47/04/28
الدرس (مائتان واثنان وخمسون): رد الإشكال الأول على التقريب الثالث لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة
الموضوع: الدرس (مائتان واثنان وخمسون): رد الإشكال الأول على التقريب الثالث لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة
[تمهيد عام حول النقاط الثلاث]
رد الإشكال الأول على التقريب الثالث لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة، وقبل الرد والجواب لا بأس بتقرير التقريب الثالث والإشكال عليه بشكل موجز ثم رد هذا الإشكال، ومن هنا سنذكر ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: بيان التقريب الثالث بشكل موجز.
النقطة الثانية: الإشكال الأول على التقريب الثالث بشكل موجز.
النقطة الثالثة: جواب الإشكال الأول.
ولنشرع في هذه النقاط الثلاث تباعاً:
النقطة الأولى: بيان التقريب الثالث
بأن يقال: يوجد تعارض بين إطلاق المادة وإطلاق الهيئة، وهذا التعارض فرع وجود علم إجمالي بتقييد أحدهما. مثال ذلك: قيد الوضوء بالنسبة إلى الصلاة، وقيد القيام بالنسبة إلى الصدقة.
فهنا نشك: هل قيد الوضوء راجع إلى وجوب الصلاة أو إلى الصلاة الواجبة؟
وهكذا نشك: هل قيد القيام راجع إلى وجوب التصدق أو إلى الصدقة الواجبة؟ فيدور أمر قيد الوضوء والقيام إلى تقييد الهيئة ومفادها الوجوب، أو تقييد المادة ومفادها الواجب، فيتنجز العلم الإجمالي ويتعارض الإطلاقان.
لكن هذا العلم الإجمالي منحل إلى علم تفصيلي بتقييد المادة وشك بدوي في تقييد الهيئة، فنتمسك بالإطلاق في الهيئة ولا يعارضه إطلاق المادة؛ لأننا نعلم بتقييد المادة على كل تقدير.
بيان ذلك: قيد الوضوء إما أنه يرجع إلى المادة والواجب فتتقيد الصلاة بالوضوء، وإما أن هذا القيد وهو الوضوء يرجع إلى الوجوب، وإذا رجع إلى الوجوب سرى إلى الواجب؛ إذ توجد قرينة عقلية لبية وهي إن جميع الشرائط المعتبرة في الوجوب تنسحب قهراً على الواجب. إذاً قيد القيام والوضوء مقيد للمادة والواجب على كل تقدير: إما يقيد المادة تخصيصاً، وإما يقيد المادة تخصصاً، وذلك فيما إذا كان قيد القيام أو الوضوء مقيداً للوجوب والهيئة فينسحب قهراً ويقيد المادة والواجب قهراً.
[ثمرة التقريب الثالث: العلم التفصيلي بتقييد المادة والشك البدوي في تقييد الهيئة]
فإذاً يوجد معلوم تفصيلي وهو تقييد المادة والواجب على كل تقدير، فعلى تقدير رجوع القيد إلى الواجب أو الوجوب، وعلى تقدير رجوع القيد إلى المادة والهيئة، فإن المادة والواجب مقيد على كل تقدير، هذا معلوم بالعلم التفصيلي. وأما تقييد الهيئة والوجوب فهذا فيه شك بدوي، فنتمسك بإطلاق الهيئة ولا يعارضه إطلاق المادة؛ لأن إطلاق المادة نرفع اليد عنه لوجود العلم التفصيلي بتقييده.
وقلنا أيضاً: هذا التقريب الثالث فيه شرط، وهو أن يكون القيد والشرط الراجع إلى المادة والهيئة على وزان واحد، فإما أن يؤخذ فيهما حيثية الحدوث فقط، وإما أن يؤخذ فيهما حيثية الحدوث والبقاء معاً. وأما إذا أُخذ مثلاً في الهيئة خصوصية الحدوث دون البقاء، وأُخذ في قيد المادة الحدوث والبقاء معاً، فحينئذ لا يكون قيد المادة معلوماً على كل تقدير. حينئذ يكون حيثية الحدوث والبقاء في المادة معلوم على تقدير رجوع القيد إلى خصوص المادة، وأما إذا رجع القيد إلى الهيئة فإن المعلوم هو فقط ثبوت حيثية الحدوث دون حيثية البقاء.
إذاً حيثية الحدوث والبقاء غير معلومة على كل تقدير، معلومة على تقدير وفرض رجوع القيد إلى خصوص المادة، وغير معلومة على فرض رجوع القيد إلى الهيئة؛ إذ أنه أُخذ في الهيئة خصوص قيد الحدوث دون البقاء.
إذاً لكي يتم التقريب الثالث نشترط شرط، وهو أن يكون القيد أو الشرط في الهيئة على وزان القيد والشرط في المادة ولا تغاير بينهما.
هذا تمام الكلام في النقطة الأولى: بيان أصل التقريب الثالث، وهو تام، بالتالي لو تعارض إطلاق الهيئة مع إطلاق المادة يُتمسك بإطلاق الهيئة دون إطلاق المادة، فيُتمسك بإطلاق الوجوب ويُرفع اليد عن إطلاق الواجب.
النقطة الثانية: بيان الإشكال الأول على التقريب الثالث
وقبل بيان هذا الإشكال نذكر قيدين وشرطين وأمرين:
الأمر الأول: عدم صحة وقوع الشيء قبل تحقق قيده، فلا تصح الصلاة قبل الوضوء ولا تصح الصدقة قبل القيام، هذا القيد الأول.
الأمر الثاني: لزوم إيجاد القيد قبل المادة، فيلزم إيجاد الوضوء قبل الصلاة ويلزم إيجاد القيام قبل الصدقة.
فإذا قلنا إن الصلاة مقيدة بالوضوء وإن الصدقة مقيدة بالقيام، هنا يوجد تقييدان:
التقييد الأول: لا يصح وقوع الصدقة والصلاة قبل حدوث الوضوء والقيام.
القيد الثاني: يلزم إيجاد الوضوء قبل الصلاة ويلزم إيجاد القيام قبل الصدقة.
ولنلتفت إلى فذلكة التقريب الثالث؛ إذ هو قائم على وجود علم تفصيلي على كل تقدير يوجب حل العلم الإجمالي، فلا بد من تحقق العلم التفصيلي على تقدير رجوع القيد إلى المادة أو إلى الهيئة، فسواء رجع القيد إلى الواجب أو الوجوب، فالمعلوم التفصيلي لا بد أن يكون ثابتاً على كلا التقديرين، والإشكال الأول يريد أن يضرب تحقق العلم التفصيلي على كل تقدير.
ولنقتصر على مثال أخذ القيام في الصدقة، فنقول هكذا: هذا القيد، قيد القيام، إما أن يؤخذ في المادة والواجب وهو الصدقة، وإما أن يؤخذ في الهيئة التي مفادها وجوب التصدق.
فلو أُخذ قيد القيام في الصدقة، هل يثبت كلا التقييدين أو لا؟ وهذان التقييدان في مقابلهما أيضاً يوجد إطلاق.
فالأمر الأول: لا يصح وقوع الصدقة قبل حدوث القيام، في مقابل التقييد بالقيام يوجد إطلاق لصحة إيقاع الصدقة سواء قمت أو لم تقم.
[الأمر الثاني:] وهكذا بالنسبة إلى القيد الثاني وهو لزوم إيجاد القيام، في مقابله إطلاق: الصدقة واجبة مطلقاً سواء قمت أو لم تقم.
إذاً يوجد عندنا قيدان وفي مقابلهما إطلاقان.
[تحليل مثال تقييد الصلاة بالوضوء والصدقة بالقيام]
أعيد وأكرر على مثال تقييد الصلاة بالوضوء:
القيد الأول: عدم صحة الصلاة قبل الوضوء، في مقابله إطلاق الأمر بالصلاة: صلِّ سواء توضأت أو لم تتوضأ.
القيد الثاني: لزوم إيجاد الوضوء، هذا يقيد الصلاة، في مقابله إطلاق لفظ: صلِّ سواء توضأت أو لم تتوضأ.
إذاً يوجد عندنا قيدان وفي مقابلهما إطلاقان، كل تقييد في مقابله إطلاق.
ولنشرع في بيان الإشكال الأول فنقول:
[تفصيل الإشكال: الفرق بين التقييدين وآثارهما]
إن تقييد المادة كالصدقة الذي يتولد من تقييد الهيئة - أي تقييد وجوب التصدق - ليس إلا بمعنى أنه لا يصح وقوع الصدقة امتثالاً قبل حدوث القيام، أي أن القيد الأول يتحقق: عدم صحة وقوع الصدقة إذا لم يقم، من دون أن يتحقق القيد الثاني وهو لزوم إيجاد القيام.
والسر في ذلك: أن القيد إذا رجع إلى الوجوب وإلى الهيئة، فإنه لا يلزم إيجاد المقدمة الوجوبية مثل الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج.
لاحظوا جيداً: عندنا مقدمة وجوبية وعندنا مقدمة وجودية، الوضوء مقدمة وجودية للصلاة، والاستطاعة مقدمة وجوبية لوجوب الحج، يلزم إيجاد المقدمة الوجودية كالوضوء للصلاة، ولا يلزم إيجاد المقدمة الوجوبية.
إلى هنا واضح، فلننتبه إلى المثال حتى الإشكال يصير واضح جيد.
هنا يوجد احتمالان في تقييد الصلاة بالوضوء، يوجد احتمالان:
الاحتمال الأول: أن هذا القيد وهذا التقييد للمادة خاصة وللواجب خاصة، فتكون النتيجة تحقق التقييدين:
أولاً: عدم صحة الإتيان بالصلاة قبل الوضوء.
وثانياً: لزوم إيجاد الوضوء؛ لأن الوضوء مقدمة وجودية لإيجاد الواجب.
إذاً إذا قيدنا خصوص المادة يتحقق التقييدان.
[الإحتمال الثاني:] لكن إذا أرجعنا هذا القيد إلى الوجوب والهيئة يتحقق التقييد الأول دون التقييد الثاني، فإذا قلنا إن الوضوء قيد في وجوب الصلاة وليس في الصلاة الواجبة، فحينئذ يتحقق التقييد الأول وهو إن لا أنه لا يصح الإتيان بالصلاة قبل الوضوء، لكن التقييد الثاني وهو وجوب إيجاد الوضوء قبل وجوب الصلاة ما يتحقق؛ لأنه صار مقدمة وجوبية، والمقدمة الوجوبية لا تجب؛ لأن الوجوب ما ثابت، فكيف تثبت مقدمته؟
وإذا أُخذ القيد في الوجوب انسحب قهراً على الواجب.
فلنلاحظ جيداً، الآن نشرع في حلّ الإشكال: أنت ماذا تدّعي في حل العلم الإجمالي؟ تقول: القيد معلوم تفصيلاً على كل تقدير.
فنقول: إن الذي يُعلم تفصيلاً على كل تقدير خصوص القيد الأول: عدم صحة إيجاد الصلاة قبل الوضوء، هذا القيد يثبت سواء رجع القيد إلى المادة خاصة أو إلى الهيئة.
وأما القيد الثاني فلا يثبت على كل تقدير، ما هو القيد الثاني؟ لزوم إيجاد القيد، لزوم إيجاد الوضوء، هذا يثبت على تقدير رجوع القيد إلى المادة خاصة، ولا يثبت على تقدير رجوع القيد إلى الهيئة.
[خلاصة الإشكال: عدم تحقق العلم التفصيلي على كل تقدير]
إذاً صار هذا القيد لو رجع إلى المادة لا يكون معلوماً على كل تقدير ويقابله الإطلاق، فصار إطلاق المادة عند رجوع القيد إلى الهيئة يعارض إطلاق الهيئة، بالتالي لا يمكن تقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة.
الإشكال يبدو عميقاً، لكنه يتّضح شيئاً فشيئاً عند قراءته.
يمكن مراجعة مباحث الأصول للسيد كاظم الحائري[1] .
"الوجه الأول: إن تقييد المادة الذي يتولد من تقييد الهيئة ليس إلا بمعنى أنه لا يصح وقوع الصدقة امتثالاً قبل حدوث القيام" - يعني خصوص القيد الأول، خصوص التقييد الأول - "من دون أن يلزم إيجاد القيام" - يعني دون التقييد الثاني.
"بينما لو كان التقييد منصباً على المادة ابتداءً ـ هذا يلزم منه ثبوت كلا التقييدين ـ كان مفاده مضافاً إلى عدم صحة وقوع الصدقة امتثالاً قبل حدوث القيام" - يعني يثبت التقييد الأول - "هو الإلزام بإيجاد القيام" - يعني يتحقق أيضاً التقييد الثاني.
"وفي مقابل كل من التقييدين إطلاق، فالتقييد المقطوع به على كل حال في طرف المادة إنما هو خصوص التقييد الأول: عدم صحة الصدقة قبل القيام. وأما التقييد الثاني - لزوم إيجاد القيام قبل التصدق - فليس معلوماً على كل حال"، متى يكون معلوماً؟ إذا رجع إلى المادة خاصة. وأما إذا رجع إلى الهيئة لا يكون معلوماً. "فالإطلاق الذي في مقابله يعارض إطلاق الهيئة".
هذا أصل الإشكال.
جواب الإشكال
ما المراد بالتقييد؟ الجواب: التحصيص والتخصيص، يعني تخصيص الوجوب أو الواجب بحصة خاصة. إذاً يوجد تقييد واحد في مقابل إطلاق، لا أنه يوجد تقييدان وإطلاقان.
[تحليل الأثرين المترتبين على التقييد]
نعم، ما ذُكر من التقييدين إنما هما أثران وحكمان، وهما متحققان في موطن بحثنا.
أما الأثر الأول فهو تنجيزي غير معلق على ضم ضميمة ومقدمة أخرى. ما هو الأثر الأول؟ عدم صحة إيجاد الصلاة قبل الوضوء، وعدم صحة إيجاد الصدقة قبل القيام، هذا منجز.
يبقى الكلام في الأثر الثاني، في الحكم الثاني. ما هو الحكم الثاني؟ لزوم إيجاد الوضوء قبل الصلاة، ولزوم إيجاد القيام قبل الصدقة، هذا الإلزام بتحصيل القيام معلق، يعني يحتاج إلى ضم ضميمة، ما هي هذه الضميمة؟ إطلاق الوجوب من ناحية القيام، يعني لا بد من إثبات الإطلاق في الهيئة، لا بد من إثبات الإطلاق في الوجوب لا الواجب والمادة.
وإثبات الإطلاق في الهيئة والوجوب يتوقف على أمرين:
الأمر الأول: تقييد المادة.
الأمر الثاني: إطلاق الهيئة وعدم تقييدها.
أما الأمر الأول: وهو تقييد المادة، فهذا مقطوع به على كل تقدير المادة مقيدة، يعني مادة الصلاة والصدقة - مادة الصدقة مقيدة بالقيام والصلاة مقيدة بالوضوء - هذا الأمر الأول قطعي، مقطوع به على كل تقدير.
يبقى الكلام في الأمر الثاني، وهو ماذا؟: إثبات إطلاق في الهيئة والوجوب، هذا ثابت بأصالة الإطلاق، وأصالة الإطلاق في الهيئة وفي المادة لا تعارضها أصالة الإطلاق في المادة؛ إذ أن المادة قطعاً هي مقيدة ببركة الأمر الأول.
[خلاصة الجواب وتقديم إطلاق الهيئة]
صار النتيجة ماذا؟ يوجد إطلاق في جهة الهيئة ويوجد تقييد قطعي في جهة المادة، إذاً يوجد معلوم تفصيلي وهو تقييد مادة الحكم، ونشك بدواً في إطلاق الوجوب والهيئة، فنتمسك بالإطلاق ويُقدم الإطلاق - إطلاق الهيئة والوجوب - على إطلاق المادة.
يتّضح الجواب بإذن الله، وسنبيّنه بإيجاز.
[نقل كلام السيد كاظم الحائري في تأييد الجواب]
كلام السيد كاظم الحائري حفظه الله، قال:
"وهذا الوجه غير صحيح؛ لأن تقييد المادة ليس له إلا معنى واحد وهو تحصيصها بالقيام وصيرورة التقيد به" - يعني تقيد الصدقة بالقيام - "تحت الطلب" - يعني ما يطلبه المولى - "فلو تصدق ثم قام فقد حصل الوجوب ولم يحصل الواجب، وهذا التقييد" - يعني تقييد الواجب - "مقطوع به على كل تقدير".
"وأما عدم صحة وقوع الفعل امتثالاً قبل القيام" - هذا التقييد الأول - "أو الإلزام بتحصيل القيام" - هذا التقييد الثاني كما في الإشكال - "فإنما هما من آثار التقييد" - يعني من أحكام التقييد - "لا نفس التقييد".
"والأثر الأول: عدم صحة وقوع الفعل قبل القيام، أثر تنجيزي لتقييد المادة، أي لا يحتاج إلى ضم ضميمة".
والأثر الثاني الإلزام بالإتيان بالقيام والقييد "والأثر الثاني وهو الإلزام بتحصيل القيام أثر تعليقي، أي يحتاج إلى ضم ضميمة وهو إطلاق الوجوب من ناحية القيام، فهو" - يعني لزوم إيجاد القيد والقيام - "أثر لمجموع أمرين:
الأول: تقييد المادة.
الثاني: إطلاق الهيئة.
والأول - تقييد المادة - مقطوع به على كل تقدير، والثاني - وهو إطلاق الهيئة والوجوب - ثابت بأصالة الإطلاق لعدم معارضتها بأصالة الإطلاق في المادّةالتي عُلم تفصيلاً أنها مقيدة للجزم بتقييدها بتقييد المادة، فيثبت بذلك" - يعني بإطلاق الهيئة والوجوب - "الإلزام بتحصيل القيام".
[خاتمة الدرس وتأكيد تمامية التقريب الثالث]
هذا تمام الكلام في رد الإشكال الأول، واتضح أنه ليس بتام، الإشكال الثاني أيضاً ليس بتام كما سيأتي، فيكون التقريب الثالث ثابتاً.
فتصير النتيجة النهائية: إذا تعارض إطلاق الهيئة والمادة قُدّم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة، والله العالم.