47/05/05
5 جمادى الأولى 1447
27 أكتوبر 2025
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهري
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الدرس (مائتان وستة وخمسون): التقريب الثاني إن حجية الظهور مشروطةٌ بعدم ورود مقيد منفصل
التقريب الثاني: إن حجية الظهور مشروطة بعدم ورود مقيّد منفصل، فالقرينة المتصلة تنفي أصل الظهور، والقرينة المنفصلة تنفي حجية الظهور، إذاً لكي يكون الظاهر حجة فلا بد من عدم ورود مقيّد منفصل، وفي محل بحثنا نحن نعلم بأن أحدهما المعيّن عند الله قد ورد عليه المقيّد المنفصل قطعاً فهو إذاً ساقط عن الحجية، فيكون المقام من قبيل اشتباه الحجة باللا حجة وليس من قبيل تقديم أقوى الحجتين على أضعفهما، إذ أن قوانين الجمع العرفي بتقديم الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً إنما تجري إذا سلّمنا بالحجتين.
إذاً عندنا مرحلتان: المرحلة الأولى إثبات أصل حجية كلا الخبرين، المرحلة الثانية عند تعارض ظهوري الخبرين يُقدَّم الأقوى ظهوراً.
إذاً قواعد الجمع العرفي بتقديم الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً إنما تجري إذا سلّمنا بثبوت الحجتين، لكن إذا مع العلم واقعاً بصدور مقيّد منفصل فإننا نشك في أصل ثبوت حجية أحد الخبرين.
فإذا جاءنا إطلاقان وعلمنا قطعاً بصدور مقيّد منفصل لأحدهما واقعاً فإننا نقطع أن أحدهما حجة والآخر ليس بحجة، لكننا لا نعلم ظاهراً أيهما هو الحجة وأيهما الذي انتفت حجيته، فيندرج مورد بحثنا تحت باب اشتباه الحجة باللا حجة وليس تحت باب تعارض الحجتين في ظهورهما لكي نُقدّم الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً. واضح إلى هنا أو لا؟
وفيه: نحن لا نسلّم أن حجية الإطلاق مشروطة بعدم المقيّد المنفصل واقعاً، بل إن حجية الإطلاق مشروطة بعدم العلم بالمقيّد المنفصل ظاهراً، وفي المقام لا يوجد علم تفصيلي بمقيّدية خصوص الإطلاق الأول أو الإطلاق الثاني، وإنما يوجد علم إجمالي بالتقييد، ونسبة العلم الإجمالي إلى الإطلاق الأول والإطلاق الثاني على حد سواء، ولا تتعيّن نسبة العلم الإجمالي إلى أحد الإطلاقين بالخصوص دون الآخر.
فموردنا هو مورد ثبوت كلا الحجتين مع الشك في طروء المقيّد المنفصل، إذاً لا يندرج بحثنا تحت بحث اشتباه الحجة باللا حجة، متى يندرج تحت باب اشتباه الحجة باللا حجة؟ إذا اشترطنا في حجية الإطلاق عدم وجود مقيّد منفصل في الواقع، وهذا ليس بشرط.
إذاً كلا الإطلاقين تامّ من ناحية الحجية، ونشك في رفع حجيته لأن المقيّد المنفصل هل هو ناظر إلى الإطلاق الأول بالخصوص أو إلى الإطلاق الثاني بالخصوص؟ نحن لا نعلم تفصيلاً أن المقيّد المنفصل ناظر إلى خصوص الأول أو إلى خصوص الثاني.
تكون النتيجة النهائية: التقريب الثاني ليس بتام. بعد نعمل قواعد الجمع العرفي إذا دار الأمر بين تقييد الإطلاق الأول أو تقييد الإطلاق الثاني يُقدَّم الإطلاق الأقوى ظهوراً. واضح إن شاء الله؟
التقريب الثالث: إن الأقوى ظهوراً في باب التعارض إنما يتقدم على الأضعف ظهوراً من باب القرينية، أي أن الظهور الأقوى قرينة على الظهور الأضعف، فيُقدَّم الظهور الأقوى، هذا في التعارض الذاتي، وأما في التعارض العرضي يعني نفس الدليلين لا تعارض بينهما ذاتاً، وإنما التعارض بينهما لأمر خارجي.
ولنضرب مثال حتى تصير الصورة واضحة: الدليل الأقوى يقول: "لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاثاً: الطعام والشراب والنساء"، هذا ظهوره أقوى في الحصر، الدليل الثاني الأضعف الظهور الأضعف، قوله: "لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة"، فإن ظهور الصلاة هنا في شمولها لصلاة الآيات ضعيف، نعم ظهورها في شمولها للصلاة اليومية قوي، وجاءنا علم إجمالي بتقييد أحد الظهورين: إما تقييد الظهور الأول الأقوى بالارتماس - يعني يوجد أمر رابع يضر الصوم وهو الارتماس بالإضافة إلى الأمور الثلاثة: الطعام والشراب والنساء - أو أن الدليل الثاني مقيّد بصلاة الآيات، يعني لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة إلا صلاة الآيات فهي خارجة عنه.
يلا لاحظ معي حلو يا حلو: عندنا دليلان مطلقان:
الأول: لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاثاً: الطعام والشراب والنساء. هذا ظهوره أقوى في ماذا؟ في الحصر.
الدليل الثاني: لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة. هذا ظهوره ضعيف في شموله لصلاة الآيات.
الدليل الثالث: نعلم إجمالاً بورود مقيّد منفصل: إما يُخرج الارتماس وإما يُخرج صلاة الآيات. إما يُخرج الارتماس من الأول - يعني تصير مبطلات الصوم أربعة - وإما يُخرج صلاة الآيات من الدليل الثاني - يعني الحائض لا تقضي ما فاتها من الصلاة إلا صلاة الآيات.
هنا لاحظ: هنا تعارض عرضي، ذاتاً لا يوجد تعارض بين "لا يضر الصائم" وبين "لا تقضي الحائض"، ذاتاً لا يوجد تعارض بين الظهورين، التعارض حصل بالعَرَض.
يلا لاحظ معي التقريب الثالث: إن الأقوى ظهوراً في باب التعارض الذاتي إنما يتقدم على الأضعف ظهوراً من باب القرينية، وفي باب التعارض العرضي لا يكون الأقوى ظهوراً قرينة على الأضعف ظهوراً، لأننا لاحظ الدليل: لو جمعنا كلا الدليلين مع الدليل الذي دلّ على تقييد أحدهما في كلام واحد لأصبح الأقوى ظهوراً مُجملاً كما أن الأضعف ظهوراً يصبح مُجملاً.
الآن بمجيء القرينة المنفصلة: نعلم إجمالاً بورود قيد إما الارتماس فيُقيّد الأول الأقوى ظهوراً، وإما صلاة الآيات فيُقيّد الثاني الأضعف ظهوراً. فبمجيء الدليل الثالث يصبح الأقوى ظهوراً مُجملاً وكذلك الأضعف ظهوراً مُجملاً، والحال أن القرينة المنفصلة لو جُمعت مع ذي القرينة لوحدهما وحُوّلت إلى قرينة متصلة فحينئذ لا تصبح الجملة مُجملة.
يلا لاحظ معي الدليل الأقوى: تقول هكذا في الدليل الأقوى: "لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاثاً: الطعام والشراب والنساء والارتماس"، ما صار إجمال وإبهام، قرينة متصلة صارت أربعة. وهكذا في الدليل الثاني: "لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة إلا صلاة الآيات" صارت قرينة متصلة وارتفع ماذا؟ ارتفع الإجمال وارتفع الإبهام.
إذاً مفاد التقريب الثالث: يُقدَّم الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً في خصوص التعارض الذاتي، أما في التعارض العرضي بمجيء الدليل الثالث الذي هو قرينة منفصلة، هذا الدليل الثالث يوجب الإجمال في الأقوى والأضعف، فلماذا يقدّم الأقوى على الأضعف؟ واضح إن شاء الله التقريب الثالث.
والجواب: إن إجمال الأقوى ظهوراً عند فرض الجمع بين الأدلة الثلاثة في كلام واحد إنما ينشأ من خصوص الدليل الثالث الصالح للقرينية، لا من الدليل الثاني الذي يفترض الدليل الأقوى قرينة عليه.
يلا لاحظ معي الآن: الدليل الأول الأقوى: "لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاثاً: الطعام والشراب والنساء"، هذا واضح لا إجمال فيه، وهو ظاهر في الاختصاص، وظهوره في الاختصاص أقوى من ظهور الدليل الثاني.
الدليل الثاني: "لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة"، في هذا الدليل الثاني لا يوجد ما يدل على الحصر، بالتالي نشك: هل المراد بالصلاة هنا مطلق الصلاة بحيث يشمل صلاة الآيات، أو المراد بالصلاة هنا خصوص الصلاة اليومية فلا يشمل ماذا؟ صلاة الآيات.
إذا اقتصرنا على الدليل الأول والدليل الثاني من دون إيراد الدليل الثالث، كل منهما واضح، والأول أقوى من الثاني بمعزل عن الثالث، الأول أقوى لأنه فيه حصراً، الثاني أضعف ليس فيه حصر.
متى يطرأ الإجمال؟ من الدليل الثالث، وهو العلم بوجود قرينة منفصلة إما باستثناء الارتماس أو باستثناء صلاة الآيات، هذا الدليل الثالث هو الذي أوجب إجمال الأول وإجمال الثاني، لكن بمعزل عن الدليل الثالث لو خلينا نحن والدليل الأول والدليل الثاني وسألنا: أيهما أقوى ظهوراً؟ الجواب: الأول أقوى ظهوراً من الثاني، لأن الأول فيه حصر، الثاني ليس فيه حصر. واضح إن شاء الله؟
إذاً الجواب: إجمال الأقوى ظهوراً عند فرض الجمع بين الأدلة الثلاثة في كلام واحد منشأه خصوص الدليل الثالث الدال على المقيّد المنفصل، وليس منشأ هذا الإجمال الدليل الثاني، الدليل الثاني واضح والدليل الأول أقوى منه.
إذاً يلا لاحظ معي: لاحظ الآن، إذا دار الأمر - يلا لاحظ معي: الدليل الأول قوي في الحصر "لا يضر إلا ثلاث"، الدليل الثاني "لا تقضي الحائض الصلاة" هذا ضعيف في شموله لصلاة الآيات، جاءتنا الآن قرينة تقول: توجد قرينة إما إخراج صلاة الآيات وإما إخراج الارتماس، يعني دار الأمر بين تقييد الأول وبين تقييد الثاني.
الجواب: نتمسك بإطلاق الأول، ما ندخل الارتماس، ونُقيّد الثاني الأضعف ظهوراً فتصير "لا تقضي الصلاة إلا صلاة الآيات"، ولا نُقيّد الأول، الأول لأنه قوي في الحصر ما يصير تقول "لا يضر الصائم إلا ثلاثة: الطعام والشراب والنساء" بعد ذلك تقول "إلا الارتماس"، فيصير تحافظ على الظهور الأقوى وتُقدّمه على الظهور الأضعف.
التقريب الرابع والأخير: إن الأقوى ظهوراً في باب التعارض إنما يتقدم على الأضعف ظهوراً من باب القرينية، والقرينية إنما تُعقل لو كان أحدهما متعرضاً بمدلوله لحال مدلول الآخر، يعني مدلول العام ومدلول الخاص واحد.
مثل: "أكرم الهاشمي"، الدليل الثاني "لا تكرم الفاسق"، يختلفان في الهاشمي الفاسق، فيتم التخصيص: "أكرم الهاشمي إلا الفاسق منهم"، فإذاً القرينية لو كان أحد الدليلين متعرضاً بمدلوله لنفي مدلول الدليل الآخر، هذا في باب التعارض الذاتي.
وأما في باب التعارض العرضي فهذا غير موجود، لأن مدلول أحدهما غير مدلول الدليل الآخر، الآن مدلول أنه "لا يضر الصوم إلا ثلاث" غير مدلول "لا تقضي الحائض الصلاة".
إذاً في التعارض العرضي مدلول أحد الدليلين أجنبي عن الآخر تماماً، وإنما يقع التعارض للعلم الإجمالي صدفة بكذب أحد الظهورين، وبالتالي لا معنى لتقديم الأقوى على الأضعف.
والجواب: هل المراد بنفي المدلول نفي خصوص المدلول المطابقي أو المراد نفي المدلول الأعم من المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي؟ فإن قيل إن المراد هو نفي خصوص المدلول المطابقي فقط، قلنا: هذا ليس بصحيح. وإن قلنا إن المراد نفي الأعم من المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي، فإن كلامنا يتم هنا ويصير التعارض العرضي يؤدي إلى التعارض الذاتي.
يلا لاحظ معي: الدليل الأول ماذا يقول؟ "لا يضر الصائم إلا ثلاث: الطعام والشراب والنساء"، هذا المدلول المطابقي. ما هو المدلول الالتزامي؟ ما عدا الثلاثة لا يضر حتى الارتماس. جيد.
دليل الارتماس: ما هو مدلوله المطابقي؟ الارتماس يضر بالصوم. ما هو مدلوله الالتزامي؟ ما عدا الارتماس لا يضر بالصوم، فهذا التعارض العرضي يؤدي إلى التعارض الذاتي ببركة المدلول الالتزامي. إذاً يحصل تكاذب كما في التعارض الذاتي، أيضاً في التعارض العرضي يحصل تكاذب من ناحية المدلول الالتزامي، بالتالي إذا حصل تكاذب يُقدَّم الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً.
النتيجة النهائية: هذه التقريبات الأربعة لعدم صحة تقديم الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً عند التعارض العرضي ليست تامة، تكون النتيجة: إذا تعارض دليلان قُدّم الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً مطلقاً في التعارض الذاتي والتعارض العرضي معاً.
هذا تمام الكلام في هذا البحث.
مبحث جديد: الواجب النفسي والغيري، يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.