< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/03/18

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: قاعدة: حجيّة الظواهر
 وقد يقال: إنّ اللغويين لم يتصدّوا لبيان المعنى الحقيقية وتمييزها عن المعاني المجازية في كتبهم وهذا إشكال إثباتي يقول بانحصار عملهم بذكر موارد الاستعمال.
 وصوابه: أنّنا إذا رجعنا إلى كتب بعض اللغويين ككتاب أساس البلاغة للزمخشري نرى أنّه ذكر المعاني الموضوعة للألفاظ الحقيقية، وذكر المعاني التي استعملت في غير ما وضع لها من الألفاظ، وقالوا: إنّ الزمخشري هو أوّل من أفرد المجاز عن الحقيقة [1] ، وكذا نقل عن السيد علي خان المدني الشيرازي أنّه ذكر جميع استعمالات الصيغ الحقيقية والمجازية في الكتاب والسنة والمثل وغيرها [2] .
 ولكنّ هذا الاجتهاد لا يكون حجة على المجتهد اللغوي الآخر ولا يكون حجّة على المجتهد الذي يتمكّن أن يجتهد ولو بعد الرجوع إلى اللغويين لتيسّر مقومات الاستنباط للمجتهد كاللغوي، إمّا إذا كانت مقومات الاستنباط للغوي لم تتوفّر للمجتهد كما إذا استنبط اللغوي من الاستعمال الجامع، أو فحص الاستعمالات فقال: إنّ اللفظ لم يستعمل إلّا في معنى واحد، ولم تتوفّر مقدمات هذا البحث للمجتهد، فهنا يمكن للمجتهد أن يقلّد اللغوي ويرجع إليه لأنّه جاهل بمقدمات استنباط اللغوي فهي غير متوفرة لديه، فلاحظ.
 وقد يستدل على حجية قول اللغوي بالإجماع العملي من قبل العلماء على مراجعة أقوالهم وهذا الإجماع صحيح إلاّ أنه لا من باب حجية قول اللغوي بل لأجل حصول الاطمئنان والاطلاع المباشر على الوضع.
  وليس هو إجماع يستفاد منه الكشف عن أن المعصوم معهم يعمل بهذا العمل، لأن المعصوم لا يرجع إلى نصوص أهل اللغة.
 أما الإجماع القولي على حجية قول اللغوي فهو غير موجود الا من السيد المرتضى على تقدير صحّة النسبة إليه، على أن المسألة لم يتعرض لها المتقدمون، على أن الإجماع ليس بحجة إلاّ أن يكشف عن موافقة المعصوم ورجوعه إلى أهل اللغة عملاً وهو ما لم يوجد في الخارج.
 وقد يستدل على حجية قول اللغوي بدليل الانسداد «الصغير» في الألفاظ المشكوك معناها ولا طريق إلى تحصيل العلم بها، فيكون قول اللغوي يفيد الظنّ بالظهور.
 وأقل ما يقال في ردّه هو أن دليل الانسداد في اللغة لو تمّ ورجع إلى انسداد باب العلم في الأحكام فينتج حجية كل ظنٍّ لا خصوص الظن الحاصل من قول اللغوي. على أن الانسداد في معرفة المعنى اللغوي إذا تمّ فهو يوجب الاحتياط ولا يلزم منه عسر وحرج لعدم كثرة أطرافه، وحينئذ لم تتم مقدمات الانسداد لأنّ من جملتها عدم إمكان الاحتياط.
 التطبيقات:
 1 ـ ذكر صاحب الجواهر (): أنه يحرم على الجنب مسّ شيء عليه اسم الله سبحانه، ويدلّ على ذلك موثقة عمّار بن موسى عن الصادق () قال: «لا يمسّ الجنب درهماً ولا ديناراً عليه اسم الله» لظهور النهي في الحرمة( [3] ).
 2 ـ وقال السيد الحكيم (): «لا يجوز الاستنابة عن قضاء الفوائت (من الصلاة) ما دام حيّاً وإن كان عاجزاً عن إتيانها أصلاً، لظهور الأدلة في لزوم المباشرة على نحو لا تدخلها النيابة»( [4] ).
 3ـ وذكر السيد الخوئي من جملة أدلة حرمة بيع الميتة فقال: «وفيها رواية علي بن جعفر سأل أخاه (ع) عن بيع جلود ميتة الماشية ولبسها فقال: «لا ولو لبسها فلا يصل فيها»، فإنّ الظاهر أن المنع فيها راجع إلى البيع واللبس ،ولكنه (عليه السلام) بيّن المانعية عن الصلاة زائداً على المنع في نفسه [5] .
 وقال أيضاً: «وأما الروايات الخاصة التي تدل على حرمة بيع الميتة ، فلا ريب في ظهورها بل صراحة بعضها في الميتة النجسة» [6] .
 4ـ وذكر السيد الخوئي في بيع الجارية المغنية فقال: «ثم الظاهر من الأخبار المانعة هو أن الحرام إنما هو بيع الجواري المغنية المعدة للتلهي والتغني، كالمطربات اللاتي يتخذن الرقص حرفة لهن ويدخلن على الرجال» [7] .
 5ـ وذكر السيد الخوئي في حرمة استماع الغيبة فقال: «ومع الاغضاء عن جميع ما ذكرناه وتسليم صحة الروايات المتقدمة الظاهرة في حرمة استماع الغيبة مطلقا فلا بد من تقييدها بالروايات المتكثرة الظاهرة في جواز استماعها لردها عن المقول فيه ، وتخصيصها بصورة السماع القهري» [8] .
 6ـ وذكر السيد الخوئي في حرمة الكذب «وإن ناقش خصوص هذا الدليل» فقال: «وقد يقال بالحرمة هنا أيضا لاطلاق جملة من الروايات : منها مرسلة سيف المتقدمة فإنها ظاهرة في وجوب الاتقاء عن صغير الكذب وكبيره في الجد والهزل على وجه الاطلاق» [9] .
 7ـ وذكر السيد الخوئي دليلاً على صحة بيع الفضولي «وإن ناقش فيه بعد ذلك» وهو صحيحة الحلبي قال سألت عن أبا عبد الله عن رجل اشترى ثوبا ولم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه ثم رده على صاحبه فأبى أن يقبله إلا بوضيعة، قال: «لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه رد على صاحبه الأول ما زاد» [10] ، فقد حكم (قده) ببطلان الإقالة التي هي عبارة عن نسخ الفقد السابق وليست معاملة مستقلة فيما إذا كانت بوضيعة عن العقد السابق، لأنّ معنى الإقالة والفسخ حلّ العقد وإرجاع كلّ من العوضين إلى مالكه وفيما إذا أخذ الثمن بوضيعة أو بزيادة فهو لا يكون إرجاعاً للمالين إلى مالكيهما، فكأنّه يصير معاملة مستقلة أخرى.
 وقوله «لا يصلح» ظاهر في بطلانها لتعلقه بالمعاملة لا بالكراهة.
 وعليه فإذا جهل البائع بذلك فأخذه من المشتري بوضيعة فباعه بأكثر مما أخذه المشتري يتحقّق هناك بيع الفضولي، وهو بيع البائع للمال الذي أخذه من المشتري إذ المفروض أنّه ينتقل إليه بالإقالة لفسادها لأجل الوضيعة، وقد حكم (ع) بصحته حيث قال (ع): «ردّ على صاحبه الأول ما زاد» [11] .
 اقول: كل ظهور حجّة، ولكن هنا تمسك بالظهورات الضعيفة التي تحتاج إلى ضمّ مناسبات الحكم والموضوع أو الالتفات إلى نكتة لا يفهمها الا الألمعي من الناس، وهذا الظهور حجة إذا دلّ عليه الإمام (). ومثال ذلك:
 1ـ قال الشهيد الصدر (): «إن الأئمة كانوا يستدلون بظواهر قرآنية مبنية على اعمال عناية أو إلغاء خصوصية منها: ما رواه عمر بن يزيد عن أبي عبدالله () قال: «قال الله تعالى في كتابه:فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَام أَوْ صَدَقَة أَوْ نُسُك فمن عرض له أذى أو وجع فتعاطى ما لا ينبغي للمحرم إذا كان صحيحاً فصيام ثلاثة أيام»( [12] ).
 فإن ظاهرها أن الإمام () يريد استخراج الحكم من الآية الكريمة بقرينة الاستشهاد والتفريع عليها بقوله: (فمن عرض...) وقد استفاد منها الأمام ضابطة كليّة مع أنها بحسب حاقّ مفادها اللغوي خاصة بمورد الاذى من رأسه في مسألة حرمة الحلق على المحرِم.
 فاستفاد الإمام بمناسبات الحكم والموضوع الغاء الخصوصية والتعدّي إلى مطلق تروك الاحرام( [13] ). وحينئذ يكون اعمال عناية ومناسبة عرفية دخلية في تكوين الظهور.
 2ـ وقال الشهيد الصدر: «رواية الحسن بن علي الصيرفي عن بعض أصحابنا قال: سئل أبو عبدالله () عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنة؟ فقال: «فريضة». قلت أو ليس قد قال الله عزّ وجلّ: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا قال: كان ذلك في عمرة القضاء، ان رسول الله () شرط عليهم ان يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الأيام وأعيدت الأصنام فجاؤوا إليه فقالوا : يا رسول الله إنّ فلاناً لم يسع بين الصفا والمروة وأعيدت الأصنام فأنزل الله عزّ وجلّ: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا أي عليهما الأصنام( [14] ). فإن السائل قد استظهر من نفي الجناح في الآية الترخيص ونفي الوجوب فإن الواجب لا يناسب عرفاً أن يعبّر عنه بلا جناح وإن كان بحسب حاقّ اللغة لا ضيرفية لأن اللغة تقول لا جناح إذا سعى بين الصفا المروة فإن لم يسع ففيه جناح (عقاب) والإمام () قد امضى استظهاره هذا ولكنه حاول أن يلفته إلى أن التعبير بذلك إنّما جاء بلحاظ خصوصية واقعة معينة كأن يتوهم فيها سقوط السعي لابتلائه بمحذور الأصنام، فنفي الجناح ليس بلحاظ أصل عمل السعي وإنّما اتيانه في تلك الحال.
 وهذه الرواية تدل على أن الظهور حجة ولو كان ضعيفاً( [15] ).
 3 ـ صحيحة زرارة قال: قلت للإمام الباقر () إلاّ تخبرني من أين علمت وقلت: إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: «يا زرارة قال رسول الله () ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ، لأن الله عزّ وجلّ قال فاغسلوا وجوهكم، فعرفنا إن الوجه كله ينبغي أن يغسل، ثم قال وأيديكم إلى المرافق، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين ثم فصل بين الكلام فقال: وامسحوا برؤوسكم فعرفنا حين قال (برؤوسكم) أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال وارجلكم إلى الكعبين. فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما. ثم فسّر ذلك رسول الله () للناس فضيعوه»( [16] ) فقد استدل الإمام () بالآية المباركة على كون المسح ببعض الرأس لمكان الباء (مع أن الباء قيل أنها لا تكون للتبعيض بل للإلصاق) مع ذلك يمكن استفادة التبعيض منها لأن الصاق المسح بالرأس بسبب الباء يشعر عرفاً بتخفيف الإلصاق الذي يكفي فيه مسح البعض.


[1] راجع المنهج الاستدلالي النقدي في اللغة للسيد علي الشهرستاني: 58.
[2] راجع الذريعة 15: 175-185.
[3] ـ يراجع جواهر الكلام3 : 46.
[4] ـ يراجع مستمسك العروة الوثقى7 : 99.
[5] موسوعة السيد الخوئي30: مصباح الفقاهة 1: 106-107.
[6] الصدر نفسه: 120.
[7] المصدر السابق: 265.
[8] المصدر السابق: 550.
[9] المصدر السابق: 594-595.
[10] الوسائل 18: 71، باب 17من أحكام العقود.
[11] موسوعة السيد الخوئي30 : مصباح الفقاهة 1: 310.
[12] ـ وسائل الشيعة باب 14 من أبواب بقية الكفارات.
[13] ـ بحوث في علم الأُصول4 : 260.
[14] ـ وسائل الشيعة باب 1 من أبواب السعي/ ح 6.
[15] ـ بحوث في علم الأُصول4 : 262.
[16] ـ وسائل الشيعة باب 23 من الوضوء/ ح1.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo