47/05/03
الدرس (مائتان وأربعة وخمسون): الحالة الثانية إذا كان دليل الشرطية الإجمالية متصلاً
الموضوع: الدرس (مائتان وأربعة وخمسون): الحالة الثانية إذا كان دليل الشرطية الإجمالية متصلاً
[بيان محل البحث وتفصيل الحالتين]
محل بحثنا هو تعارض الإطلاقين: إطلاق الهيئة مع إطلاق المادة، أو إطلاق الوجوب مع إطلاق الواجب. فعندنا إطلاقان: إطلاق للهيئة والوجوب، وإطلاق للمادة والواجب. فإذا جاء دليل يفيد الشرطية والتقييد إجمالاً، ولم نعلم أن هذا التقييد والشرط يرجع إلى خصوص الوجوب والهيئة أو يرجع إلى خصوص الواجب والمادة، قلنا توجد حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون دليل الشرطية الإجمالية منفصلاً، وقد ذكرنا ثلاثة تقريبات لترجيح وتقديم إطلاق الهيئة والوجوب على إطلاق المادة، ولم يصح منها التقريب الأول والثاني، وثبت بنظرنا التقريب الثالث.
ففي الحالة الأولى على مبنانا يقدم إطلاق الهيئة والوجوب على إطلاق المادة - نظراً لوجود العلم الإجمالي الذي ينحل إلى علم تفصيلي بتقييد المادة وشك بدوي بتقييد الهيئة، فيُقدَّم إطلاق الهيئة والوجوب على إطلاق المادة والواجب.
الحالة الثانية: إذا كان دليل الشرطية الإجمالية متصلاً، وفيه فرضان:
الفرض الأول: أن يكون الدليل المتصل لسانه لسان بيان مطلب مستقل، وليس لسانه لسان تقييد خصوص المادة أو خصوص الهيئة، فنفترض أن لسان الشرطية الإجمالية ولسان المقيِّد ليس لسان تقييد خصوص المادة والواجب، وليس لسان تقييد خصوص الهيئة والوجوب. فدليل التقييد ليس لسانه لسان تقييد أحدهما بالخصوص، حتى نشك: أن هذا التقييد هل هو متجه إلى الوجوب والهيئة؟ أو متجه إلى الواجب والمادة؟ بل في الفرض الأول لسان حال المقيِّد بيان مطلب مستقل ملازم للجامع بين تقيُّد المادة أو الهيئة.
[مثال تطبيقي للفرض الأول]
مثال ذلك: لو قال المولى: "حُجَّ"، "ولا يُجزئ الحج قبل الاستطاعة"، وافترضنا أن قوله: "ولا يُجزئ الحج قبل الاستطاعة" لا يُفهم منه عرفاً كونه بصدد تقييد أحد الأمرين، يعني تحديد وتقييد الهيئة بالخصوص أو تحديد وتقييد المادة بالخصوص، وإنما هو مطلب مستقل ملازمٌ للجامع بين التقيُّدين، يعني الحج أُخذ فيه الاستطاعة الأعم من أخذها في خصوص الواجب أو الوجوب، والأعم من أخذها في خصوص الهيئة أو خصوص المادة.
[تحليل دلالة المقيِّد في الفرض الأول]
إذاً لاحظ معي الدقة: أخذ شيء، و أخذ قيد وأخذ شرط، لا يُشترط فيه أن يكون لخصوص المادة أو لخصوص الهيئة، بل قد يكون للجامع لهما، أي جامع الحج الأعم من وجوبه وواجبه، جامع الحج الأعم من مادته وهيئته، واضح إن شاء الله الفرض الأول.
الفرض الثاني: أن نفترض أن لسان المقيِّد لسان تقييد أحدهما بالخصوص، لكننا لا نعرف: أنه لتقييد خصوص الهيئة والوجوب أو لتقييد خصوص المادة والواجب؟ فإذاً المقيِّد ليس في مقام بيان مطلب مستقل عن أحد التقييدين بالخصوص. بل الفرض الثاني مفاده: إن هذا قيد وشرط أُخذ في واحد بخصوصه، لكن ما هو هذا الواحد بخصوصه؟ هل هو الهيئة والوجوب؟ أو هو المادة والواجب؟ لا ندري.
[مثال تطبيقي للفرض الثاني]
مثال ذلك: لو قال المولى: "حُجَّ بعد الاستطاعة"، وافترضنا أن قيد "بعد الاستطاعة" قيد قيد لأحد الأمرين - المادة أو الهيئة - بالخصوص، لكننا لا ندري: أن قيد "بعد الاستطاعة" يرجع إلى خصوص الهيئة والوجوب أو يرجع إلى خصوص المادة والواجب.
إلى هنا بيَّنا كلا الفرضين، ولنشرع في بيان حكم كلا الفرضين.
[بيان حكم الفرض الأول على المبنيين]
أما الفرض الأول: وهو أن يكون دليل الشرطية المتصلة في مقام بيان مطلب مستقل وليس تقييد الهيئة أو المادة بالخصوص، هنا يوجد مبنيان، وعلى كلا المبنيين تختلف النتيجة:
المبنى الأول: لو أنكرنا ما قرَّبناه في التقريب الثالث في المقيِّد المنفصل من أن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة - كما أنكره المحققون المتأخرون - فحينئذ يقع التعارض بين الإطلاقين: إطلاق الهيئة وإطلاق المادة، لأن مقتضى الإطلاق تام في نفسه بالنسبة إلى الهيئة وبالنسبة إلى المادة.
[دفع الإشكال حول انعقاد الإطلاق]
لا تقل: لا يوجد إطلاق لأنه يوجد دليل على قرينة متصلة، ومع وجود القرينة المتصلة لا ينعقد إطلاق! لا تُشكل بهذا الإشكال، لماذا؟
لأنه في الفرض الأول القرينة ليست لتقييد أحد الإطلاقين، بل القرينة المتصلة في مقام بيان مطلب مستقل، وبالتالي ينعقد إطلاق المادة وينعقد إطلاق الهيئة، فيتعارض الإطلاقان، فمقتضى إطلاق كل من الهيئة والمادة تام في نفسه، وعبارة: "لا تجزي الصدقة قبل القيام" أو "لا يجري الحج قبل الاستطاعة" وغير ذلك من الأدلة المتصلة الصالحة للقرينية لا تمنع من انعقاد الإطلاقين، لأنها في مقام بيان مطلب مستقل وليست في مقام تقييد أحد الأمرين - الهيئة أو المادة - بالخصوص. تعارضا، تناطحا، تساقطا، يصير تعارض بين إطلاق الهيئة والوجوب وإطلاق المادة.
والدليل على انعقاد الإطلاقين: أنه لو اختل أحد الشروط وبعض مقدمات الحكمة في إطلاق المادة فإنه لا ينعقد إطلاق المادة ويبقى إطلاق الهيئة، والعكس بالعكس: لو اختلت بعض مقدمات الحكمة في إطلاق الهيئة فإن إطلاق الهيئة يسقط لكن يبقى إطلاق المادة لأن مقدمات الحكمة تامة بالنسبة إلى المادة.
[نتيجة المبنى الأول: التعارض والتساقط]
إذاً إطلاق كل من المادة والهيئة تام في حد نفسه، وبالتالي إذا تمت المقدمات في كلا الطرفين ينعقد الإطلاق في كلا الطرفين، فيصير المطلب مُجمل، هنا لا نقول: نُقدِّم الهيئة على المادة أو المادة على الهيئة، يصير المطلب مُجمل إن لم يكن أحدهما أقوى.
[نتيجة التقريب الأول: تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي]
نعم، لو بنينا على التقريب الأول: تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، فحينئذ نُقدِّم إطلاق الهيئة والوجوب لأنه شمولي على إطلاق المادة والواجب لأنه بدلي. جيد.
المبنى الثاني: لو بنينا على ما آمنَّا به من أن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة، إذاً تقييد المادة مقطوع به ومقدمات الحكمة تامةٌ.
لاحظ جيداً: يصير تقييد المادة مقطوعٌ به، ومقدمات الحكمة بالنسبة إلى المادة منخرمة، لأن المادة مقيَّدة على أي تقدير وعلى أي فرض.
[تحليل انحلال العلم الإجمالي في الفرض الأول]
الفرض الأول: أن يكون الدليل المتصل في مقام بيان مطلب مستقل، هذا المطلب المستقل ينسجم مع الجامع بين المادة ومع الهيئة، فقد ينطبق على المادة وقد ينطبق على الهيئة، هذا علم إجمالي.
[انحلال العلم الإجمالي: تقييد المادة معلوم تفصيلاً على كل تقدير]
نقول: تقييد المادة والواجب حاصل على أي تقدير، لأن هذا القيد إما أن يرجع إلى خصوص المادة وإما أن يرجع إلى الهيئة، وإذا رجع إلى الهيئة انسحب على المادة. إذاً أنت مسبية على أي حالة: تقييد المادة معلوم تفصيلاً، نعلم بالتفصيل أن المادة والواجب مقيَّدان، إما لتقييد المادة والواجب بالخصوص، وإما لتقييد الهيئة الذي يستلزم تقييد المادة.
إذاً تقييد المادة مقطوع به، وأما تقييد الهيئة فليس معلوماً على أي تقدير، تقييد الهيئة مجرد احتمال: إن رجع المطلب المستقل إلى خصوص الهيئة قُيِّدت الهيئة، وإن رجع المطلب المستقل إلى تقييد المادة لم تُقيَّد الهيئة.
إذاً تقييد الهيئة مجرد احتمال، وتقييد المادة مقطوع به. إذاً تنخرم مقدمات الحكمة في خصوص إطلاق المادة، ولا نجزم بانخرام مقدمات الحكمة في خصوص الهيئة، فيبقى إطلاق الهيئة، ونُقدِّم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة.
[نتيجة الفرض الأول على المبنيين]
يلا، لاحظ معي النتيجة النهائية، حلو يا حلو:
النتيجة النهائية:
في الحالة الأولى: القرينة المنفصلة، قدَّمنا الإطلاق - إطلاق الهيئة والوجوب - على إطلاق المادة والواجب على مبنانا وهو التقريب الثالث: أن العلم الإجمالي ينحل بالعلم التفصيلي في تقييد المادة والشك البدوي في تقييد الهيئة.
وعلى التقريب الأول: لتقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي يصير على مبنانا يصير الحالة الأولى والفرض الأول من الحالة الأولى حكمهما واحد.
وأما على إنكار مبنانا من أن التقييد تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة، وإنكار التقريب الأول من أن الإطلاق الشمولي يُقدَّم على الإطلاق البدلي، يصبح عندنا إطلاقان مستحكمان: مقدمات الحكمة تامة في إطلاق الهيئة والوجوب، وتامة في إطلاق المادة والواجب، يحصل التعارض والتساقط، فيحصل إجمال.
[النتيجة النهائية لِلفرض الأول من الحالة الثانية]
[فلنلخّص النتيجة] تكون النتيجة واضحة عندك:
نتيجة الفرض الأول من الحالة الثانية:
أنه بناءً على تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي كما في التقريب الأول، وبناءً على أن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة - نعمل بالتقريب الثالث: انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بتقييد المادة وشك بدوي في تقييد الهيئة - تكون النتيجة: يُقدَّم الإطلاق - إطلاق الهيئة وإطلاق الوجوب - على إطلاق المادة والواجب.
لكن بناءً على إنكار تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي كما في التقريب الأول، وبناءً على إنكار أن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة، يحصل إجمال، إذ يكون إطلاق الهيئة مستحكم وإطلاق المادة مستحكم، يتعارضان، يتساقطان، يحصل إجمال، إلى هنا واضح؟.
هذا تمام الكلام في الفرض الأول.
[بيان حكم الفرض الثاني على جميع المباني]
وأما في الفرض الثاني: فحكمه على جميع المباني هو تحقُّق الإجمال، على مبنانا ومبنى غيرنا.
يلا، لاحظ معي الفرض الثاني:
[تحليل اشتباه الإطلاق بما ليس فيه إطلاق]
ما هو الفرض الثاني؟ أن يكون دليل القرينة المتصلة مُجملاً بحيث يرجع إلى إحداهما بالخصوص: إما إلى تقييد الوجوب والهيئة بالخصوص، أو تقييد الواجب والمادة بالخصوص.
هنا بناءً على أن تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة - يعني إنكار المبنى الذي نذهب إليه - بناءً على ذلك يدخل مورد بحثنا في باب اشتباه ما فيه الإطلاق مع ما ليس فيه الإطلاق، ولا يدخل في باب تعارض الإطلاقين.
والسر في ذلك: إن التعارض بين الإطلاقين فرع تمامية الظهور في كل من الطرفين في حد نفسه لولا التعارض، وفي المقام نعلم إجمالاً بانثلام أحد الإطلاقين: إما إطلاق المادة وإما إطلاق الهيئة، لأن قيد "قائم" - تصدَّق قائماً - هذا إما يرجع إلى الوجوب بالخصوص وإما يرجع إلى ماذا؟ الواجب بالخصوص. والفرض أن القرينة متصلة وليست منفصلة، بالتالي نشك في أصل انعقاد ظهور إطلاق الوجوب والهيئة، ونشك في أصل انعقاد إطلاق المادة والواجب، لأن القرينة متصلة، وهذه القرينة المتصلة لأحدهما بالخصوص.
إذا قرينة متصلة وإما للواجب بالخصوص أو للوجوب بالخصوص، يعني ما ينعقد إطلاق للواجب ولا ينعقد إطلاق للوجوب، فيصير من باب الاشتباه الإطلاق بما ليس فيه إطلاق، يعني نعرف: فيه إطلاق واحد والثاني ما فيه إطلاق، يعني إما فيه إطلاق للهيئة دون المادة أو إطلاق للمادة دون الهيئة. يعني نُحرز أن إطلاقاً قد انعقد وأن إطلاقاً لم ينعقد، لا أنه انعقد إطلاق وجاءت قرينة وقيَّدته - ذاك يكون في القرينة المنفصلة لا القرينة المتصلة - واضح إن شاء الله.
وحينئذ لا معنى للتمسك بأقوائية الإطلاق الشمولي في الهيئة والوجوب على الإطلاق البدلي في المادة والواجب، لأن تقديد أقوى الإطلاقين فرع ثبوت كلا الإطلاقين، والحال إن موردنا ليس من موارد تعارض الإطلاقين الثابتين بل من مورد اشتباه الإطلاق بغير الإطلاق.
نحن نُحرز ونقطع أن إطلاقاً ما قد انعقد، وأن إطلاقاً ما لم ينعقد، لكن ما هو الإطلاق الذي انعقد؟ وما هو الإطلاق الذي لم ينعقد؟ هل هو إطلاق المادة أو الهيئة؟ هل هو إطلاق الوجوب أو الواجب؟ هذا من باب اشتباه الإطلاق بغير الإطلاق، فيقع هنا الإجمال، يصير مُجمل.
هذا إذا بنينا على إنكار أن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة.
[نتيجة الفرض الثاني على مبنانا]
ولو بنينا على ما نبني عليه من أن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة، أيضاً لا بد من المصير إلى الإجمال على الرغم من قطعنا بتقييد المادة، إذ أن المادة إما مقيَّدة بخصوصها وإما مقيَّدة لتقييد الهيئة الذي ينسحب إلى تقييد المادة. إذاً مقدمات الحكمة في جانب إطلاق المادة منثلمة قطعاً، لكن في جانب الهيئة منثلمةٌ احتمالا نظراً لاكتناف الهيئة بما يصلح للقرينية، يعني يُحتمل قرينيته بالنسبة إلى الهيئة والوجوب.
هنا نقول: لا يوجد تعارض في المقام، لأن التعارض فرع استقرار كل من الظهورين في حد نفسه. هنا أيضاً الأقوائية ليس لها أثر، لأن الأقوائية نصير إليها لو وُجد ظهوران متعارضان، وهنا يوجد ظهوران: أحدهما مقطوع العدم في جانب المادة، والآخر محتمل العدم، فيقع الإجمال فيه، تكون النتيجة: يوجد إجمال ولا يُقدَّم أحدهما على الآخر.
خلاصة المطلب الأخير على وجه الإيجاز:
[الإطلاق الأول (إطلاق المادة):] لو بنينا على أن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة، إذاً إطلاق المادة - في أمان الله - أكيد ما فيه إطلاق المادة، هذا الإطلاق الأول الذي سقط.
الإطلاق الثاني: إطلاق الهيئة. إطلاق الهيئة اتصل به ما يصلح للقرينية، إذا اتصل به ما يصلح للقرينية، ما ينعقد الإطلاق، تنثلم مقدمات الحكمة، بالتالي يصير عندنا إجمال، ولا يوجد عندنا إطلاقان، يوجد عندنا إطلاق معلوم العدم - هو في المادة - وإطلاق محتمل العدم - وهو في الهيئة - فيحصل عندنا إجمال.
[خاتمة الحالة الثانية]
هذا تمام الكلام في الحالة الثانية: إذا كان دليل الشرطية الإجمالية متصلاً، فإنه يمنع من انعقاد الإطلاق ويقع الإجمال.
صار النتيجة: في الحالة الأولى - في القرينة المنفصلة - القرينة المنفصلة توجب التقييد، هناك التزمنا بأن إطلاق الهيئة يُقدَّم على إطلاق المادة.
في القرينة المتصلة: إذا بيان مطلب مستقل، حكمها حكم القرينة المنفصلة، إذا في مقام تقييد أحد الإطلاقين بالخصوص، يحصل الإجمال، والله العالم.