47/04/26
الدرس (مائتان وخمسون): التقريب الثاني لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة
الموضوع: الدرس (مائتان وخمسون): التقريب الثاني لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة
[دراسة تحليلية لتقريبي تقديم إطلاق الهيئة على المادة: مباني المحذور العرفي، مائزة التخصص عن التخصيص، ودور انحلال العلم الإجمالي]
إن الأمر يدور بين محذور واحد ومحذورين، حيث إن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة لا محالة، فإن الوجوب لو كان مقيداً بحالة القيام مثلاً فلا معنى لكون الواجب مطلقاً يشمل حالة عدم القيام، فإذا تم تقييد الوجوب فإنه يُقيَّد الواجب قهراً، فتقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة، والعكس غير صحيح، فتقييد المادة لا يستلزم تقييد الهيئة، وتقييد الواجب لا يستلزم تقييد الوجوب.
[توضيح مفهوم المحذور الواحد والمحذورين]
إذاً تقييد الوجوب فيه تقييدان: تقييد للوجوب وتقييد للواجب، بخلاف تقييد الواجب والمادة ففيه تقييد واحد لخصوص الواجب والمادة، ولا ينسحب هذا التقييد إلى الوجوب والهيئة.
فإذاً يدور الأمر بين تقييد وتقييدين، أي بين محذور ومحذورين، ومتى ما دار الأمر بين محذور واحد ومحذورين فمقتضى الجمع العرفي هو تقديم المحذور الواحد والالتزام بالمحذور الواحد ورفع اليد عن المحذور الثاني، وذلك ليس من باب انحلال العلم الإجمالي بأحد القيدين إلى العلم التفصيلي بأحد القيدين معيناً والشك البدوي في القيد الآخر - لو كان هذا هو المدار لرجع إلى الوجه والتقريب الثالث الذي سيأتي - بل يُقدَّم تقييد المادة على تقييد الهيئة، يعني يُحتَفَظ بإطلاق الهيئة وإطلاق الوجوب ويُقتصر على خصوص تقييد المادة وتقييد الواجب، لأن تقييد الوجوب فيه تقييدان: تقييد للوجوب والواجب معاً، فهنا محذوران، بخلاف تقييد المادة والواجب ففيه محذور واحد وهو خصوص تقييد الواجب والمادة دون تقييد الوجوب والهيئة.
[الدعاوى المستند إليها في التقريب الثاني]
والوجه في المحافظة على إطلاق الهيئة والوجوب والاقتصار في التقييد على خصوص الواجب والمادة إحدى دعويين:
الدعوى الأولى: إن مجرد الدوران بين محذور واحد ومحذورين يجعل العرف العام يُقدِّم ارتكاب محذور واحد على ارتكاب محذورين في مقام الجمع بينهما، فالعرف هكذا: لو تسأل العرف إذا دار الأمر بين ارتكاب محذور واحد أو محذورين فإن العرف يختار ارتكاب محذور واحد دون ارتكاب المحذورين.
الدعوى الثانية: إن الظهور الذي يلزم من مخالفته محذوران كظهور الهيئة في الوجوب يصبح أقوى من الظهور الذي لا يلزم من مخالفته إلا محذور واحد كظهور القيد في خصوص المادة والواجب.
[مناقشة الدعويين]
إذاً يُلتَزَم بإحدى الدعويين: إما أن العرف العام يُقدِّم ارتكاب محذور على محذورين، وإما أن الظهور الذي يلزم منه محذوران يصير أقوى من الظهور الذي يلزم منه محذور واحد.
وفيه: مضافاً إلى أن كلتا الدعويين ممنوعة: من قال إن العرف العام دائماً إذا دار الأمر بين محذور ومحذورين يختار محذور دون المحذورين؟ فقد يُقال بالتفصيل: إذا كان الملاك أقوى وأهم في المحذور الأول قد يُقدَّم المحذورين لأن الملاك أضعف، ويُقدَّم ارتكاب محذورين للحفاظ على الملاك الأهم عند ارتكاب محذور واحد فقط، فهذه الدعوى ممنوعة، كما أن الدعوى الثانية أيضاً ممنوعة: من قال إن الظهور الذي يلزم من مخالفته محذوران أقوى من الظهور الذي يلزم من مخالفته محذور واحد؟ هذه دعوى تحتاج إلى دليل.
[المناقشة الأهم: التخصص مقابل التخصيص]
والأهم في المناقشة هو أن يُقال: إن تقييد المادة على أساس تقييد الهيئة ليس محذوراً لأنه ليس تخصيصاً وإنما هو التخصص، والمحذور إنما هو في التخصيص لا التخصص.
بيان ذلك: إن إطلاق المادة والواجب دائماً مقيد بمقيد لُبِّي وعقلي فهو كالقرينة المتصلة بخطاب الواجب والمادة، وهذه القرينة اللُّبية مفادها هكذا: إن جميع القيود المأخوذة في الوجوب تنسحب إلى الواجب وتُؤخَذ في الواجب، وجميع القيود التي تُؤخَذ في الهيئة فإنها مأخوذة في المادة قهراً.
إذاً المادة مثل الصلاة والواجب مثل الصلاة الواجبة أُخِذ فيها جميع قيود الوجوب، إذا وجوب الصلاة مقيد بالزوال يعني الصلاة مقيدة بالزوال، إذا الهيئة - هيئة "صلِّ" - مقيدة بالزوال: "صلِّ عند الزوال"، فإن مادة الصلاة أيضاً مقيدة بالزوال.
خلاصة: أي مادة فيها جميع قيود الهيئة، وأي واجب لا بد أن يكون فيه جميع قيود الوجوب، هكذا يحكم العقل، فهناك قرينة عقلية لُبِّية متصلة بخطاب الواجب، يعني خطاب الواجب "صلِّ" "تصدَّق" مقيد بقرينة متصلة. ما هي هذه القرينة المتصلة؟ كل ما أُخِذ في الوجوب يُؤخَذ في الواجب، كل ما أُخِذ في الهيئة يُؤخَذ في المادة، فهذا التقييد بهذا النحو الإجمالي ثابت للواجب بمقيد كالمتصل.
فإذا قيَّدنا الهيئة بالقيام مثلاً: "تصدَّق قائماً"، فقد حققنا صغرى ذلك التقييد الإجمالي، ولم نُقيِّد المادة بتقييد جديد بل جئنا بصغرى هذا التقييد المعلوم إجمالاً. واضح الجواب أو لا؟
أُعيد وأُكرِّر بشكل مختصر: ما هو موطن بحثنا؟ تعارض التقييدين وليس تعارض تقييد وتقيُّد. موطن بحثنا تعارض التخصيصين: تخصيص المادة وتخصيص الهيئة، تخصيص الوجوب وتخصيص الواجب، هذا أصل بحثنا. إذا حصل تعارض بين تقييدين أو تخصيصين وليس التعارض بين تخصيص وتخصُّص، وليس التعارض بين تقييد وتقيُّد، هذا موطن بحثنا.
إذا صار تعارض بين تقييد الهيئة أو تقييد المادة فأيهما يُقدَّم؟ وإذا صار تعارض بين تقييد الوجوب وتقييد الواجب فأيهما يُقدَّم؟ هذا موطن بحثنا.
وهنا نقول: في موطن بحثنا لا يوجد تعارض بين تقييدين إذا قيَّدنا الهيئة أو الوجوب - مثال ذلك: "تصدَّق قائماً" "صلِّ قائماً" - هنا قيَّدنا الأمر "افعل" بالقيام، إذا قيَّدنا الصيغة "افعل" بالقيام قيَّدنا الوجوب بالقيام، قهراً نُقيِّد المادة وهي الصلاة والصدقة بالقيام، لكن تقييد المادة - الصدقة أو الصلاة - بالقيام ليس تقييداً، هذا تقيُّد، لأننا نعلم علماً إجمالياً بأن جميع القيود والشروط التي تُؤخَذ في الهيئة وفي الوجوب لا بد أن تُؤخَذ أيضاً في المادة والواجب.
إذاً صار عندنا علم إجمالي بتقيُّد المادة بقيود الهيئة، وعندنا علم إجمالي بتقيُّد الواجب بقيود الوجوب، فإذا جاء الشرط والقيد كالقيام، هذا القيام يُحقِّق صغرى ذلك المعلوم إجمالاً، صغرى التقيُّد، إذاً لا تعارض بين تخصيصين وتقييدين، بل صار المورد من موارد تخصيص الوجوب وتقيُّد الواجب، تقييد الهيئة وتقيُّد المادة، وهذا لا محذور فيه. واضح إن شاء الله الجواب.
التقريب الثالث لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة:
أن يُقال: إن التعارض بين إطلاق المادة وإطلاق الهيئة فرع العلم الإجمالي بتقييد أحدهما، يعني نحن نعلم إجمالاً بوجود تقييد، لكن هذا التقييد هل هو راجع إلى الهيئة أو هو راجع إلى المادة؟ لا نعلم ذلك. لكن هذا العلم الإجمالي منحلٌّ بعلم تفصيلي بتقييد المادة، لأن المادة دائماً مقيدة، دائماً مخصصة، إما بنحو التخصيص والتقييد كما لو رجع القيد إلى خصوص المادة، وإما بنحو التخصص والتقيُّد كما لو رجع القيد إلى الوجوب والهيئة.
إذاً أنت مسبي على أي حال المادة دائماً مقيدة بشرط، دائماً مخصصة بقيد، إما بنحو التقييد والتخصيص إذا القيد والشرط راجع إلى خصوص الواجب والمادة، وإما بنحو التخصص والتقيُّد إذا كان القيد أو الشرط راجعاً إلى الوجوب أو الهيئة.
إذاً نحن نعلم تفصيلاً بوجود الشرط أو القيد في المادة والواجب إما بنحو التقيد أو إما التقييد، إما بنحو التخصص وإما بنحو التخصيص. هذا علم تفصيلي، نحن نعلم تفصيلاً باعتبار شرط وقيد قد أُخِذ في المادة والواجب، لكن نحو الأخذ هذا معلوم إجمالاً: إما بنحو التقييد والتخصيص كما لو كان القيد قد أُخِذ في خصوص المادة والواجب، وإما بنحو التخصص كما لو أُخِذ القيد في الوجوب أو الهيئة.
إذاً علم تفصيلي بتخصيص وتقييد المادة والواجب معلوم، وشك بدوي في تقييد الوجوب، لا الواجب يقيناً مقيد، الواجب المادة - الصلاة - يقيناً مقيدة، بينما الوجوب والهيئة نَشُكُّ في تقيُّدها فتجري البراءة الشرعية. في الشك في تقييد الوجوب والهيئة، فتقييد الهيئة يسري إلى المادة، لكن تقييد المادة لا يسري إلى الهيئة.
أُعيد وأُكرِّر التقريب الثالث:
إن التعارض بين إطلاق المادة وإطلاق الهيئة فرع العلم الإجمالي بوجود تقييد، هذا التقييد إما يرجع إلى الهيئة أو يرجع إلى المادة ونحن لا نعلم، لكن هذا العلم الإجمالي منحلّ إلى علم تفصيلي وشك بدوي، ينحلُّ إلى علم تفصيلي بوجود قيد في الواجب والمادة، وشك بدوي في تقييد الهيئة والوجوب، تجري البراءة الشرعية عن تقييد الهيئة والوجوب، فيصير الوجوب والهيئة مطلقان وينحصر القيد في خصوص المادة. واضح إن شاء الله.
[شرط جريان التقريب الثالث: اتحاد الحيثية في التقييد]
لكن هذا التقريب الثالث فيه شرط، فهو إنما يجري فيما إذا كان التقييد في طرف الوجوب وطرف الواجب على وزان واحد، أحياناً التقييد على وزان مختلف، نذكر تقييدين على وزان واحد، مثالين:
المثال الأول: إذا كان التقييد في الواجب والوجوب معاً بمعنى عدم حدوث الوجوب أو الواجب قبل ذلك القيد، يعني قبل القيام لا وجوب للصدقة ولا توجد صدقة واجبة، قبل القيام لا وجوب للصلاة ولا توجد صلاة واجبة، لكن أُخِذ قيد القيام في الحدوث لا في الاستمرار، في حدوث الوجوب والواجب معاً لا في استمرارهما، فلو كان الواجب هو الصدقة مثلاً والقيد هو القيام، فلا وجوب للصدقة أو لا صدقة واجبة قبل القيام من دون أن يكون القيام قيداً في مرحلة الاستمرار، يعني أُخِذ القيام في حيثية حدوث الوجوب والواجب فقط لا في استمرار الوجوب والواجب، فقط في الحدوث. هذا الوزان الأول: أُخِذ في الواجب والوجوب حيثية واحدة فقط حيثية الحدوث.
مثال ثاني للتقييد من وزان واحد: إذا كان التقييد في كلا الطرفين - الوجوب والواجب - بمعنى الظرفية، أنه لا وجوب ولا واجب إلا في ظرف القيام، بحيث يكون القيام أُخِذ حدوثاً واستمراراً في الواجب والوجوب معاً، بمعنى أنه لا وجوب قبل القيام ولا واجب قبل القيام.
هنا الآن نقول: هكذا أخذنا حيثيتين، ذكرنا مثالين: المثال الأول أُخِذ القيام في حدوث الوجوب والواجب، الحيثية الثانية - الظرفية - أُخِذ القيام في حدوث واستمرار الوجوب والواجب.
لو قلنا بالنسبة إلى تقييد الوجوب بالقيام أُخِذ المعنى الأول فقط، يعني حدوث الوجوب منوط بالقيام وليس استمرار الوجوب منوط بالقيام، لكن في الواجب تقييد القيام الواجب - الصلاة الواجبة - أُخِذ القيام حدوثاً واستمراراً، حدوثاً وبقاءً، هنا لا يوجد تنافي، أن يصير الوجوب مقيد بحدوث القيام، يعني لكي يحصل وجوب للصدقة، لكي يحصل وجوب للصلاة لا بد من القيام، لكن لكي يبقى الوجوب لا يُشترَط القيام، لكي يبقى الوجوب. بالتالي هذا الشخص قام فتحقق شرط الوجوب، يعني حدوث وجوب الصدقة: تصدَّق، بعد ذلك لاستمرار الوجوب لم يُؤخَذ شرط القيام، يمكن أن يقعد وبعدُ يجب عليه أن يتصدق. واضح أو لا؟ لأن الوجوب أُخِذ فيه حدوث القيام فقط وفقط.
هذا: قام ووقف، حدث حينئذٍ وجوب ماذا؟ وجوب الصدقة، بعد أن حدث وجوب الصدقة وتصدَّق، قعد، والقيام لم يُؤخَذ في استمرار الوجوب، لكن لما نأتي إلى أخذ القيام في الواجب وفي المادة، أخذ القيام في الواجب وفي المادة أُخِذ في حيثية الحدوث وحيثية البقاء، يعني إذا لم يقم ما يحدث القيام الواجب ولا يستمر القيام الواجب.
إذاً لا بد من اتحاد الحيثية لا أنه مثلاً في الوجوب تأخذ خصوص حيثية الحدوث، لكن في الواجب تأخذ حيثية الحدوث والبقاء، وبالتالي لو فُرِض القيام قيداً للوجوب في مرحلة الحدوث والاستمرار، هنا حتماً سيكون قيداً للواجب لأن الواجب أيضاً أُخِذ فيه القيام في مرحلة الحدوث والاستمرار.
أُكرِّره باختصار شديد حتى تكون الفكرة واضحة:
متى دائماً إذا القيد أُخِذ في الوجوب لا بد ينعكس على الواجب إذا الحيثية واحدة، لكن إذا أُخِذ في الوجوب حيثية الحدوث فقط - حدوث القيام - لكن في الواجب أُخِذ حيثيتان: حيثية الحدوث وحيثية البقاء والاستمرار، هنا اختلف نحو التقييد في كلا الطرفين.
تفصيل الكلام أكثر لأنه هذا يحتاج إلى مناقشة، وحتى نناقشه يحتاج أن نُقرِّر المطلب من جديد حتى يكون واضح، يأتي إن شاء الله.