« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث التفسیر

40/06/26

بسم الله الرحمن الرحيم

آراء أخرى حول نسخ الآية الثانية والثلاثين

موضوع: آراء أخرى حول نسخ الآية الثانية والثلاثين

 

آراء أخرى حول الآية[1]

كان الكلام في الآية الثانية والثلاثين التي ادعي نسخها وهي قوله تبارك وتعالى ﴿فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منن بعد وإما فداءا﴾[2] .

تطرقنا في الدرس السابق إلى رأي الشيعة الإمامية وهو أن هذه الآية محكمة وليست ناسخة ولا منسوخة فقد أدعي أنها منسوخة بآية السيف ﴿قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾[3] وقد أدعي أيضا العكس أن هذه الآية هي ناسخة لآية السيف.

واتضح من خلال ما تقدم أن الآية لا ناسخة ولا منسوخة وإنما هي محكمة.

نتطرق الآن إلى آراء بعض أهل السنة والعامة التي ذهبت إلى أن هذه الآية ناسخة أو منسوخة.

الرأي الأول يرى أن هذه الآية نزلت في المشركين ثم نسخت بآيات السيف ﴿قاتلوا المشركين كافة﴾ ﴿اقتلوهم حيث وجدتموهم﴾ إلى آخر الآية ﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم﴾[4] نسب هذا القول إلى قتادة والضحاك والسدي وابن جريح وابن عباس وإلى كثيرين من الكوفيين فقالوا إن الأسير المشرك يجب قتله ولا تجوز مفاداته ولا يجوز المن عليه على الإطلاق.[5]

وفيه إنه لا وجه للنسخ على هذا القول فإن النسبة بين هذه الآية وآيات السيف نسبة المقيد إلى المطلق سواء كانت هذه الآية متقدمة على آيات السيف أو متأخرة عنها في النزول.

وقد ذكرنا مرارا وتكرارا أن العام سواء تقدم على الخاص أو تأخر عن الخاص لا يكون العام ناسخا للخاص هذا بالنسبة إلى العام الذي عمومه لفظي فكيف بالمطلق الذي عمومه ببركة مقدمات الحكمة. فإن المطلقة إذا تأخر عن المقيد وسبقه المقيد يرى العرف في جمعهم العرفي أن المطلق يحمل على المقيد. ففي هذه الحالة عندنا عام.

وما هو العام؟

﴿فإذا لقيتم الذين كفروا﴾ الذين كفروا يشمل المشركين ويشمل غير المشركين بينما آية السيف ﴿قاتلوا المشركين كافة﴾ هي خاصة بخصوص المشركين فيكون مقتضى الجمع العرفي أنه ﴿إذا لقيتم الذين كفروا﴾ فإن كان قبل الإثخان فاقتلوهم وإن كان بعد الإثخان إما أن تأسروهم وإما أن تفادوهم وإما أن تمنوا عليهم إلا في خصوص المشركين فإنه لابد من قتلهم.

هذا مقتضى حمل المطلق على المقيد فيكون الوجه الأول للنسخ ليس بتام.

الرأي الثاني منهم من قال إن الآية نزلت في الكفار جميعا فنسخت في خصوص المشرك، نسب هذا القول إلى قتادة ومجاهد والحكم وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة.

والصحيح أن هذا القول واضح البطلان لأمور ثلاثة:

الأمر الأول هذا الرأي يتوقف على أن تكون آيات السيف متأخرة في النزول عن هذه الآية ولا يمكن للقائل بالنسخ أن يثبت أن هذه الآية متقدمة وآيات السيف متأخرة إلا إذا تمسك بخبر الواحد وقد قلنا مرارا وتكرارا أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد إجماعا.

الأمر الثاني لو سلمنا ذلك وقلنا إن هذه الآية متقدمة وآيات السيف متأخرة فلا دليل على أن آيات السيف ناسخة لهذه الآية بل الصحيح هو حمل المطلق على المقيد فتكون آية السيف الخاصة بالمشركين مقيدة لآية الفداء والمن التي هي مطلقة تشمل الكافرين سواء كانوا من المشركين أم لا.

فمقتضى الجمع العرفي أن المطلق يحمل على المقيد فتكون آيات السيف مقيدة لإطلاق آية الفداء لإجماع الأمة على أن آية الفداء قد شملت المشركين أو أنها قد تختص بهم وبالتالي تكون الآية المباركة قرينة على تقييد آيات السيف وإن آيات السيف مقيدة لإطلاق آية الفداء وبالتالي المقيد ليس ناسخا للمطلق وإنما هو مخصص للمطلق.

الأمر الثالث لو غضضنا النظر عن الإطلاق والتقييد ومن الواضح لديكم أن الإطلاق والتقييد إنما يكون في نسبة العموم والخصوص المطلق. إذا كان هناك عموم وخصوص مطلق فإن المطلق يحمل على المقيد الخاص.

وأما التعارض الأدلة يكون في نسبتين:

النسبة الأولى التباين

والنسبة الثانية العموم والخصوص من وجه

فلو قلنا أنه لا يمكن حمل المطلق على المقيد يعني أنكرنا ما ورد في الملاحظة الثانية يعني ما نحمل إطلاق آية الفداء على تقييد آية السيف في هذه الحالة تكون النسبة بين آية الفداء وآية السيف هي نسبة العموم والخصوص من وجه أي أنهما يشتركان في مورد ويفترق كل منهما عن الآخر في مورد يخصه فلنقرأ الآيتين معا لنرى مورد الاجتماع ومورد افتراق كل منهما.

آية الفداء تقول ﴿فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم﴾[6] يعني تضربون رقابهم وتقتلونهم إلى أن تثخنوهم يعني إلى أن تضع الحرب أوزارها إلى أن تتوقف الحرب ﴿حتى إذا أثخنتموهم﴾ هناك ثلاثة أشياء فشدوا الوثاق يعني تأسرونهم فإما منا بعد وإما فداء إما أن تطلب الفدية من الأسرى لكي تطلقوا أسرهم وإما أن تطلقوهم من دون فدية وتمنوا عليهم.

إذن آية الفداء فرقت بين ما قبل الإثخان وحكمه القتل وما بعد الإثخان وحكمه التخيير بين ثلاثة أمور إما أن يؤسر الأسير يبقى أسيرا وأما أن تطلب الفدية وإما أن يطلق سراحه ويمن عليه من دون فدية وموضوع هذه الآية مطلق الكافر.

وأما الآية المقيدة وهي ﴿قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾[7] موضوعها خاص وهو المشرك فيجب قتله مطلقا قبل الإثخان بعد الإثخان يجب قتله مطلقا فإذا أنكرنا أن الكافر مطلق والمشرك مقيد يعني أنكرنا وجود نسبة العموم والخصوص المطلق فحينئذ تكون النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص من وجه.

ما هي مادة الاجتماع؟

مادة الاجتماع ومورد الاجتماع المشرك الأسير بعد الإثخان.

آية الفداء تقول ما هو حكمه المشرك؟

الأسير بعد الإثخان التخيير بين ثلاثة أمور: وليس فيها القتل:

إما أن يبقى أسيرا

وإما أن يطلب منه الفدية

وإما أن يمن عليه ويطلق سراحه من دون فدية

ولا يوجد فيها القتل. هذا إذا عملنا بآية الفداء

وإذا عملنا بآية السيف ﴿قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾ فيكون حكمه القتل فتحصل معارضة يصير تعارض بين آية الفداء وآية السيف.

وأما مورد الافتراق: مورد افتراق آية السيف عن آية الفداء هو المشرك الأسير قبل الإثخان، مورد افتراق آية الفداء عن آية السيف هو الأسير الكافر غير المشرك، أسير كافر لكنه ليس بمشرك فهذا لم تشمله آية ﴿قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾ لكن تشمله آية الفداء آية الفداء ﴿فإذا لقيتم الذين كفروا﴾ فيصير هذا الأسير حكمه حكم آية الفداء إن كان قبل الإثخان فالقتل وإن كان بعد الإثخان فحكمه التخيير بين الأسر والفداء والمن هذا مورد افتراق آية الفداء عن آية السيف.

وأما مورد افتراق آية السيف

متى تفترق آية السيف عن آية الفداء؟

يعني المشرك إما أن يكون قبل الإثخان وإما أن يكون بعد الإثخان المشرك قبل الإثخان تتفق الآيتان على قتله قبل الإثخان آية الفداء تقول يقتل لأنه كافر فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم وآية ﴿قاتلوا المشركين كافة﴾ فيتفقان في الحكم وأما بعد الإثخان فيفترقان فآية السيف تقول ﴿قاتلوا المشركين كافة﴾ حكمها القتل وآية الفداء تقول ليس حكمه القتل وإنما حكمه التخيير بين الأسر وبين الفداء.

إذن لو لم نقبل حمل المطلق على المقيد تكون النسبة هي نسبة العموم والخصوص من وجه.

إذن الوجه الثاني للنسخ ليس بتام.

الرأي الثالث هناك من قال إن الآية ناسخة لآية السيف يعني صار بالعكس القول الأول والثاني يرى أنها منسوخة القول الثالث يرى بالعكس إن آية الفداء هي ناسخة لآية السيف نسب ذلك إلى الضحاك وغيره[8]

وفيه أمران:

الأمر الأول هذا القول يتوقف على أن تكون آية الفداء متأخرة عن آية السيف لكي تكون آية الفداء ناسخة لآية السيف ولا يمكن للقائل إثبات ذلك.

الأمر الثاني سواء قلنا بالتقدم أو التأخر فإنه حتى لو تأخرت آية الفداء عن آية السيف فإنها لا تستلزم نسخ آية السيف وإنما تستلزم حمل المطلق على المقيد.

المفاد أنه الكافر إذا اسر قبل الإثخان يقتل وإذا اسر بعد الإثخان:

إما أن يبقى في الأسر

أو يطلب منه الفدية

أو يمن عليه ويطلق سراحه من دون فدية إلا المشرك فإنه يقتل مطلقا أسر قبل الإثخان أو بعد الإثخان

وقلنا سابقا العام تأخر عن الخاص أو تقدم عليه الخاص يحمل العام على الخاص والمطلق إذا تأخر عن المقيد لا يلغي المقيد ولا ينسخ المقيد وإنما يحمل المطلق على المقيد، إذن القول الثالث ليس بتام.

الرأي الرابع ومنهم من قال إن الإمام مخير في كل حال ـ يعني قبل الإثخان أو بعد الإثخان ـ مخير بين القتل والاسترقاق والمفاداة والمن يعني مخير بين الأمور الأربعة مطلقا إما يقتل الأسير أو يبقيه في الأسر أو يمن عليه أو يطلب منه الفدية.

رواه أبو طلحة عن ابن عباس واختاره كثير منهم ابن عمر والحسن وعطاء وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والاوزاعي وأبي عبيد وغيرهم. وعلى هذا القول لا يوجد نسخ في الآية[9] لأن الآية هي ذكر الأمور الأربعة آية الفداء ذكرت القتل والأسر والفداء والمن.

قال النحاس بعد ما ذكر هذا القول كتابه الناسخ والمنسوخة صفحة 221 وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما يعني أية الفداء محكمة وآية السيف محكمة يعني لا يوجد ناسخ ولا منسوخ إذن القول الأول والثاني يرى آية السيف ناسخة لآية الفداء، القول الثالث يرى أية الفداء ناسخة لآية السيف القول الرابع يرى لا ناسخ ولا منسوخ مخير بين الأمور الأربعة، قال النحاس وهذا على أن الآيتان معمول بهما وهو قول حسن لأن النسخ إنما يكون بشيء قاطع فأما إذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى في القول بالنسخ[10] وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبو عبيد.

وفيه أربعة أمور:

الأمر الأول الآية الكريمة صريحة في أن المن والفداء متى يكون بعد الإثخان فالقول بثبوت المن والفداء قبل الإثخان قول بخلاف القرآن، القرآن يقول قبل الإثخان ضرب الرقاب فكيف أنت قبل الإثخان وقبل انتهاء المعركة تثبت المن والفدية هذه الملاحظة الأولى.

الأمر الثاني الأمر بالقتل في الآية ﴿فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم﴾ مغيب الإثخان فالقول بثبوت القتل بعد الإثخان قول بخلاف القرآن أيضا وقد اتضح أن آية السيف مقيدة بهذه الآية قبل الإثخان وبعد الإثخان.

الأمر الثالث قد يقال إن مستند التخيير بين الأمور الأربعة القتل والفداء والمن والأسر مطلقا قبل الإثخان وبعده هو أن النبي "صلى الله عليه وآله" قتل بعض الأسرى وفادا بعضا ومن على آخرين من قيل ذلك؟ قلنا أن هذه الرواية لو سلمنا أنها رواية صحيحة فهي لا دلالة فيها على التخيير بين القتل وغيره بجواز أن النبي "صلى الله عليه وآله" قتل بعض الأسرى قبل الإثخان أي قبل انتهاء المعركة وفاد البعض الآخر أو من عليهم بعد الإثخان يعني بعد انتهاء المعركة وما استدل به على التخيير بين الأمور الأربعة لا دلالة فيه على هذا التفصيل أنه قبل الإثخان أو بعد الإثخان.

الأمر الرابع والأخير قد يكون المستند في التخيير بين الأمور الأربعة القتل والأسر والفداء والمن ما روي من فعل أبي بكر وعمر، الجواب على تقدير ثبوته لا حجية فيه فإنه سيرة الصحابة ليست حجة سيرة النبي هي الحجة فإذا كانت سيرتهم لا حجية فيها فكيف نرفع اليد بسيرتهم عن ظاهر القرآن الكريم.

النتيجة النهائية الوجوه الأربعة أو الآراء الأربعة التي ادعيت في نسخ آية الفداء ليست تامة واتضح أن الآية الثانية والثلاثين تامة لا غبار عليها وهي محكمة وليست منسوخة.

الآية ثلاثة وثلاثين ﴿وفي أموالهم حق للسائل والمحروم﴾[11] يأتي عليها الكلام.

 


logo