47/05/04
الدرس (مائتان وخمسة وخمسون): كلام المحقق النائيني في المقام
الموضوع: الدرس (مائتان وخمسة وخمسون): كلام المحقق النائيني في المقام
[تمهيد]
ذكر المحقق النائيني رحمه الله مطلباً مهماً في الجمع العرفي في باب التعارض والتراجيح، وطبّق الضابطة الذي ذكره في باب التعارض على ما نحن فيه وهو خصوص فرض المقيد المنفصل دون المتصل، فإذا دار الأمر بين الإطلاق (إطلاق الهيئة وإطلاق المادة) فأيهما مقدَّم؟
فلا بد من تحقيق أصل المطلب الذي ذكره المحقق النائيني في باب التعارض أي التعادل والتراجيح، ثم بعد ذلك: هل ما ذكره هناك يجري هنا أو لا؟
[مفاد كلام النائيني: الجمع العرفي]
ومفاد ما ذكره رحمه الله هو أن قانون الجمع بين الدليلين بتقديم الدليل الأقوى على الدليل الأضعف، والذي هو نحو جمع عرفي، إنما يكون في خصوص الدليلين المتعارضين ذاتاً لا عرضاً.
[التعارض الذاتي]
مثال الدليلين المتعارضين ذاتياً قولك: "لا تكرم أيَّ فاسق" و"أكرم الهاشمي"، فهنا يتعارضان ذاتاً في الهاشمي الفاسق، فدليل الأمر يشمله ودليل النهي ينفيه، فيقدَّم "لا تكرم أيَّ فاسق" لأنه استخدم أداة "أيّ" وهي أقوى في الشمول. هذا بالنسبة إلى التعارض الذاتي.
[التعارض العرضي]
بخلاف التعارض العرضي بين الدليلين، كما لو علمنا إجمالاً وصدفةً بكذب أحدهما. مثال ذلك: لو جاءنا دليلان عامان، الدليل الأول يقول: "لا يضرُّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاثاً الطعام والشراب والنساء"، وجاء دليل آخر يقول: "لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة". فهذان دليلان مطلقان، وعلمنا بكذب أحدهما فيما إذا علمنا من الخارج ومن قرينة خارجية أن أحدهما مقيَّد لكن لا نعلم أيهما المقيَّد، فعلمنا إجمالاً بالتقييد، إما بخروج صلاة الآيات من قوله: "لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة"، وإما بخروج الارتماس من قوله: "لا يضرُّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاثاً: الطعام والشراب والنساء".
[تطبيق النائيني على إطلاق الهيئة والمادة]
قال المحقق النائيني رحمه الله: إن ما نحن فيه من هذا القبيل، فإن التعارض بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة ليس تعارضاً ذاتياً، إذ أن ذات الإطلاقين لا تعارض بينهما ذاتاً، وإنما هو تعارض عرضي للعلم الإجمالي بصدق أحدهما وكذب الآخر. يُراجَع[1] [2] .
[إشكال العرف في تقديم الأقوى]
ولا بد من بيان هذا المطلب بنحو شافٍ، فنقول: إن دعوى عدم تقديم أحد الظهورين على الآخر بالأقوائية عند فرض التعارض بالعرض، حتى لو فُرض أن أحدهما في منتهى القوة والآخر في منتهى الضعف، هذا خلاف ما يبدو للذهن من الارتكاز العرفي، فالعرف يقدِّم الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً.
فمثلاً: حينما يقول المولى: "لا يضرُّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاثاً" فهذا ظهوره في الحصر قويّ جداً بحيث لا يشمل الارتماس، بينما ظهور قوله: "لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة" وشمول لفظ الصلاة هنا لصلاة الآيات ضعيف جداً، إذ أن العرف يحمل لفظ الصلاة هنا على الصلاة اليومية التي تبتلى بها الحائض في كل يوم.
من هنا يرى العرف أن ظهور القول الأول في الحصر أقوى من ظهور الثاني في شموله لصلاة الآيات، فإذا علمنا بمخالفة أحد الظهورين للواقع فإن العرف يقدِّم ماذا؟ الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً.
ومن هنا نتساءل: ما هي الشبهة التي دعت إلى مجافات هذا الارتكاز بحيث أنه في التعارض الذاتي يُقدَّم الأقوى بينما في التعارض العرضي لا يُقدَّم الأقوى؟
ويمكن بيان عدة تقريبات:
التقريب الأول: ما هو محتمَل أجود التقريرات وظاهر فوائد الأصول، لكن بحسب التحقيق فإن التقريب الثاني الآتي هو أقرب إلى مفاد الميرزا النائيني في تقرير بحثه فوائد الأصول، ولا بأس ببيان التقريب الأول، والتقريب الثاني يأتي غداً إن شاء الله إن بقينا أحياء.
مفاد التقريب الأول: قياس العلم الإجمالي صدفةً بكذب أحد الظهورين على العلم الإجمالي صدفةً بكذب أحد الخبرين.
إذاً عندنا هنا صورتان للعلم الإجمالي:
1. تعلم إجمالاً بكذب أحد الخبرين، يعني أصل صدور الخبرين واحد منهم صادر والثاني غير صادر.
2. هذا بخلاف العلم الإجمالي بكذب أحد الظهورين، يعني هناك صدوران مسلَّمان والمناقشة في ظهورهما: ظهور صحيح وظهور غير صحيح.
فيكون مفاد التقريب الأول قياس العلم الإجمالي بأحد الظهورين على العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين، فكما أن العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين في النقل لا يوجب تقديم الأظهر منهما نظراً لوضوح أن نسبة العلم الإجمالي بالكذب إلى كلا الخبرين سواء، فليس الأقوى ظهوراً أبعد عن الكذب ولا الأضعف ظهوراً أقرب إلى الكذب، لأنك تعلم إجمالاً أحدهما صادر والآخر غير صادر، بالتالي لا مدخلية للقوة والضعف في بيان الصادر من غير الصادر.
فكذلك يقال: إن العلم الإجمالي بكذب أحد الظهورين لا يوجب تقديم الأظهر منهما على الظاهر.
والأمر واضح إن شاء الله: قياس العلم الإجمالي بكذب أحد الظهورين - وهذا موطن بحثنا - أحدهما قوي والآخر ضعيف، على العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين، فكما في العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين لا يُقدَّم الأقوى على الأضعف، كذلك في العلم الإجمالي بكذب أحد الظهورين لا يُقدَّم الظهور الأقوى على الظهور الأضعف.
[نقد التقريب الأول]
لكن هذا التقريب الأول ليس بتام، إذ أنه مبنيٌّ على الخلط بين مرحلتين.
فإنه توجد عندنا مرحلتان بلحاظ الكلامين المتعارضين:
المرحلة الأولى: إن هذين الكلامين هل صدرا من المولى أو لا؟ فالمرحلة الأولى تبحث عن أصل الصدور والوقوع.
المرحلة الثانية: بعد فرض صدور كلا الكلامين يقع الكلام: هل كلٌّ من الكلامين كاشف عن المراد الجدي للمتكلم أو لا؟ فيقع الكلام في أقواهما كشفاً عن مراد المولى، فهل يجب العمل وفقاً للأقوى كاشفيةً عن مراد المولى أو لا؟
وبحثنا - وهو تعارض إطلاق الهيئة مع إطلاق المادة (أو تعارض إطلاق الوجوب مع إطلاق الواجب) وإعمال قواعد الجمع العرفي وتقديم أحد الظهورين على الآخر وتقديم إطلاق الهيئة (والوجوب) على إطلاق المادة (والواجب) - هذا من سنخ المرحلة الثانية، أي بعد التسليم بأصل صدور كلا الكلامين يقع الكلام في كاشفيتهما عن مراد المولى، وتقديم الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً بعد التسليم بصدور الكلام صاحب الظهور الأقوى وصاحب الظهور الأضعف.
فبعد الفراغ عن الصدور يقع الكلام في الأقوى ظهوراً، فيُقال: هذا كاشف عن العموم بالخصوص وهذا كاشف عن القيد بالخصوص، ويُقدَّم الأشد كشفاً والأقوى ظهوراً.
لكن لو وقع الإشكال والكلام في المرحلة الأولى أي أصل الصدور، وعُلم إجمالاً بكذب أحد الخبرين، ففي هذه الحالة لا معنى لإعمال قواعد الجمع العرفي، بل يدور الكلام بين اشتباه الحجة باللاحجة، أيُّ الخبرين حجة وهو الذي صدر، وأيُّ الخبرين ليس بحجة وهو الذي لم يصدر.
فتقديم أقوى الظهورين في فرض صدور كلامين قطعاً فحينئذٍ يُقدَّم الأقوى ظهوراً على الأضعف منهما، أما إذا عُلم أنه لم يصدر إلا كلام واحد لا كلامين، فحينئذٍ لا معنى لإعمال قواعد الجمع العرفي.
وبعبارة أخرى وبتعبير أوضح: إنه بلحاظ المرحلة الأولى أي جهة الصدور، نسبة احتمال الكذب إلى كل من الخبرين على حدٍّ سواء، وكون أحدهما أقوى ظهوراً والآخر أضعف ظهوراً لا يوجب احتمالية أقوائية الكذب في أحدهما وأضعفية الكذب في الآخر.
هذا بلحاظ مرحلة الصدور، الأقوائية والأضعفية لا أثر لها، يعني إذا ننسب الكذب نسبة الكذب إلى الأول والثاني على حدٍّ سواء.
بخلاف المرحلة الثانية أي جهة الظهور بعد التسليم بأصل صدور كلا الخبرين، فإن الأقوى ظهوراً مقدَّم على الأضعف ظهوراً، لأن الأقوى ظهوراً أقوى كاشفيةً عن مراد المولى بخلاف الأضعف ظهوراً فكاشفيته عن مراد المولى أضعف.
ومن هنا في تعارض الظهورين يُقدَّم الأقوى ظهوراً على الأضعف ظهوراً، لأن الأقوائية توجب التقديم، توجب كون الكاشفية عن مراد المولى أقوى.
بخلاف المرحلة الأولى: التعارض في أصل الصدور، فأقوائية أحدهما دون الآخر لا تغير نسبة الكذب التي هي على حدٍّ سواء بالنسبة إلى كلا الخبرين.
هذا تمام الكلام في التقريب الأول، واتضح أنه ليس بتام، وهذا لا يُستفاد من كلام الميرزا النائيني، بل يُستفاد التقريب الثاني من كلام الميرزا النائيني كما سيأتي.
[تعليق السيد كاظم الحائري]
لهذا قال سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحائري[3] حفظه الله، ما نصه: "لا يخفى أن الشيخ النائيني رحمه الله لم يكن بصدد قياس العلم بكذب أحد الظهورين بالعلم بكذب أحد الخبرين في عدم تقديم الظهور الأقوى، حتى يكون ذلك خلطاً بين المرحلتين"، هذا واضح لأي واحد فضلاً عن الميرزا النائيني.
ثم قال: "وكلامه في فوائد الأصول واضح في إرادة قياس العلم بكذب أحد الخبرين في كونه داخلاً تحت اشتباه الحجة باللاحجة وأحكامه"، يعني يندرج تحت هذا دوران الأمر بين الحجة واللاحجة، بين الخبر الحجة والخبر الذي ليس بحجة، "لا تحت التعارض وأحكامه" بفرض العلم بكذب أحد الخبرين، فالمقصود هو التقريب الثاني زائداً على النقض بقياس العلم بكذب أحد الظهورين بالعلم بكذب أحد الصدورين.
تفصيل الكلام يأتي إن شاء الله في التقريب الثاني.