشعرٌ إلهيٌّ. للأسف فقه العتبات وفقه الأماكن المقدّسة متروكٌ في البحوث الفقهيّة، ومن ثمّ تكون تداعياتٌ وتفريطٌ في أحكام كثيرة.
أصلا قصّة نبيّ موسى (عليه السّلام) أنّه أمر بأن يحرّر الأرض المقدّسة لأنّ لها أحكاما خاصّة وليس يتولّاها أهل الباطل والفساد والجور، لابدّ أن يتولّاها المؤمنون والصلحاء ، لأنّه مشعرٌ إلهيٌّ. ﴿يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة﴾ قالوا: ﴿إنّ فيها قوما جبّارين وإنّا لن ندخلها حتّى يخرجوا منها﴾. قال: ﴿ربّ إنّي لا أملك إلّا نفسي وأخي﴾. فقال له قومه: ﴿اذهب أنت وربّك فقاتلا﴾. لاحظ هذا من أحكام الأماكن المقدّسة، وهذا حكمٌ خاصٌّ لها، لأنّ اللّه جعلها أبراجا للنّور فلا يمكن أن تجعلها أبراجا للظّلام. وهذه مطهّرةٌ لأهل الأرض، وهذه الأماكن محلّ غسل الذّنوب والتّطهير من الذّنوب وتطهير الأرواح، فلا يمكن أن تقلب هذه الأماكن المقدّسة إلى بؤر عبادة الشّيطان.
وهذه تعتبر في بيان الآيات والرّوايات كقدسيّة القرآن، هناك أربعة أشياء إذا سلمت يبقى الدّين، وإذا لم تسلم يعاجل أهل الأرض بالعقوب، منها القرآن، ومنها العترة، ومنها الأماكن المقدّسة، ومنها الكعبة. وهذه أحكامٌ صارمةٌ في الدّين الحنيف، ولكن فقه العتبات متروكٌ في البحوث الفقهيّة، ومن ثمّ تصير غفلاتٌ.
فنرجع الى أنّ في المسؤوليّة العامّة حسب منطق القرآن الحساب والعقاب أشدّ من المسؤوليّة الفرديّة والبعد الفرديّ للإنسان. ففي البعد الفرديّ ﴿ومن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره﴾، ﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾. أمّا في المسؤوليّة العامّة ﴿واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة﴾. ففي المسؤوليّة العامّة لكلّ ضعفٌ، وفي المسؤوليّة العامّة يحمل اللّه عزّ وجلّ المسؤوليّة لكلّ المجتمع: ﴿يا بني إسرائيل لم تقتلون﴾؟ مع أنّه لم يقوموا كلّهم بذلك، لكنّ القرآن يحمل المسؤوليّة في الفعل الاجتماعيّ ليس على المجتمع المعاصر فقط. راجع قوله تعالى: ﴿والشّمس وضحاها * والقمر إذا تلاها﴾ ﴿كذّبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فكذّبوه فعقروها﴾، مع أنّه ليس كلّهم عقروها وإنّما بعضهم، لكن هذه مسؤوليّةٌ اجتماعيّةٌ عامّةٌ، والمفروض أنّ هذا المجتمع يصدّ سفهاءه عن ارتكاب الأمور الخطيرة، وإذا لم يصدّهم تحمل المسؤوليّة لكلّ ثمود: ﴿كذّبت ثمود بطغواها﴾، فاعتبرهم كلّهم طغاة مع أنّه انبعث أشقاها، لكن لأنّهم لم يحترسوا ولم يحتاطوا ولم يصدّوا سفهاءهم حمّلهم مسؤوليّة.
روايات أهل البيت في سعة المسؤوليّة العامّة معجزةٌ، وهي مستندةٌ إلى القرآن. ﴿يا بني إسرائيل﴾ ربّما ستّون موردا في سورة البقرة خطاب ﴿يا بني إسرائيل﴾ يعني القرآن الكريم يحمل كلّ بني إسرائيل هذا الشّيء، فكلّه إسنادٌ إلى المجموع لأنّ الفعل الجمعيّ في البيئة الاجتماعيّة الكلّ مسؤولٌ عنه، فلا يمكن أن يقول شخصٌ: أنا ليس عليّ شيءٌ. كلّا، أنت مسؤولٌ.
فلاحظ إذن بالعكس في باب الفعل الجمعيّ والاجتماعيّ منطق القرآن هو أنّ المسؤوليّة مشدّدةٌ أكثر، وإن لم يصدر الفعل من بعض النّاس ولم يكن لهم أيّ تسبيب أو تعاون على الشّرّ. فتارة المنطق: ﴿ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾، فهذا لا يكفي، بل المسؤوليّة أكثر من ﴿لا تعاونوا﴾، وإنّما ﴿واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة﴾. فهذه المسؤوليّة “اتّقوا” أشدّ من “لا تعاونوا”، لأنّ “لا تعاونوا” هو انه فقط لا تكن عنصرا وسببا، هنا يقول زيادة على ذلك “اتّقوا”، أنتم يجب أن تكونوا وقاء عن الفساد في المجتمع.
فأنت مسؤوليّتك أيّها الفرد أن تكون واقيا ولو بالآليّات النّاعمة والذّكاء، وليس بآليّات العنف والحدّ. فرقٌ بين “لا تعاونوا” وبين “اتّقوا”.
بل أكثر من ذلك يقول أئمّة أهل البيت -وهم أدرى بما في القرآن- يقولون: ليس فقط المجتمع المعاصر يحمل الجريمة أو للخطيئة الاجتماعيّة، بل حتّى الأجيال اللاحقة إن لم تدين ما فعله سلف فهم أيضا يشتركون في المسؤوليّة.
تفسير الامام العسكري ع :
هذا من عظمة تفسير الإمام العسكريّ (عليه السّلام) وهذا عكس ما يوسوس بعض الأعلام في شان هذا الكتاب. هذا التّفسير اعتمده الصّدوق في كلّ [كتبه] حتّى في “من لا يحضره الفقيه”، واعتمده الرّاونديّ وهو قريب العهد للصّدوق، واعتمده الطّبرسيّ في “الاحتجاج”، وأعلامٌ كثيرون من الطّائفة خلال ألف سنة اعتمدوه فضلا عن المجلسيّ والفيض الكاشانيّ والحرّ العامليّ والسّيّد هاشم البحرانيّ، وحتّى جملةٌ من أوتاد المذهب الإماميّ اعتمدوا التّفسير المنسوب للإمام العسكريّ خلافا للسّيّد الخويّيّ وجماعة. والمحقّق آغا بزرك الطّهرانيّ لديه بحثٌ حافلٌ في هذا الشّيء، وهو ابن بجدتها في هذا المجال. فمن المعجزات العلميّة لتفسير الإمام الحسن العسكريّ أنّ المسؤوليّة في الفعل الاجتماعيّ يساءل عنها ليس فقط المجتمع المعاصر حتّى الجيل اللاحق لهذا المجتمع.
لاحظ هذه نظريّةٌ عظيمةٌ في المسؤوليّة وفي الواجب الكفائيّ بيّنها أهل البيت وهي موجودةٌ في هذا التّفسير. وهناك معجزاتٌ علميّةٌ قانونيّةٌ معرفيّةٌ يختصّ بها تفسير الإمام العسكريّ غير موجودة في تفسير القمّيّ ولا العيّاشيّ ولا تفسير فرات الكوفيّ ولا في كتب الحديث الأخرى. وهذه من مميّزات تفسير الإمام الحسن العسكريّ، ومن ثمّ المعاصرون رواياتٌ تفرّد بها هذا التّفسير هي محلّ معركة آراء علميّة بينهم لأهمّيّة مضمون الرّوايات الّتي وردت في هذا التّفسير. هي رواياتٌ كفلق الصّباح، شهبٌ علميّةٌ عجيبةٌ وغريبةٌ، وهذه أحد الأدلّة الذّاتيّة لاعتبار هذا الكتاب العظيم. أنا لست بصدد استعراض جملة من الشّواهد المضمونيّة العظيمة في هذا الكتاب.
ففي هذا التفسير بيّن الأئمّة أنّه ليس فقط المجتمع المعاصر مسؤولٌ عن الجريمة بل حتّى الأجيال اللّاحقة إن لم تستنكر وتعرّفن الإنكار وتبدّل عرفنة الاستحسان ستكون مسؤولة.
لاحظ كم بين النّبيّ موسى وسيّد الأنبياء؟ هناك ألفٌ وخمسمائة سنة القرآن يحمل بني إسرائيل المعاصرين لسيّد الأنبياء بعد ألف وخمسمائة سنة يحملهم مسؤوليّة تلك الأمور، لأنّ ذاك المنكر لا زال معروفا ومسوّغا عندهم في جيلهم. أمّا إذا استنكروه فيطهّرون عرفهم البيئيّ عن تلك المنكرات الموروثة. فكما يبيّن أهل البيت كأنّما القرآن يخاطب بني إسرائيل المعاصرين لسيّد الأنبياء: أنّكم أنتم ارتكبتم هذا الشّيء. لاحظ كيف التّشدّد في المسؤوليّة العامّة؟ فلست أنت مسؤولا عن الفعل الّذي ارتكب معاصرا، وإنّما أنت مسؤولٌ عن الفعل الّذي ارتكب قبل ألف وخمسمائة سنة، بل مسؤولٌ عن فعل قابيل ويجب تستنكره، وعن ظلم أصحاب الأخدود، وعن الفساد الّذي قام به قوم لوط، وعن الأخطاء الّتي ارتكبها الصّحابة في زمن النّبيّ، لأنّه إذا عرفّنت هذه المنكرات ستنتشر في جيلنا أمّا إذا استنكرها أطهّر جيلي المعاصر عن تلك المنكرات.
هذه المسؤوليّة العامّة عجيبةٌ جدّا، وكم هو واسعٌ عابرٌ للقرون وللقارّات. ولو أنّ واحدا في الشّرق ظلم مظلوما ولم يستنكر فيكونون شريكا له. إذا الظّلم يجب أن يستنكر. لذلك القرآن الكريم يقول عن الكفّار المستضعفين: يجب أن ننكر الظّلم الّذي يسيطر عليهم من قبل الطّغاة وأن نستنكر ذلك ويجب أن نحرّرهم. ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه والمستضعفين من النّساء والرّجال﴾ مع أنّهم ليسوا مسلمين. لا أقلّ إن لم ننصرهم بالقوّة العسكريّة أو الماليّة أو الاقتصاديّة، على الأقلّ ننصرهم في الجانب الإعلاميّ الرّوحيّ. وما يجوز السّكوت عن الحقّ، السّاكت عن الحقّ شيطانٌ أخرس، لأنّه هذا مظلومٌ. وما دام مظلوما وإن كان كافرا اعتبره اللّه مستضعفا، يجب علينا أن نقف موقف الاستنكار، سواءٌ في جغرافيا أخرى أو في زمن آخر، وإن لم يستنكر فالعدوى السرطانيّةٌ ستنتشر حتّى في الجيل المعاصر وحتّى في البيئة الجغرافيّة الّتي نعيش فيها.
فالفلسفة عجيبةٌ في المسؤوليّة العامّة، كأنّما البشر يعيشون في زمان وجغرافيا واحدة وفي عصر واحد، وليس فقط قرية واحدة. ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه والمستضعفين من الرّجال والنّساء الّذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظّالم أهلها﴾.
مرّ بنا أنّ القرآن يعتبر النّظام الاجتماعيّ والنّظام السّياسيّ الظّالم متخلّفٌ قرويٌّ، وان التّمدّن بالنّظام العادل وليس بالطّوبائيّة. نقول ماذا صنع الأمويّون والعبّاسيّون؟ فالظّلم ليس تمدّنا. أنت افترض أنّ البنيان خربةٌ، لكنّ النّظام عادلٌ فالقرآن يعتبره تمدّنا وليس تمدّنا ببناء القصور. هذا سفك الدّماء. هارون السّفيه كم أباح دماء المظلومين وتلاعب بالأموال العامّة والزّيف؟ هل هذا مفخرةٌ؟ من المعيب ان نسمّيه مفخرة. المخذول العبّاسيّ كم هو دمويٌّ؟ هل هذه مفخرةٌ؟ هذا خلاف منطق القرآن، لأنّ منطق القرآن يقول إنّ النّظام العادل هو نظامٌ تمدّنيٌّ، والنّظام الظّالم الّذي يعيث في الأرض فسادا ولعبا هذا قرويٌّ. لاحظ الاف الجواري في قصر هارون السّفيه؟ والقصر موجودٌ في نفس موقع حرب صفّين في الرّقّة، أنا شهدت المكان بعيني، وموجودٌ آثار الفساد والإباحة الأخلاقيّة. هذا خذلانٌ للعالم الإسلاميّ لأنّه منطقٌ جاهليٌّ الّذي أحدثه العبّاسيّون والأمويّون، كلّه تخلّفٌ وليس تمدّنا. منطق القرآن في التّمدّن هو العادل.
عليّ بن أبي طالب وعدله هو تمدّنٌ في منطق القرآن. وأمّا الطّبقيّة الّتي أتت بها السّقيفة فهي تخلّفٌ ورجوعٌ إلى الجاهليّة. تخاطبهم الصّدّيقة [فاطمة]: ﴿أفحكم الجاهليّة يبغون ومن أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون﴾. كيف ترجعون القهقرى بعد رسول اللّه؟ فإذن في منطق القرآن نظام العدل هو التّمدّن وهو التّطوّر، وليس الطّوبائيّة والأجر والقصور المشيّدة. فلو كان كذلك لكان فرعون أكثر النّاس تمدّنا، لاحظ الأهرامات المشيّدة في مصر. فمن جهة الطّوبائيّة هو تمدّنٌ عظيمٌ ولكن القرآن يذمّهم ومع ذلك هذا المنطق ممسوخٌ في الثّقافة الإسلاميّة، والمنظّرين لهم صولةٌ وجولةٌ. ولم تلبسك الجاهليّة بمدلهمّات ثيابها الفكريّة والعقائدية.
البعض يشيد بالمجد الأمويّ الدّمويّ وبالمجد العبّاسيّ الفجوريّ، وهي جاهليّةٌ في منطق القرآن. فلمّا تمسخ الأمور تصبح هكذا، كأنّما ناطحات السّحاب هي معيار التّمدّن وزرقٌ وبرق الدّنيا هذه معايير التّمدّن. هذا ليس تمدّنا، هذه جاهليّة عاد وثمود بوصف القرآن الكريم. من ناحية التّمدّن العمرانيّ وصلت عاد إلى تمدّن لم يات من بعدها من البشر إلى زمن رسول اللّه، ولا أقلّ لم يعمّر العمران المدنيّ كعاد. ومع ذلك يقول القرآن هم قرويّون متخلّفون لأنّ التّمدّن ليس بهذا. إقامة حكم من أحكام اللّه أبرك على الأرض من أهرامات الفراعنة.
لماذا القرآن يجلجل أسماعنا يوميّا بذمّ الفراعنة وان قابيل مسؤول وووو ؟ ونحن مسؤولون عن هذه الثّقافات لمّا نروّج لها في مجتمعاتنا. هذا فسادٌ ويسبّب داعش وقاعدة. بالضّبط هم صنعوا ما صنع السّلف، هم اتّبعوا موازين السّلف. فكيف تقول هؤلاء خطأٌ والسّلف صحيحٌ وبنفس الميزان ارتكبوه، فكريّا نفسه أو فقهيّا نفسه؟ أو لم تقولوا بأنّ الإمامة يمكن أن تعقد بالغلبة وبالعنف وبالقوّة؟ هذه هي العنف والقوّة. كما قالت فاطمة (عليها السّلام): “وسيعلم التّالون غب ما أسّسه الأوّلون”. خطبة فاطمة كلّها أصولٌ دستوريّةٌ لدين الإسلام على لسان النّبيّ وعن وحيه. ففاطمة لا يعنيها خلل الصّلاة وخلل الصّيام، هذه تفاصيل نازلةٌ، وإنّما هي ذكرت أصول الإسلام في خطبتها.
انت تقول: أين روايات فاطمة في الفروع ، نقول فاطمة ليس رتبتها الفقه البلديّ الوزاريّ، دور فاطمة في التّشريع تأسيس البنية الدّستوريّة لكلّ دين الإسلام في كلّ المجالات. خطب فاطمة كلّها تشريعاتٌ، ولكن ليست تشريعات متوسّطة ونازلة، وإنّما الأصول التّشريعيّة وتشريعات الأصول وفقه المقاصد كلّها حدّدتها هي عليها السلام لكلّ علوم الإسلام وفي كلّ المجالات. وهذا هو موقع يد فاطمة في التّشريع.
أين مارست فاطمة سلطة صلاحيّة التّشريع؟ دقّقوا، هي لم تقل النّبيّ كذا، نعم هي استشهدت في بعض الموارد بالقرآن وبكلام النّبيّ، لكن في كثير من الموارد هي تبيّن تأصيل تشريع عقائديّ ثمّ فقهيّ ثمّ أخلاقيّ. لم يأت إمامٌ من أئمّة أهل البيت ونقض كلامها، حاشاهم وحاشاها، فضلا عن عموم المسلمين، هم لا يطيروا ويحلّقوا إلى أفق التّشريع الّذي ذكرته فاطمة ولن يصل إلى ذلك الأفق عالمٌ أو فقيهٌ، خسئ البصر وخسئت العقول.
كما يقول الإمام الرّضا (عليه السّلام): “وكلّت العقول أن تصل إلى ذلك الأفق وحصرت الألسن أن تصل إلى ذلك الفضاء الّذي وقفت عنده الصّدّيقة في التّشريع”. هذا ليس عاطفة، هذا برهانٌ علميٌّ لمن يتدبّر ولمن يتضلّع في العلوم. أسس التّقنين وأسس العقائد والعوالم السّابقة وفلسفة التّوسّل العقليّة التّوحيديّة بيّنتها في سطر واحد، بينما في نهج البلاغة في صفحةٌ والإمام الكاظم في صفحتين ثلاث. هي (سلام اللّه عليها) في سطر واحد. هذه خطبةٌ مرتجلةٌ أرخيت دونها حجاب النّبوّة. فهذه ليست شعرا توصف بها الصدّيقة. يعني إذا عندك علم فقه وعلم الأصول التّشريعيّة والأصول الدّستوريّة وفقه الدّستور، سواءٌ فقط دستورٌ في الفقه أو في الكلام أو في التّشريع، حتّى أسس علم الرّجال، علومٌ عديدةٌ ذكرت أسسها في خطبتها. ولم يكن ثمّة علماء في المسلمين يفهمون هذا العموم. أين علم فاطمة من علم أيّ امرأة في الإسلام؟ وهذا ليس تعصّبا ولا عاطفة، إنّما أرقامٌ علميّةٌ دامغةٌ.
ان خطبة فاطمة فوق فهم الفقهاء والمفسّرين وعلماء الأمّة من الفريقين. جزالةٌ في المعادلات وتأسيسا كأسس وفصاحة وبلاغة. أنّى لعالم أن يأتي بنقض ما قالته؟ نحن لا يمكننا أن نحفظ ألفاظ الخطبة ونتتعتع في حفظ الألفاظ فضلا عن فهم المعاني.
فاطمة لم تفسح لنفسها مجالا للتّشريع إلّا في الفقه الدّستوريّ لكلّ الدّين ولكلّ علوم الدّين. ائتني أنت بعالم في هذا المستوى. أنت أتيني بكلام من الأئمّة عدا أمير المؤمنين يجمع كلاما جامعا كجمع كلام فاطمة. ائتني بكلام نبي بعد سيّد الأنبياء جامع لما قالته فاطمة بالأرقام العلميّة علم الكلام والفقه والرّجال والحضارة والاستراتيجيّة بلا تلكّؤ، كالسّيل الهادر. لم تسمع هذه المعادلات والأفق والأسس قبل كلامها. هو علمٌ نبويٌّ أودع من النّبيّ لفاطمة. لا تقل أودع عن طريق الرّواية والحسّ، لأنّ الحسّ يتتعتع لدى الإنسان. هي تتكلّم وتفرّغ عن الوعي. “فاطمة منّي وأنا من فاطمة”، “لا يبلّغ عنك إلّا أنت أو رجلٌ منك”، يعني شخصٌ منك، تفرّغ عن الوحي.
فنرجع إلى المسؤوليّة العامّة. وهذه من البحوث العظيمة الّتي أكّدت عليها فاطمة: بحث المسؤوليّة العامّة، وأنّ مسؤوليّتنا العامّة لا تقتصر على أبناء زماننا، نحن بمنطق القرآن مسؤولون عن كلّ المجتمعات منذ آدم إلى الآن، لأنّه إذا عرّفنا واستحسنّا السّرطانيّات في تلك المجتمعات ستنتشر الأوبئة في هذا المجتمع. وإذا لم نضرب هذا المجتمع المعاصر بتلقيح مضادّ لتلك السّرطانيّات فالأوبئة ستنتشر، وسنلقي ويلاتها في عصرنا الحاضر، وسنجني حتّى على الأجيال اللّاحقة. لاحظ نظام المسؤوليّة في منطق القرآن وأهل البيت عظيمٌ جدّا.