47/04/27
الدرس (مائتان وواحد وخمسون): مناقشة التقريب الثالث لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة
الموضوع: الدرس (مائتان وواحد وخمسون): مناقشة التقريب الثالث لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة
[مقدمة التقريب الثالث ومفاده العام]
كان مفاد التقريب الثالث: أن التعارض بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة فرع وجود علم إجمالي برجوع القيد إلى أحدهما، إما إلى الهيئة وإما إلى المادة. لكن العلم الإجمالي منحلٌّ بعلم تفصيلي برجوع القيد إلى المادة، إما تخصيصاً وإما تخصُّصاً، وشكٌّ بدوي في تقييد الهيئة، فيُتمسَّك بالإطلاق في الهيئة بلا معارض، إذ أن القيد معلوم بالتفصيل بالنسبة إلى المادة ومشكوك بالنسبة إلى الهيئة، يتّضح إن شاء الله.
ولنضرب مثالاً ونمشي على هذا المثال لتوضيح الصورة، مثال - مثالين حتى الصورة إن شاء الله تنجلي.
[المثال الأول: قيد الاستطاعة في الحج]
مثال ذلك: قيد الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج، فهل الاستطاعة أُخذت كقيد في الهيئة والوجوب؟ أو أن الاستطاعة أُخذت كقيد في الواجب فقط دون الوجوب؟
وهنا نقول: إن أخذ قيد الاستطاعة في الواجب معلومٌ على أي تقدير، لأن قيد الاستطاعة إما أن يُؤخذ في الحج الواجب فقط - هذا احتمال - وإما أن يُؤخذ في الوجوب والهيئة، وكل ما يُؤخذ في الوجوب والهيئة ينسحب على المادة والواجب.
إذاً نحن نعلم تفصيلاً بأخذ قيد الاستطاعة في الحج الواجب، إما تخصيصاً فيما إذا أُخذ قيد الاستطاعة في الواجب، وإما تخصُّصاً فيما إذا أُخذ قيد الاستطاعة في الوجوب، فهذا يعني أن الواجب من أول الأمر كان مخصَّصاً بالاستطاعة نظراً لوجود قرينة لُبِّية، وهي أن جميع الشروط المأخوذة في الوجوب والهيئة تنسحب على الواجب والمادة، يتّضح إن شاء الله.
المثال طبعاً هذا في ظرف الشك، في الفقه معلوم أن الاستطاعة قيد في الوجوب لا الواجب.
[المثال الثاني: قيد القيام في الصدقة]
مثال آخر:
سؤال: لو قُيِّدت الصدقة بالقيام وشككنا أن قيد القيام هل هو شرط في الهيئة ووجوب الصدقة أو هو شرط في الصدقة الواجبة، أي في مادة الصدقة، أي الصدقة الواجبة؟
الجواب: يوجد علم تفصيلي بتقييد المادة والواجب بالقيام، إذ أن القيام إما قد أُخذ في خصوص المادة والواجب، وإما أن يكون قد أُخذ في وجوب الصدقة والهيئة. فإذا أخذ قيد القيام في المادة فهذا تخصيص، وإذا أُخذ قيد القيام في الوجوب والهيئة فهذا تخصُّص، إذ أن تقييد الوجوب والهيئة بالقيام يعني تقييد الصدقة والمادة والواجب قهراً بالقيام.
[نتيجة التقريب الثالث وتميّزه عن التقريبات السابقة]
وهذا التقريب الثالث كما سيأتي تامٌّ لا غبار عليه، وقد أُشكل عليه بإشكالين سندفعهما إن شاء الله تعالى، فتكون النتيجة: التقريب الأول والثاني ليس بتام، والتقريب الثالث تام، فتصير النتيجة: إذا دار أمر الإطلاق بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة فالمقدَّم هو إطلاق الهيئة، ويُلتزَم بالتقييد بالنسبة إلى إطلاق المادة.
[شرط جريان التقريب الثالث: وحدة وزان التقييد]
إلى هنا التقريب الثالث واضح، ولكن هذا التقريب مشروط بشرط فلا يجري إلا إذا كان احتمال قيدية قيد المادة على وزان قيدية قيد الهيئة، أي أن وزان التقييد في الهيئة والمادة كليهما بنحو واحد لا بنحو مختلف.
[بيان النحوين في أخذ القيد: الحدوث فقط أو الحدوث والبقاء]
توضيح ذلك: إن القيد الذي قد يُؤخذ في الواجب أو الوجوب على نحوين:
النحو الأول: أن يُؤخذ في حيثية الحدوث فقط دون الاستمرار.
مثال ذلك: إذا أُخذت الاستطاعة قيداً في أصل حدوث وبدء وجوب الحج ولم تُؤخذ الاستطاعة في استمرار وبقاء وجوب الحج، وبالتالي إذا تحققت الاستطاعة وجب الحج، وبالتالي لو انتفت الاستطاعة بعد ثبوتها يبقى الحج ثابتاً لأن الاستطاعة قد أُخذت في خصوص حدوث الوجوب ولم تُؤخذ كقيد في استمرار وبقاء الوجوب.
النحو الثاني: أن يكون القيد ظرفاً للوجوب حدوثاً وبقاءً.
مثال ذلك: الاستطاعة المأخوذة في حدوث الوجوب وبقاء الوجوب، وبالتالي لو حصلت الاستطاعة حدث وجب الحج، إذا انتفت الاستطاعة ارتفع وجوب الحج.
إذاً الفارق بين النحو الأول والنحو الثاني: أن النحو الأول أُخذ في حيثية الحدوث فقط، النحو الثاني أُخذ فيه حيثية الحدوث والبقاء، الابتداء والاستمرار معاً أي الظرف.
[أثر اختلاف النحوين على العلم الإجمالي]
إذا تمَّ هذا نقول: نرجع إلى موطن بحثنا. موطن بحثنا: حلينا العلم الإجمالي بعلم تفصيلي في تقييد المادة وشك بدوي في تقييد الهيئة، هذا فيما إذا كان القيد الذي نحتمل رجوعه إلى الهيئة أو إلى المادة على وزان واحد ونحو واحد. أما إذا اختلفت الأنحاء فقد لا يحصل الانحلال، يلا لاحظ معي الآن:
[تحليل مثال اختلاف النحوين في الاستطاعة]
مثال ذلك: لو أخذنا النحو الأول في القيد الراجع إلى الهيئة فقلنا: إن الاستطاعة المأخوذة في الوجوب والهيئة أُخذت في خصوص حدوث الوجوب لا استمرار الوجوب، كما أن النحو الثاني من القيود قد أُخذ في تقييد المادة، فقلنا: إن الحج الواجب أُخذ فيه الاستطاعة، وهذه الاستطاعة أُخذت في حدوث الواجب وفي بقاء الواجب.
إذاً اختلف نحو القيد المأخوذ في الهيئة عن نحو القيد المأخوذ في المادة؛ القيد المأخوذ في الهيئة هو قيد الاستطاعة المأخوذ في خصوص حدوث الاستطاعة لا استمرارها ، والقيد المأخوذ في المادة أخذ فيه الظرف يعني حيثية الحدوث وحيثية البقاء، يعني الاستطاعة شرط في حدوث الواجب وفي بقاء الواجب.
هنا إذا اختلف نحوا القيد ما يصير قيد المادة معلوم تفصيلاً، يلا لاحظ معي كيف ما يصير معلوم تفصيلاً؟
لأنه يوجد احتمالان:
الاحتمال الأول: أن قيد الاستطاعة راجع للمادة.
إذاً الاستطاعة شرطٌ في حدوث الواجب وفي بقاء الواجب، هذا الاحتمال الأول.
الاحتمال الثاني: أن يكون القيد وهو الاستطاعة راجعاً إلى الهيئة والوجوب، يعني في خصوص حيثية الحدوث.
بناءً على هذا الاحتمال الثاني: إذا أُخذ قيد الاستطاعة في حدوث الوجوب فقط دون الاستمرار، فإن الاستطاعة تُؤخذ في حدوث الواجب فقط دون الاستمرار.
فتحصّل الاستطاعة ليست مأخوذة في الحدوث والبقاء على كل تقدير، صارت الاستطاعة مأخوذة حدوثاً وبقاءً على تقدير رجوعها إلى المادة فقط، وأما على فرض وتقدير رجوع الاستطاعة إلى الهيئة والوجوب تصير الاستطاعة قد أُخذت في حدوث المادة والواجب فقط ولم تُؤخذ في استمرار وبقاء المادة.
فتحصّل هذا القيد ليس معلوماً على كل تقدير. ما هو القيد؟ قيد الاستطاعة في حدوث وبقاء الواجب، هذا غير معلوم على كل تقدير، معلوم على تقدير واحد على فرض رجوع قيد الاستطاعة إلى خصوص المادة، هنا يكون أُخذ في الحدوث والبقاء. لكن بناءً على التقدير الثاني والفرض الثاني وهو رجوع الاستطاعة وتقييد الهيئة والوجوب بها، يصير الوجوب مقيّد من ناحية الحدوث فقط دون الاستمرار، وبالنتيجة يصير الواجب والمادة مقيّد بالاستطاعة من جهة الحدوث والابتداء فقط دون الاستمرار والبقاء.
[خلاصة أثر اختلاف النحوين على الانحلال]
إذاً الخلاصة: تقييد الواجب بالاستطاعة حدوثاً وبقاءً ليس معلوم على كل تقدير، هو معلوم على تقدير واحد وهو رجوع قيد الاستطاعة إلى المادة والواجب، وليس معلوماً على تقدير رجوع القيد إلى الهيئة لأنه سيكون قد أُخذ في حيثية الحدوث فقط.
متى يصير معلوم على كل تقدير؟ إذا أُخذ في حيثية الحدوث فقط في الهيئة والمادة معاً، أو أُخذ في حيثية الحدوث والبقاء لكل من الهيئة والمادة معاً يصير معلوم على كل تقدير، يتّضح إن شاء الله.
[الإشكال الأول على التقريب الثالث]
إذا تمَّ هذا نشرع في بيان الإشكال الأول، فيقال: عندنا، هكذا يقال في الإشكال الأول: إن تقييد الواجب المعلوم تفصيلاً غير التقييد المشكوك فيه الذي هو طرف العلم الإجمالي، فلا ينحلُّ العلم الإجمالي بأحد التقييدين إلى العلم التفصيلي بتقيُّد الواجب.
[بيان نحوين من التقييد وآثارهما]
بيان ذلك: عندنا نحوان من التقييد:
النحو الأول: عدم جواز الصدقة قبل القيام، وعدم جواز الحج قبل الاستطاعة. فهنا يوجد تقييد للحج بالاستطاعة وتقييد للصوم والصدقة بالقيام.
هذا القيد الأول، في مقابله إطلاق. ما هو هذا الإطلاق؟ تصدَّق سواء قمت أو لم تقم، صلِّ سواء قمت أو لم تقم، حُجَّ سواء استطعت أو لم تستطع.
إذاً ما هو التقييد الأول؟ عدم جواز الامتثال قبل تحقُّق القيد، مثل ماذا؟ عدم جواز الصلاة قبل الوضوء، ما تصحُّ الصلاة قبل الوضوء، كذلك لا يصحُّ الحج قبل الاستطاعة، كذلك لا تصحّ الصلاة أو التصدُّق قبل القيام، هذا القيد الأول وهذا منجز ثابت.
النحو الثاني: لا بدَّ من إيجاده وإيقاعه، فلا بدَّ من إيقاع القيام قبل التصدُّق والصلاة، ولا بدَّ من تحقُّق الاستطاعة قبل الحج، يتّضح إن شاء الله.
ويقابله الإطلاق في الواجب: فإذا قال صلِّ، يعني سواء أوقعت الوضوء قبلها - قبل الصلاة - أو لم توقعه. تصدَّق، يعني لا يلزم أن توجد القيام قبل التصدُّق.
إذاً عندنا قيدان:
القيد الأول: هو التنجُّز وعدم صحة الإتيان بالواجب قبل هذا القيد.
القيد الثاني: اللزوم - هل يلزم إيجاده أو لا؟
أكرر باختصار:
القيد الأول: عدم صحة وقوع الصدقة قبل القيام، عدم صحة الحج قبل الاستطاعة.
القيد الثاني: الالتزام بالإتيان بالقيد، الالتزام بالإتيان بالقيد الإتيان بالقيام قبل التصدُّق، الالتزام بالإتيان بماذا؟ بالاستطاعة قبل الحج.
جيد، إذا تمَّ هذا وعرفنا أن هناك قيدان وليس بقيد واحد، في هذه الحالة نقول: التقييد غير معلوم تفصيلاً حتى نحلَّ العلم الإجمالي، لأن القيد إن كان مقدمة وجودية فيجب تحصيله، يعني إذا كان قيد للواجب يجب تحصيله، لكن إذا كان القيد قيداً للوجوب وللهيئة فهذا لا يجب تحصيله لأنه مقدمة وجوبية، الاستطاعة مقدمة وجوبية للحج.
إذاً التقييد بالمعنى الذي يستدعي وجوب تحصيل القيد ليس معلوماً تفصيلاً، وبالتالي لا ينحلّ العلم الإجمالي.
أعيد وأكرر: عندنا نحوين من التقييد، هذا النحو الثاني وهو لزوم الإتيان بالقيد، هذا القيد مثل الوضوء أو الاستطاعة، هذا القيد إذا أُخذ في المادة يجب الإتيان به مثل أخذ الوضوء بالنسبة إلى الصلاة، وأما إذا أُخذ بالنسبة إلى الهيئة والوجوب بعد ما يصير مقدمة وجودية، يصير مقدمة وجوبية، والمقدمة الوجوبية لا يلزم إيجادها وتحصيلها، فيصير هذا القيد ليس معلوماً على أي تقدير، يعني لا يجب الإتيان به على أي تقدير، يجب الإتيان به على تقدير خصوص رجوعه إلى ماذا؟ إلى الواجب.
أما إذا رجع إلى الواجب محضاً أو إلى الوجوب محضاً أو الوجوب والواجب معاً، لا يجب تحصيله مقدمة وجوبية. يتّضح إن شاء الله.
[جواب الإشكال الأول وتوضيح معنى التقييد]
جوابه: [نُجيب باختصار، وإن لم يتّضح نوضّحه لاحقاً]
ما معنى التقييد؟
الجواب: التخصيص. ما معناه؟ هو التخصيص، يعني تخصيص الواجب بحصة وقيد، وتحصيص الوجوب بقيد وشرطٍ.
إذاً معنى التقييد واحد. نعم، هذا التقييد له أحكام ونذكر له حكمين:
الحكم الأول: عدم صحة التصدُّق قبل القيام، وعدم صحة الحج قبل الاستطاعة.
[الحكم الثاني:] ويوجد حكم ثاني وأثر ثاني وهو ماذا؟ لزوم الإتيان بالوضوء قبل الصلاة، ولزوم القيام قبل التصدُّق.
وهذان الأثران ليسا هما نفس التقييد والتحصيص، بل هما خصوصيات التخصيص والتقييد، وبالتالي يبقى المعلوم التفصيلي ثابتاً حتى لو اختلفت هذه الآثار وهذه الأحكام.
يعني القيد مثل الوضوء إذا رجع إلى المادة وهو الصلاة الواجبة فالمادة مقيَّدة، وإذا رجع هذا القيد وهو الوضوء إلى نفس الوجوب فهذا يعني أن نفس الواجب أيضاً مقيَّد به، فوجوب الوضوء وأخذ الوضوء في المادة والواجب ثابت على كل تقدير، هذا بقطع النظر عن الخصوصيات: أنه لا تصحُّ الصلاة إلا بالوضوء وأنه يجب إيجاد الوضوء.
هذا التقييد والتخصيص ثابت، بخلاف تقييد وتخصيص وجوب الصلاة بالوضوء، هذا مشكوك فنتمسَّك بالإطلاق لنفي هذا القيد ولنفي تقييد وجوب الصلاة بالوضوء.
[خاتمة الدرس وتأكيد تمامية التقريب الثالث]
وبالتالي الإشكال الأول ليس بتام، فالتقريب الثالث تام، أي أن العلم الإجمالي ينحلُّ إلى علم تفصيلي بالنسبة إلى تقييد المادة، وشكٍّ بدوي بالنسبة إلى تقييد الهيئة، فنتمسَّك بإطلاق الهيئة، والله العالم.