47/05/10
الدرس (مائتان وسبعة وخمسون): الواجب النفسي والغيري
الموضوع: الدرس (مائتان وسبعة وخمسون): الواجب النفسي والغيري
يُقسَّم الواجب بلحاظ آخر إلى الواجب النفسي والواجب الغيري، وقد عُقد هذا البحث لأجل الواجب الغيري من أجل بحث مقدمة الواجب، فهل مقدمة الواجب واجبة أو لا؟ وإذا وجبت هل تجب بالوجوب الشرعي أو الوجوب العقلي؟ ومن هنا يقع البحث في جهات.
الجهة الأولى: تعريف الواجب النفسي والغيري
وقد عُرِّفَ الواجب النفسي بأنه ما وجب لا لواجب آخر، وعُرِّفَ الواجب الغيري بأنه ما وجب لواجب آخر.
وأُورد عليه: أن أكثر الواجبات النفسية وجبت لمصالح فيها، فالصلاة والصوم والحج وغير ذلك قد وجب لمصالح في متعلقاتها، ومن هنا نسأل: هل تلك المصالح قد وصلت إلى درجة الإلزام أو لا؟ فإذا فُرض أن تلك المصالح لم تصل إلى درجة الإلزام فإنها حينئذ لا تستلزم إيجاب الواجبات، وإذا فُرض أن هذه المصالح قد وصلت إلى درجة الإلزام إذًا يصبح تحصيلها هو الواجب النفسي ويكون المحصِّل لتلك المصالح كالصلاة والصوم والحج هو الواجب الغيري لا الواجب النفسي، إذ أن الصلاة وجبت لمصلحة ملزِمة غيرها. نعم يُستثنى من ذلك المصالح التي هي بنفسها كمال مطلوب بقطع النظر عما يترتب عليها من المصالح مثل وجوب معرفة الله، فنفس المعرفة ونفس النظر مصلحة عظمى بقطع النظر عما يترتب عليها، فتكون النتيجة بناءً على هذا التعريف فلا ينطبق الواجب النفسي إلا على ما مثل معرفة الله ولا ينطبق على أكثر الواجبات في الفقه الإسلامي.
جواب الإشكال:
هذا الإشكال على تعريف الواجب النفسي إنما يتم لو أُضيف النفسية والغيرية إلى عالم الملاك أو عالم الشوق والإرادة، فالملاك النفسي أو الشوق النفسي إنما هو في تلك المصالح، وأما الصلاة والصوم والحج وغيرها فملاكه وشوقه تبعي، لكننا لا نلحظ النفسية والغيرية بلحاظ عالم المبادئ من ملاك أو شوق وإرادة، بل نلحظ النفسية والغيرية بلحاظ دخول التكليف في الذمة وفي العهدة، فالنفسية والغيرية إنما تُلحظ بلحاظ عالم تحميل المسؤولية التي يضعها المولى على المكلف، بعد أن نحرز الملاك.
[الضابطة في الواجب النفسي والغيري]
فيصير الضابطة للواجب النفسي والواجب الغيري كما يلي: الواجب النفسي هو ما يُعاقَب على تركه بما هو هو، والواجب الغيري هو الذي لا يُعاقَب على تركه بما هو هو، والضابط في ذلك والميزان هو ما يجعله المولى في ذمتنا ويجعله على عهدتنا ويشغل به ذمتنا، فحينئذ يستقل العقل ويحكم باستحقاق العقاب على تركه، وأما ما لا يُجعَل في الذمة والعهدة بذاته بل يُجعل بتبع شيء آخر فلا يحكم العقل باستقلال العقاب على تركه بما هو هو.
فإذا لاحظنا النفسية والغيرية بلحاظ عالم الجعل في العهدة والذمة وتحميل المسؤولية نقول: إذا جُعلت نفس المصلحة رأسًا في العهدة واشتغلت الذمة بها أصبحت هي الواجب النفسي ويكون الفعل المحصِّل لها هو الواجب الغيري، بخلاف إذا أُدخل نفس العمل كالصلاة والصوم في العهدة واشتغلت الذمة بنفس الصلاة أو الصوم أو الحج وجُعلت مصبًّا لإعمال مولوية المولى، فحينئذ يستقل العقل بلزوم الطاعة ويحكم بالعقاب على مخالفة نفس هذا العمل فيكون واجبًا نفسيًا.
الخلاصة:
ما الذي يُجعَل في الذمة والعهدة؟ إذا جُعل نفس الصلاة ونفس الصوم ونفس الحج فإن العقل يستقل بالعقاب على ترك الصلاة أو الصوم والحج، ولا يستقل بالعقاب على ترك الوضوء الذي هو مقدمة للصلاة، ولا يحكم العقل بترك السفر الذي هو مقدمة للحج، إذ أن السفر ليس مطلوبًا بنفسه بل مطلوب لغيره، وكذا الوضوء ليس مطلوبًا لنفسه بل مطلوب لغيره.
إذًا هذا التعريف تام: الواجب النفسي ما وجب لنفسه لا لواجب آخر، فيستحق المكلف العقاب على مخالفة نفس الفعل الذي دخل في عهدة، يعني ترك الفعل الذي دخل في عهدة المكلف، بخلاف الواجب الغيري فهو ما وجب لواجب ولم يدخل بنفسه في الذمة وفي العهدة.
يبقى سؤالان:
السؤال الأول: إذا كان الملاك النفسي والشوق النفسي في نفس المصالح كالانتهاء عن الفحشاء والمنكر لا في نفس العمل كالصلاة، فلماذا يعدل المولى عن إدخال نفس تلك المصالح في العهدة إلى إدخال هذه الأعمال كالصلاة والصوم في العهدة؟
فقد ورد ﴿الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[1] ، فلماذا لم يوجب المولى نفس الانتهاء عن الفحشاء والمنكر وإنما أوجب الفعل الذي يؤدي إليها وهو الصلاة؟ وهكذا الزكاة تزكية للنفس، فلماذا لم يوجب المولى تزكية النفس مباشرة وإنما أوجب الفعل الذي يؤدي إلى التزكية وهو الزكاة؟
والجواب: يمكن إيجاب الفعل دون نفس المصلحة لإحدى نكات:
النكتة الأولى: ما يُستفاد من كلمات المحقق النائيني، يُراجَع[2] [3] .
ومفاد كلام الميرزا النائيني هو عدم إمكان إدخال تلك الأغراض والمصالح في العهدة نظرًا لعدم دخولها تحت القدرة، لأنها تتوقف على مجموعة مقدمات وأمور بعضها عبارة عن عمل اختياري للمكلف وبعضها الآخر خارج عن قدرة المكلف، فيكون العبد غير قادر على الإتيان بمجموع هذه المقدمات لأن بعضها غير اختياري بالنسبة له، ومن هنا لا يجعل المولى الوجوب على نفس تلك المصالح بل يجعل المولى الوجوب على نفس الفعل الذي هو إحدى مقدماتها ويُدخل ذلك الفعل في العهدة فيصبح الفعل موضوعًا لحكم العقل بالعقاب على الخلاف، هذا هو الواجب النفسي.
مثال ذلك: ﴿الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[4] والبغي يعظكم لعلكم تذكرون،
فالفعل هنا هو الصلاة، والمصالح هنا عبارة عن مجموع أمور منها الانتهاء عن الفحشاء والمنكر والبغي الذي هو الظلم، وهذا بمقدور المكلف، ولو افترضنا أن من ضمن المصالح أمورًا أخرى خارجة عن قدرة المكلف، فهنا لا يُعقَل أن يوجب المولى على المكلف مجموع الأمور التي في نظر المولى ومنها مقدور كالانتهاء عن الفحشاء والمنكر والبغي ومنها غير مقدور، لكن المولى يعمد إلى إيجاب فعل مقدور كالصلاة، وهذا الفعل يكون مقدمة للانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وإلا ما أكثر الذين يصلون ولا ينتهون عن الفحشاء والمنكر! وبما أن هذا الفعل وهو الصلاة مقدور ودخل في عهدة المكلف بوضع المولى الوجوب والإلزام له، فحينئذ يحكم العقل ويستقل بوجوب الإتيان بالصلاة.
[الطالب:] ما يجيء نبحث: الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور أو غير مقدور؟ وندخل في هذا يُسمى التقريب.
يمكن أن يُناقَش بذلك، الآن جاية المناقشات شيخنا ستأتي إن شاء الله.
[مناقشة السيد الخوئي]
وناقش في ذلك السيد الخوئي رحمه الله وقال: يوجد غرضان، غرض أعلى وغرض أدنى، فالغرض الأعلى هو الوصول إلى مقام الصديقين والعارفين وهذا ليس بمقدور المكلف العادي، وهناك غرض أدنى وهو التهيؤ والإعداد لحصول الغرض الأعلى وهذا مقدور للمكلف، فلِمَ لا نلتزم بأن المولى قد جعل في عهدة وذمة المكلف الغرض الأدنى وهو التهيؤ والإعداد لحصول الغرض الأعلى؟ يعني يصلي ويصلي حتى تتهيأ نفسيته للوصول إلى درجة العارفين، وبالتالي يمكن للمولى أن يوجب الغرض الأدنى وهو التهيؤ والإعداد للوصول إلى الدرجة العليا ولا يجعل الوجوب على نفس الفعل وهو الصلاة، يُراجَع[5] .
[مناقشة الشهيد الصدر]
وناقشه الشهيد الصدر[6] رضوان الله عليه، يُراجَع أيضًا[7] .
ومفاد هذا الإشكال أن ما ذكره السيد الخوئي ليس بتام على مبنى نفس السيد الخوئي وعلى مبنى الشهيد الصدر وعلى مبنانا من أن المقدمة المطلوبة والواجبة هي خصوص المقدمة الموصِلة لا مطلق المقدمة، فحينما نقول مقدمة الواجب واجبة يُراد خصوص المقدمة الموصِلة إلى الواجب لا مطلق المقدمة.
[تفصيل الفرضين]
بناءً على هذا المبنى أن الواجب هو خصوص المقدمة الموصِلة لا مطلق المقدمة نقول:
هنا يوجد فرضان:
الفرض الأول: إن أُريد إدخال خصوص الإعداد والتهيؤ الموصِل إلى الغرض الأعلى، فهذا بالخصوص هو الذي يدخل في الذمة وفي العهدة، فحينئذ نقول: هذا خارج عن تحت القدرة، لماذا خارج عن تحت القدرة؟ لأن نفس الوصول إلى تلك الدرجة - درجة العارفين - ليس تحت قدرة المكلف، وبالتالي تكون هذه المقدمة وهذا التهيؤ أيضًا ليس موصِلًا إلى تلك الدرجة التي هي خارجة عن قدرة المكلف. هذا إن اخترنا الفرض الأول، المراد ليس مطلق التهيؤ وليس مطلق الإعداد بل المراد خصوص الإعداد والتهيؤ الموصِل إلى الدرجة الراقية والعليا.
الفرض الثاني: إن أُريد أن يدخل في العهدة مطلق الإعداد ومطلق التهيؤ، يعني سواء أوصل إلى الدرجة العليا أو لم يوصل، فحينئذ نقول: هذا حاله حال الصلاة، ليس بواجب نفسي ولا بواجب غيري، ليس بمطلوب لنفسه ولا لغيره وإنما هو مطلوب بالمسامحة، فالصلاة من قال لك أنها دائمًا تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ ما أكثر الذين يصلون صلاة الليل ويبوقون، ويصلي صلاة الليل حتى يدر عليه الرزق، هذه نيته! فليس دائمًا تكون الصلاة مهيئة وموصِلة للانتهاء عن الفحشاء والمنكر، فحينما يوجبها المولى لمصحلة وتسامح، ولا فرق في التسامح بين إيجاب نفس الصلاة أو إيجاب مطلق الإعداد والتهيؤ سواء أوصل أو لم يوصل.
وبعبارة أخرى: لا مقتضي لتعين خصوص مطلق الإعداد والتهيؤ، إذ أن إيجاب مطلق الإعداد والتهيؤ مبني على المسامحة وكذلك إيجاب الصلاة مبني على المسامحة، ولا موجب لتقديم وجوب التهيؤ على وجوب الصلاة، فيكون كلام المحقق النائيني تام.
خلاصة كلام المحقق النائيني: الصلاة فعل لمصالح، هذه المصالح بعضها مقدور وبعضها غير مقدور، لذا المولى ما أوجب على المكلف نفس المصالح لأن بعضها غير مقدور، أوجب عليه الفعل الذي قد يؤدي لها وقد لا يؤدي لها لمصلحة، ما دام نفس الصلاة قد دخل في الذمة والعهدة يحكم العقل بلزوم الامتثال فيصير مفاد النكتة الأولى: لِمَ أوجب المولى الفعل ولم يوجب نفس المصالح؟ الجواب: الفعل مقدور والمصالح بعضها غير مقدور، فمن هنا أوجب المولى الفعل المقدور.
هذا تمام الكلام في بيان النكتة الأولى، النكتة الثانية والثالثة والرابعة يأتي عليها الكلام.