« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول

46/07/20

بسم الله الرحمن الرحيم

-الوجه الثالث - وجوه حجية احتمال التكليف من قبل المولى( وجوه منجزية الاحتمال )– البراءة العقلية - أصل البراءة - مبحث الاصول العملية.

الموضوع:- الوجه الثالث - وجوه حجية احتمال التكليف من قبل المولى( وجوه منجزية الاحتمال ) – البراءة العقلية - أصل البراءة - مبحث الاصول العملية.

 

الوجه الثالث: - إنَّ الاحتمال إذا لم يكن منجزاً فعدم تنجيزه ليس إلا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن هذه القاعدة هي باطلة في حدّ نفسها باطلة إذ لا دليل عليها،

وهذا الوجه يتركب من دعويين: - الأولى انكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والثانية منجزية الاحتمال.

أما الدعوى الأولى:- فإنَّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا مستند لها سوى حلاوة ألفاظها، ولو صغناها بصياغة أخرى من دون هذه الألفاظ لأمكن التشكيك فيها، وذلك بأن نقول ( يقبح العقاب إذا فرض أنَّ الشخص ليس له علم بالشيء بنحو الجزم فهنا يقبح عقابه حتى لو كان عنده اطلاع على ذلك الشيء بدرجة تسعين أو خمسة وتسعين بالمائة فإنَّ هذا الاحتمال لا عبرة به وإنما العبرة بأن يحصل له الجزم بنحو مائة بالمائة )، فإذا صيغت بهذا الشكل فمن يقرأها فسوف لا يقبل بأنَّ العبرة كل العبرة بالعلم الجزمي دون غيره فإنَّ هذا على خلاف سيرة العقلاء، فإنَّ العقلاء يأخذون بالاحتمال فيما إذا كان عقلائياً كما لو كان بدرجة تسعين أو خمسة وتعسين بالمائة، فمثلاً إذا احتملت وجود مجلس تعزية في دار صديقي بدرجة تسعين بالمائة فسوف أذهب إليها، وإذا احتملت بدرجة تسعين بالمائة أنَّ شيئاً معيناً سيضرني فسوف لا أُقدِم على ارتكابه. وعليه فالعقل ليس له مثل هذا الحكم وأنه يقبح العقاب من دون علم وأنَّ المدار كل المدار على العلم فقط فإنَّ هذا لا يسلّم به أي عاقل.

ولعل الذي أوجب التغرير وقبول هذه القاعدة هو وجود كلمة ( بيان ) فيها حيث قيل ( يقبح القعاب بلا بيان )، ولكن لو أبدلناها ( العلم ) وقلنا ( يقبح العقاب من دون علم بالشيء مائة بالمائة ) فهذا لا نسلّم به ولا العقلاء، بل سيرتهم جرت على أنهم إذا احتملوا شيئاً بدرجة تسعين بالمائة مثلاً فسوف يأخذون به.

وأما الدعوى الثانية: - فبعد فرض أن رفضنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلازم ذلك منجّزية الاحتمال، فإنَّ الاحتمال إنما لا نقول بكونه منجّزاً لأجل قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلو أنكرناها صار الاحتمال العقلائي منجزاً، وسيرتنا جارية على ذلك، فإذا احتملنا أنَّ بدرجة تسعين بالمائة أن الدخول في الشارع الفلاني ممنوع فسوف لا ندخل فيه، وهكذا الحال في بقية موارد الاحتمال.

من خلال هذا كله اتضح أننا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا لما افاده السيد الشهيد(قده)، ولا لما أفاده السيد الروحاني(قده)، بل لأجل أنَّ هذه القاعدة لا مستند لها سوى حلاوة ألفاظها فإذا أبدلت ألفاظها بألفاظٍ صريحة فسوف لا يقبل بها أي عاقل. وعليه فهذه القاعدة لم يثبت لها مستند فتكون باطلة ولازم ذلك منجّزية الاحتمال، والشواهد العرفية على ذلك واضحة كما ذكرنا.

ومن خلال كل ما ذكرناه اتضح أن التنجيز ثابتٌ في موردين، الأول: قوة المحتمل، كما لو احتملت ولو بدرجة ضعيفة كشعرة أو خمسة بالمائة أنَّ هذا الشيء سمّاً قاتلاً فهنا سوف يكون المحتمل منجّزاً وإن كان احتماله بدرجةٍ ضعيفة جداً، فهنا التنجيز العقلائي يكون ثابتاً، والثاني: قوة الاحتمال، كما لو كان احتمال الشيء بدرجة سبعين أو تسعين بالمائة فهذا الاحتمال يكون منجّزاً أيضاً ولا يلزم أن يكون بدرجة مائة بالمائة.

وبعد أن ثبت بطلان قاعدة قبح القعاب بلا بيان وثبوت التنجيز للاحتمال العقلائي فحينئذٍ نقول:- إنَّ هذا الاحتمال إنما يكون منجّزاً فيما إذا لم تثبت البراة الشرعية، وأما بعد وجود أدلةٍ على ثبوت البراءة الشرعية - التي هي مثل ( كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام ) أو ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) أو غير ذلك الألسنة - فحينئذٍ لا مجزية للاحتمال، فإنَّ الاحتمال يكون منجزاً فيما لو لم يكن هناك دليل شرعي يحكم بأنه في حالة الاحتمال وعدم العلم يجوز للمكلف المخالفة، وأما بعد وجود الأدلة الشرعية على البراءة فسوف تكون مقدمة على حجية الاحتمال عقلاً وتكون حاكمة على العقل، فالعقل يحكم بلابدية السير على طبق الاحتمال فيما إذا فرض أنَّ صاحب الحق لم يحكم لك بالبراءة، وإما بعد حكمه لك بالبراءة فحينئذٍ لا يحكم عليك العقل بعدم جواز الارتكاب.

logo