« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

47/04/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وثلاثة وخمسون): الإشكال الثاني على التقريب الثالث لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة

الموضوع: الدرس (مائتان وثلاثة وخمسون): الإشكال الثاني على التقريب الثالث لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة

 

[تمهيد الإشكال الثاني]

الإشكال الثاني على التقريب الثالث لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة:

[عرض الاحتمالين في تقييد وجوب الصدقة بالقيام]

إنه لا جزم بتقييد الواجب على تقدير انصباب القيد على الوجوب، بل الواجب حينئذٍ مهملٌ لا مطلق ولا مقيد، إذاً يوجد عندنا احتمالان كما في تقييد وجوب الصدقة بالقيام:

الاحتمال الأول: أن يرجع قيد القيام إلى خصوص الواجب، وهذا ممكن ومعقول.

الاحتمال الثاني: أن يرجع قيد القيام إلى الوجوب والهيئة، وبالتالي ينسحب هذا القيد على الواجب والمادة.

[مفاد الإشكال الثاني مقابل مفاد التقريب الثالث]

الإشكال الثاني مفاده: تقييد المادة نتيجة تقييد الهيئة هذا غير معقول، وبالتالي التقييد للمادة ليس معلوماً تفصيلاً على كل تقدير.

إذ مفاد التقريب الثالث: وجود علم إجمالي، وهذا العلم الإجمالي منحل بالعلم التفصيلي في تقييد المادة والشك البدوي في تقييد الهيئة، فتجري البراءة الشرعية بالنسبة إلى تقييد الهيئة، ونتمسك بإطلاق الهيئة ونقدّمه على إطلاق المادة، هذا مفاد التقريب الثالث.

مفاد الإشكال الثاني: نحن لا نُسلّم بأن المادة والواجب مقيّد على كل تقدير، فهو غير معلوم بالتفصيل بل هو محتمل؛ لأن تقييد المادة إما بتقييد المادة والواجب ابتداءً - هذا احتمال - ويوجد احتمال آخر: أن التقييد قد انصبّ على الهيئة والوجوب، ومنه قد انسحب على المادة والواجب.

والإشكال الثاني يقول: نحن لا نجزم أنه إذا تقيّد الوجوب تقيّد الواجب، ونحن لا نجزم أنه إذا تقيّدت الهيئة تقيّدت المادة. والسر في ذلك: أن الواجب والمادة تصبح مهملة لا مطلقة ولا مقيدة.

[بيان استحالة الإطلاق والتقييد في الواجب]

أما عدم الإطلاق للمادة فلاستحالة إطلاق الواجب مع تقييد الوجوب، إذ فرض المسألة أن القيد وهو القيام راجع إلى الهيئة والوجوب، فلا يُعقل أن يكون الوجوب والهيئة مقيّداً والواجب مطلقاً. واضح إن شاء الله.

بعبارة أخرى: الوجوب - وجوب الصدقة - مقيّد بالقيام، فكيف يكون متعلَّق الوجوب مطلقاً؟ هذا غير معقول، إذا تقيّد الوجوب فلا يُعقل أن يكون متعلَّق الوجوب وهو الواجب مطلقاً. إذن الواجب لا يُعقل أن يكون مطلقاً إذا تقيّد الوجوب والهيئة. هذا الأمر الأول.

[لزوم اللغوية في تقييد الواجب تبعًا لتقييد الوجوب]

الأمر الثاني: ولا يُعقل أن يكون الواجب مقيّداً إذا تقيّدت الهيئة والوجوب نظراً للزوم اللغوية.

الآن نوضّح كيف تلزم اللغوية:

فرض المسألة عندنا وجوب مقيّد، ونفترض أن تقييد الوجوب يؤدي إلى تقييد الواجب، ونحن ندّعي لزوم اللغوية من تقييد الواجب إذا تقيّد الوجوب. والسر في ذلك: أن تقييد الواجب كالصدقة والصلاة معناه تعلّق الأمر بالمقيّد، يعني الأمر يتعلق بالصدقة المقيدة بالقيام، الأمر يتعلق بالصلاة المقيدة بالوضوء.

[تحليل الأمر بالمقيّد وانحلاله إلى أمرين: الذات والتقييد]

إذن تقييد الواجب يعني الأمر بالمقيّد. وهذا ينحلّ إلى أمرين: أمر بذات المقيّد وأمر بالتقييد، أي أمر بذات الصدقة وأمر بتقييد الصدقة بالقيام، أمر بالصلاة وأمر بتقييد الصلاة بالوضوء. إذن الأمر بالمقيّد يعني الأمر بالصلاة المقيّدة بالوضوء، والأمر بالصدقة المقيدة بالقيام فيه أمران: ينحلّ إلى أمرين: أمر بالمقيّد وهو الصدقة والصلاة، وأمر بالتقيّد، يعني تقيّد الصدقة بالقيام وتقيّد الصلاة بالوضوء.

والحال إن الأمر بالتقيّد بقيد الوجوب غير قابل للتحريك، لا يحرّك المكلف.

الأمر الأول: الأمر بذات المقيّد معلوم الحصول، معلوم أن هناك أمراً بالصدقة وهناك أمراً بالصلاة،

[الأمر الثاني:] لكن الثاني ما هو الثاني؟ تقيّد الصدقة بالقيام، تقيّد الصلاة بالوضوء، هذا الثاني مطلوب الحصول بسبب الوجوب، فأيّ فائدة بتقييد الواجب غير تقييد الوجوب؟ لا فائدة من ذلك.

نُكرّر للتأكيد: أصل الدعوى أن التقييد والإطلاق مستحيل بالنسبة إلى الواجب فيثبت الإهمال. ومحل كلامنا هو ماذا؟ محل كلامنا تقييد الواجب ليس ابتداءً بل تقيّد الواجب بسبب تقييد الوجوب، هنا نقول: يستحيل الإطلاق ويستحيل التقييد.

أما الإطلاق فاستحالته واضحة؛ لأن الوجوب مقيّد فكيف يكون الواجب مطلقاً؟ هذا واضح الاستحالة.

وأما تقييد الواجب تبعاً لتقييد الوجوب فهذا أيضاً مستحيل للزوم اللغوية. لماذا؟ لأن التقييد عبارة عن الأمر بالتقيّد، والأمر بالتقيّد ينحلّ إلى أمرين: أمر بالمقيّد وأمر بتقيّد المقيّد، يعني أمر بالصدقة وأمر بتقيّد الصدقة بالقيام.

الأمر الأول: الأمر بالصدقة معلوم الحصول.

[الأمر الثاني:] والأمر بتقيّد الصدقة بالقيام قد عُلم من تقييد الوجوب، فما الفائدة المترتبة من جديد على تقييد الواجب؟ وبالتالي إن الأمر بالتقيّد بقيد الوجوب غير قابل للتحريك.

لماذا غير قابل للتحريك؟ يقولون: يكفي في التحريك حصول شيئين: القيد وذات المقيّد، يعني للتحريك لا بد من توفّر شيئين خارجاً: توفّر المقيّد وهو الصدقة، وتوفّر القيد وهو القيام؛ توفّر المقيّد كالصلاة وتوفّر القيد وهو الوضوء، فيكفي توفّرهما خارجاً لتحقّق التحريك، وبالتالي لا حاجة إلى التقييد.

[تحليل فلسفي لمفهوم التقييد والتحريك]

اتفرّقون بين ثلاثة أمور - أو لا؟ - عندنا المقيّد: الصدقة، وعندنا القيد: القيام، وعندنا التقيّد. التقيّد هذا لحاظ ذهني - كما يقولون في الفلسفة - يقولون: تقيّد جزء وقيد خارجي، يعني التقيّد جزء من الصورة الذهنية والقيد خارج الصورة الذهنية، يعني أنت في الذهن عندك صورة إلى الصدقة وصورة إلى تقيّد الصدقة بالقيام، لكن نفس القيام في الخارج.

هنا هذه الدعوى تقول: التقييد هو عبارة عن ماذا؟ التقييد ليس هو عبارة عن المقيّد وهو الصدقة، وليس عبارة عن القيد وهو القيام في المثال. التقييد عبارة عن ماذا؟ تحصيص الصدقة بالقيام ذهناً، هذا هو التقييد. هذا التقييد لا بد له من فائدة، فائدته ماذا؟ تحريك المكلف.

يكفي لتحريك المكلف - بعد ثبوت الوجوب - يكفي ماذا؟ يكفي وجود الصدقة خارجاً ووجود القيام خارجاً.

[مثال تطبيقي: الصلاة والوضوء]

أضرب عليه مثال آخر: عندنا وجوب للصلاة المقيدة بالوضوء، هذا الوجوب إذا ثبت بزوال الشمس، إذن هذا يحرّك نحو الوضوء ويحرّك نحو الصلاة.

ثم إذا جئنا وادّعينا تقييد الصلاة الواجبة بالوضوء، نقول: يكفي للامتثال والتحريك وقوع الوضوء خارجاً ووقوع الصلاة خارجاً، ولا حاجة إلى هذا اللحاظ الذهني وهو ماذا؟ تقييد الصلاة بالوضوء، إذن هذا التقييد لا يُفيد التحريك، هذا التقييد لغو وعبث لا فائدة منه، إذ لا يفيد التحريك.

[النتيجة النهائية للإشكال الثاني]

النتيجة النهائية: استحال الإطلاق لأن الوجوب مقيّد، واستحال تقييد الواجب لأن هذا التقييد يلزم منه اللغوية، إذن يثبت الإهمال. وهنا لا يوجد إشكال في الإهمال؛ لأن الإهمال ليس في تمام الحكم، الإهمال في جزء الحكم؛ لأنه الوجوب جزء من الحكم ولا إهمال فيه، فيه تقييد، والواجب الجزء الآخر للحكم وفيه إهمال. فلا تشكل علينا بالإهمال، إذ إن الإهمال لم يقع في تمام الحكم بل وقع في بعض الحكم. إذن التقييد والإطلاق كلاهما مستحيل ويثبت الإهمال، ولا بأس بالإهمال في المقام.

وفيه:

[المناقشة الأولى: تقابل الإطلاق والتقييد]

هذا يتمّ بناءً على أن التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل التضادّ كما عليه مبنى السيد الخوئي رحمه الله، ويتمّ أيضاً بناءً على مبنى أن التقابل بينهما بنحو الملكة والعدم كما عليه الميرزا النائيني، لكنه لا يتمّ على مبنى السيد الشهيد الصدر من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل التناقض - تقابل السلب والإيجاب، لأنه في بحث الإطلاق والتقييد:

- تارة يُبحث عن مرحلة الإثبات.

- تارة يُبحث عن مرحلة الثبوت.

في مرحلة الإثبات متّفقين الأصوليون أن التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل الملكة والعدم، لكن في عالم الثبوت ثلاثة أقوال:

- قول الميرزا النائيني: هو نفسه تقابل الملكة والعدم.[1]

- قول السيد الخوئي: تقابل التضادّ.[2]

- قول السيد الشهيد الصدر: تقابل التناقض، يعني السلب والإيجاب.[3]

بناءً على هذا المبنى: إذا استحال الإطلاق وجب التقييد؛ لأنه تقابل المتناقضين: السلب والإيجاب، وجود وعدم، فإذا فإذا ماذا؟ إذا استحال الإطلاق تعيّن التقييد. هذه المناقشة الأولى: مناقشة مبنائية.

[المناقشة الثانية: محرّكية التقييد]

المناقشة الثانية: نحن لا نُسلّم أن التقيّد لا يحرّك، يلا لاحظ معي شلون التقيّد يحرّك ولّا لا يحرّك:

فلو افترضنا وقوع الصدقة خارجاً قبل وقوع القيام خارجاً، فهل يجب على المكلف أن يعيد التصدّق أو لا؟

الجواب: إن كان وجوب التصدّق مطلقاً بلحاظ القيام، فحينئذٍ لا يجب عليه أن يُعيد التصدّق؛ لأنه عندنا الوجوب للجامع - جامع الصدقة الأعمّ من القبلية والبعدية للقيام.

لكن لو قيّد المولى الصدقة بالقيام، فهنا أمر بالتقيّد، فهو أمر بخصوص الصدقة البعدية دون الصدقة القبلية، فهنا لو جاء بالصدقة خارجاً قبل القيام ثم قام وجاءه أمر بالصدقة المقيدة بالقيام، فحينئذٍ يجب عليه أن يُعيد الصدقة. وهنا الذي حرّكه إلى الصدقة المقيدة بالقيام ليس نفس الصدقة خارجاً وليس نفس القيام خارجاً، بل الذي حرّكه هو تحصيص وتقييد الصدقة بخصوص القيام. إذن هذا التقيّد في الواجب محرّك وليس بلغوٍ، فيرتفع إشكال اللغوية.

نُكرّر للتأكيد:

[لبّ الإشكال الثاني: استحالة الإطلاق والتقييد في الواجب وجوابه]

لُبّ الإشكال أنه بالنسبة إلى الواجب لا يُعقل الإطلاق ولا يُعقل التقييد - فيما إذا كان أصل التقييد راجعاً إلى الوجوب.

- لا يُعقل الإطلاق. لماذا؟ لأن نفس الوجوب مقيّد وليس بمطلق، فكيف يكون الواجب مطلقاً؟

- لا يُعقل التقييد؛ لأن هذا التقييد لا ثمرة فيه ولا محرّكية، المحرّك هو نفس المقيّد: الصدقة، ونفس القيد اللي هو القيام خارجاً.

الجواب: التقييد ليس بلغو وله ثمرة ومحرّكية.

[مثال تطبيقي ثانٍ: الصلاة قبل الوضوء]

[سؤال:] وأنت تقول إن مجرد وجود القيد والمقيّد خارجاً يكفي في التحريك، يعني مجرد وجود الصدقة والقيام خارجاً يكفي في التحريك، ومجرد وجود الصلاة والوضوء خارجاً يكفي في التحريك؟

الجواب: كلا وألف كلا. فلو صلّى ثم توضّأ، فهل تُجزئ هذه الصلاة أو لا؟

- إذا كان الأمر بالصلاة مطلقاً سواء توضّأت أو لم تتوضّأ، اجتزء بالصلاة.

- وإذا كان الأمر بالصلاة مقيّداً بالوضوء، فهنا حتى لو صلّى أولاً ثم توضّأ ثانياً، فهذه الصلاة لا تُجزئ، فلا بد أن يتوضّأ من جديد ثم يُصلّي.

هنا: الوضوء والصلاة من جديد، ما الذي حرّكه نحوهما؟ لم يحرّكه الصلاة الأولى ولم يحرّكه الوضوء الأول، بل حرّكه تقيّد الصلاة بالوضوء، تقيّد الصلاة بالوضوء هذا هو التقييد، هذا تقييد للصلاة الواجبة، تقييد للصدقة الواجبة.

[خاتمة الرد على الإشكال الثاني]

إذن لا يُعقل الإطلاق لتقيّد الوجوب، لكن يُعقل التقييد، وصار التقييد معلوماً على كل تقدير: يمكن أن تقيد الواجب ابتداءً، ويمكن أن تقيّد الواجب ببركة تقيّد الوجوب، صار تقييد الواجب معلوماً على كل تقدير، وبالتالي ينحلّ العلم الإجمالي.

[النتيجة النهائية: تمامية التقريب الثالث]

إذن التقريب الثالث تام لا غبار عليه، والإشكال الأول والإشكال الثاني ليس بتام.

[خاتمة الحالة الأولى: القرينة الإجمالية المنفصلة]

هذا تمام الكلام في القرينة الإجمالية المنفصلة. قلنا: توجد حالتان:

الحالة الأولى: قرينة إجمالية منفصلة، واتضح أنه في الحالة الأولى - وجود قرينة إجمالية منفصلة - فإن التقريب الأول والثاني ليسا تامّين، لكن التقريب الثالث تام. تكون النتيجة: إذا تعارض إطلاق الهيئة مع إطلاق المادة فالمقدَّم هو إطلاق الهيئة، يُقدَّم إطلاق الوجوب على إطلاق الواجب.

هذا تمام الكلام في الحالة الأولى.

[تمهيد للحالة الثانية: القرينة الإجمالية المتصلة]

الحالة الثانية: إذا كان الدليل الدالّ على القرينة الإجمالية متّصلة، يأتي عليه الكلام.


logo