< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/05/08

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: البراءة العقلية
 الألفاظ الأُخرى للقاعدة:
 قبح العقاب بلا بيان
 الأصل العملي العقلي
 توضيح القاعدة:
 وقبل أن نوضح القاعدة نرمي إلى ذكر بعض المقدمات لتوضيح الأصل العملي الذي كانت البراءة العقلية أول مداخله فنقول:
 1ـ ان الفقه الأمامي كله مستنبط بواسطة مرحلتين:
 المرحلة الأُولى: يطلب فيها المجتهد الدليل على الحكم الشرعي فهي تشخّص الحكم الشرعي الواقعي نفسه من طريق الأدلة القطعية أو التي قام على اعتبارها دليل قطعي.
 المرحلة الثانية: يطلب تشخيص الوظيفة العملية تجاه الحكم الشرعي المجهول (حكمه ودليله) فهو يطلب التنجيز والتعذير، وهذه المرحلة تسمى بمرحلة الأصل العملي.
 اما الفقه السُني فهو يتجه إلى إثبات الحكم الشرعي دائما، فهو يثبته بالأدلة القطعية أو المفروغ عن دليليتها شرعاً، وان لم يتمكن من إثبات الحكم الشرعي بهذه الطريقة تحوّل إلى إثباتها بطرق ضعيفة اضعف من الامارات، وهي الظنون القائمة على أساس الاعتبارات والاستحسنات والقياسات ليثبت الحكم الشرعي.
 ولهذا تجد التوسع عند الإمامية في بحث الأُصول العملية، بينما لا تجد ذلك عند الفقه السنّي، بل نجد البحث عن الظنون التي تثبت حكما شرعاً وان لم تكن أدلتها قطعية ومسلّمة.
 أقول: لماذا حصرت الأصول العملية بالأربعة التي هي «الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير»؟ فإنّ هناك أصول في الشبهات الموضوعية كقاعدة «اليد والفراغ والتجاوز والفراش وأصالة الصحة» فإنّه بناء على أنّها من الأصول حيث تجري عند الشكّ فلماذا اقتصرت الأصول العملية عند الشكّ في الأربعة ولم تدرج هذه الأصول مع الأصول العملية؟!
 كما أنّ هناك أصول حكمية «في الشبهات الحكمية كأصالة الطهارة الجارية عند الشكّ بنحو الشبهة الحكميّة، وأصالة عدم الفسخ التي يدعى الإجماع عليها، وأصالة الإطلاق في لسان الدليل عند الشكّ فيه، فلماذا لم تذكر في عداد الأصول العمليّة؟!
 أقول: أمّا عدم إدراج الأصول في الشبهات الموضوعية في الأصول العملية، لأنّها خارجة عن علم الأصول الذي هو أساس في استنباط الأحكام الفرعية الكليّة، فإنّ الأصل الجاري في الشبهات الموضوعية يثبت حكماً جزئياً بحسب جريانه في واقعة خارجية بخلاف الأصول الأربعة حيث يستنبط منها أحكاماً كليّة.
 وأمّا عدم إدراج الأصول في الشبهات الحكمية في الأصول العملية كصالة الطهارة، فهو لأجل أنّ أصالة الطهارة مثلاً في شيء عبارة عن حليّة الأكل والشرب وجواز الوضوء والصلاة، وهذه الأمور كما تراها ليست عنصراً مشتركاً في جميع أبواب الفقه مثل حجيّة خبر الواحد أو دلالة الأمر على الوجوب أو النهي على الحرمة، بل هي تختصّ في باب أو بابين من أبواب الفقه.
 وهناك فرق واضح كليّ بين الشبهات الموضوعية والحكمية ننتظر فيه الوظيفة العلمية، وبين الأصول العملية الأربعة « الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير» وهو أنّ هذه الأصول نشأت على أنّها أدلة عقلية فالاستصحاب كانوا يذكرونه على أنّه دليل عقلي والذي استدل على حجيّته بالأخبار هو والد الشيخ البهائي وكذا البراءة فإنّها تذكر على أنّها دليل عقلي وكذا الاحتياط والتخيير، بينما الأصول العملية في الشبهات الموضوعية والحكمية فهي ليست من الأحكام العقلية، بل أحكام ووظائف عملية قام بها دليل شرعي أو عقلي.
 نعم قد تنبّه العلماء قبل الشيخ الأنصاري إلى أنّ الأصول الأربعة لم تكن أدلتها عقلية برمّتها حيث إنّ الاستصحاب دليله الروايات وكذا الاحتياط والبراءة النقلية إلّا أنّه جرى على فصل هذه الأصول العملية الأربعة عن غيرها، فالتمييز بين الأصول الأربعة وغيرها كان له ارتباط بفكرة الأصل العملي العقلي الذي تبيّن عدم صحته، فلاحظ.
 ولهذا بقيت الأصول العملية التي تذكر في الأصول أربعة لا أكثرن وبقية الأصول العملية تذكر في الفقه أمّا لاختصاصها بباب أو بابين كما في الشبهات الموضوعية والحكمية كأصالة الطهارة، وأمّا أصالة عدم النسخ فهي لم تذكر كأحد الأصول العملية لأنّها لم تذكر كدليل عقلي في أوّل نشوء تاريخ الأصل العملي فلاحظ.
 2 ـ ان فكرة الأصل العملي بهذا الوضوح لم تكن عند الأوائل من علمائنا، بل كان الأصل العملي مدرجاً تحت دليل العقل، فحينما قالوا ان مصادر الفقه أربعة (الكتاب والسنّة والإجماع والعقل) أدرجوا أصالة البراءة التي نحن بصدد بيانها في دليل العقل، ولكن لا بمعنى قبح العقاب بلا بيان، بل من باب قبح التكليف بما لا يطاق، وقد ادعى جمع كالسيد المرتضى وابن زهرة ان هذه الأدلة كلها قطعية، فالبراءة اعتبرت قطعية والعمل بها عمل بدليل العقل القطعي، فأجابوا غيرهم بأنهم يعملون بالقطع ولا يحتاجون إلى الظنون الناقصة التي لا دليل على اعتبارها.
 وكذلك أدرج الاستصحاب في الدليل العقلي (بل البراءة ألحقت بالاستصحاب في كلام المحقّق في كتابيه المعراج والمعتبر، لأن الحالة الأصلية، براءة الذمة قبل الشرع وهي تثبت بالاستصحاب) وسموه باستصحاب حال العقل، ووصفوه بالدليل العقلي القطعي. مع أنه ليس دليلاً على الحكم فضلاً عن كونه قطعيا، نعم نقطع بتفريغ الذمة به.

 ثم في كلمات المحقق وفي زمانه كانت صياغة الاستدلال بالبراءة على الإباحة صياغة استدلالية عقلية: فقالوا:
 1 ـ التكليف بالمجهول غير معقول لأنه تكليف بما لا يطاق.
 2 ـ ان عدم الدليل على الحكم دليل على العدم، لأن الأحكام قد بلِّغت جميعاً.
 وهذا كلّه عبارة عن الباس البراءة ثوب الدليل القطعي على الحكم الشرعي الواقعي.
 ثم التفت العلماء «بعد زمان المحقّق» إلى الأدلة المعتمدة في الفقه فوجدوا فيها ما هو ظني معتبر كالظهورات وخبر الثقة، فهي أدلة ظنيّة قام الدليل القطعي عليها، والتفتوا إلى ان الأصول العملية أدلة ظنية قام الدليل القطعي عليها، فقالوا بان الاستصحاب حجة لا فادته الظن الذي قام على اعتباره دليل قطعي، وفي المعالم جعل البراءة دليلاً ظنيّاً.
 ثم بعد ذلك جاءت الفكرة الصحيحة للأصل العلمي التي لا تقول بأن الأصل العملي كاشف عن الحكم الشرعي ودليل عليه ويبحث عن كونه قطعيا أو ظنيّا، بل قالوا: بان الأصل العملي يحدّد الموقف العملي للمكلف تجاه الحكم الواقعي عند عدم امكان إثباته بدليل. ومن هنا يكون فراغ الذمّة به قطعياً ولكنه ليس من جملة الأدلّة، وهذا ما أشار إليه المحقق جمال الدين وحققه الوحيد البهبهاني وتلامذته، ولذا كان صاحب الحدائق يسرد أدلة من يقول: إنّ دليل البراءة دليل على الحكم ويناقشها ويقول: «ذهب بعض متأخري المتأخرين إلى أن البراءة ليست دليلاً على الحكم وإنّما هي دليل على نفي تكليفنا بالحكم» [1] .


[1] نقله عنه السيد الشهيد الصدر، راجع بحوث في علم الأصول5: 11.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo