47/04/25
الدرس (مائتان وتسعة وأربعون): دوران القيد بين الهيئة والمادة
الموضوع: الدرس (مائتان وتسعة وأربعون): دوران القيد بين الهيئة والمادة
[دوران القيد بين الهيئة والمادة: تحليل في ضوابط الإطلاق وتقديم القرائن]
[تمهيد في دوران القيد بين الهيئة والمادة]
إذا علم وقطع بالقيد والشرط، ودار أمر الشرط بين أن يكون قيداً لمدلول المادة أو الهيئة:
فإن قيل إن القيد قيد لمدلول المادة كاشتراط الوضوء في مادة الصلاة فهنا الواجب يجب تحصيله، وهو الصلاة، بقيده وهو الوضوء، فيكون الواجب وهو الصلاة منجِّزاً لشرطه وقيده كالوضوء، فيكون القيد وهو الوضوء في المثال من المقدمات الوجودية الواجبة التحصيل، فيجب تحصيل الوضوء لتحصيل مادة الصلاة.
وتارة يرجع القيد إلى مدلول الهيئة كالاستطاعة الراجعة إلى الهيئة الآمرة بالحج، فتكون الاستطاعة شرطاً للوجوب، وبالتالي لا موجِب للإلزام بتحصيل شرط الوجوب والاستطاعة.
فإذا جاءنا دليل مطلق وفيه قيد وشرط، وشككنا أن هذا القيد هل يرجع إلى المادة؟ فيجب تحصيله كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، أو يرجع إلى الهيئة فلا يجب تحصيله كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج.
[بيان الحالتين في ظهور القيد: القرينة المنفصلة والمتصلة]
وهنا توجد حالتان:
الحالة الأولى: أن يُفرَض أن الدليل الذي دلّ على الشرطية كان منفصلاً عن الخطاب الأول.
الحالة الثانية: أن يُفرَض أن الدليل الذي دلّ على الشرطية الإجمالية كان متصلاً بالخطاب الأول المشتمل على الهيئة والمادة.
ومن هنا يقع الكلام في هاتين الحالتين: القرينة المنفصلة والقرينة المتصلة.
الحالة الأولى: أن يُفرَض أن الدليل الدالّ على القيد والشرط منفصل عن خطاب "صلِّ" و"تصدَّق"، كلام لو جاء خطاب "صلِّ" "تصدَّق"، ثم جاء خطاب آخر يشترط القيام في الصدقة، يشترط القيام في الصلاة، فهنا بالنسبة إلى الخطاب الأول "صلِّ" "تصدَّق"، انعقد إطلاق في طرف الهيئة وانعقد إطلاق في طرف المادة، ولم يقترن كلا الإطلاقين بمقيِّد فيهما، وبعد أن أصبح كلا الإطلاقين - إطلاق الهيئة وإطلاق المادة - فعلياً، عُلِم من الخارج وجود شرط وهو القيام، وهذا الشرط يدور بين رجوعه إلى هيئة "افعل" وبين رجوعه إلى مادة الصدقة والصلاة.
فهنا: إن رجع قيد القيام إلى الهيئة والوجوب، فحينئذٍ لا يجب القيام قبل وجوب الصلاة وقبل وجوب التصدق، لكن إن أُخِذ القيام في مادة التصدق ومادة الصلاة، فحينئذٍ يجب تحصيل القيام للتصدق والصلاة.
ومن هنا قد يُقال بالتعارض بين الإطلاقين - إطلاق الهيئة وإطلاق المادة - لأن:
إطلاق الهيئة: يقتضي كون الوجوب غير مشروط بالقيام.
وإطلاق المادة يقتضي: كون الواجب وهو الصلاة غير مشروط بالقيام.
وأحد الشرطين ساقط يقيناً للعلم الإجمالي بوجود شرط واحد، وهذا الشرط معلوم بالجملة، يعني نعلم إجمالاً باشتراط القيام لكن لا ندري: هذا القيام يرجع إلى الوجوب أو يرجع إلى الواجب؟ فيتعارض الإطلاقان ويتساقطان، وحينئذٍ نرجع إلى الأصول العملية.
[محاولة ترجيح أحد الإطلاقين: تقديم إطلاق الهيئة]
من هنا بُذِلت عنايات لترجيح أحد الإطلاقين على الآخر بحيث لا تصل النوبة إلى التعارض ومن ثم التساقط ومن ثم الرجوع إلى الأصول العملية، وكانت ثمرة هذه العنايات هي ترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادة، وهناك ثلاث محاولات وتقريبات لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة، يعني إذا دار الأمر بين رجوع القيد إلى المادة أو الهيئة نقدِّم إطلاق الهيئة، نرجع القيد إلى المادة. واضح إن شاء الله.
[التقريب الأول: الإطلاق الشمولي للهيئة والإطلاق البدلي للمادة]
التقريب الأول
إن إطلاق الهيئة شمولي بينما إطلاق المادة بدلي، والإطلاق الشمولي أقوى من الإطلاق البدلي، فيُقدَّم الإطلاق الشمولي للهيئة على الإطلاق البدلي للمادة عند التعارض.
وهنا لابد من توضيح الصغرى والكبرى.
[الصغرى: بيان الفرق بين الإطلاق الشمولي والبدلي]
أما الصغرى، وهي أن إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادة بدلي:
فبلحاظ أن إطلاق الهيئة يقتضي توسيع دائرة الوجوب وشمول الوجوب لحالات مختلفة في عرض واحد، فهي تشمل الصلاة من قيام والصلاة من جلوس والصلاة عن طريق الاستلقاء وغير ذلك والصلاة بالإيماء.
وأما إطلاق المادة مادة الصلاة فهو بدلي، لأن مدلول المادة هو صرف الوجود أي صرف وجود الصلاة أو صرف وجود الصدقة، فلو كان إطلاق الصدقة مطلقاً من حيث القيام، فليس معنى ذلك أن هناك صدقتان واجبتان وأن هناك صلاتان واجبتان، بل صدقة واحدة واجبة وصلاة واحدة واجبة على نحو البدل، فيصير مدلول الدليل: تجب صلاة ما، وتجب صدقة ما.
إذاً إطلاق الهيئة شمولي يعمّ جميع أفراد التي تشملها دائرة الوجوب، بينما إطلاق المادة بدلي، يكفي صرف الوجود، الوجود الخالص، تحقق مادة واحدة للصلاة أو الصدقة، هذا بالنسبة إلى الصغرى.
[الكبرى: مناقشة أقوائية الإطلاق الشمولي]
وأما الكبرى، وهي أن الإطلاق الشمولي أقوى من الإطلاق البدلي فيُقدَّم عليه بملاك الأقوائية.
[نقد المحقق الخراساني على الكبرى]
فقد نُوقِش فيه، واعترض عليه المحقق الخراساني في كفاية الأصول، يُراجَع[1] .
وخلاصة مناقشة صاحب الكفاية:
إنه لا موجِب لأقوائية الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، نظراً لأن كلا الإطلاقين قد ثبت بموجِبٍ واحد ومحل فارد وهو مقدمات الحكمة، فهذا إطلاق حكمي، يعني منشأه قرينة الحكمة، وليس منشأه الإطلاق الأداتي، يعني الثابت بأداة العموم مثل "كل" و"جميع" و"جمعاء" و"قاطبة".
فلا موجِب لتقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، لأن كليهما إطلاق قد ثبت بقرينة الحكمة.
نعم، لو كان أحدهما بالعموم الأداتي مثل "كل" و"جميع" والآخر بالإطلاق الحِكمَي، صحّ تقديم العموم الأداتي على الإطلاق الحِكَمي بدعوى الأقوائية.
والسر في ذلك: أن العموم الأداتي منشؤه الوضع الواضع اللغوي، وضع ونصّ على أن كلمة "الجميع" و"جمع" و"قاطبة" و"كل" تفيد العموم، هذا نصّ، والنصّ أقوى من الإطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة.
مثال ذلك: لو قال المولى: "لا تكرم أيَّ فاسق" و"أكرم عالماً"، فحينئذٍ:
- إطلاق "أكرم عالماً" إطلاق بدلي منشأه مقدمات الحكمة، يعني أكرم عالم على نحو البدل.
- وإطلاق "لا تكرم أيَّ فاسق" إطلاق شمولي أداتي منشأه عموم أداة "أيّ".
فهنا يُقدَّم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي ببركة الأداة لا ببركة الشمول.
ولهذا لو فرض العكس أي أن الشمول استفدناه من مقدمات الحكمة والبدلية استفدناها من الأداة، تُقدَّم البدلية المستفادة من الأداة على الشمول المستفاد من مقدمات الحكمة.
كما لو قال المولى: "أكرم أيَّ عالم شئت"، هذا إكرام على نحو البدل، لكن من أين استفدنا البدلية؟ من قوله "أيّ"، أيّ من عموم الأداة، ثم قال: "لا تكرم الفاسق"، هذا نهي شمولي لكن استفدنا الشمول من مقدمات الحكمة.
فالأول إطلاق بدلي أداتي، والثاني شمولي حُكمي، وفي هذا المورد يُقدَّم الإطلاق البدلي على الشمولي، لأن منشأ العموم فيه هو أداة الوضع.
[النتيجة: عدم تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي]
إذاً: لا خصوصية للشمول لكي تقدَّم على البدلية، إنما الخصوصية لمنشأ العموم والإطلاق، إذا كان منشأ العموم الأداة، يُقدَّم هذا العموم على الإطلاق الذي منشأه مقدمات الحكمة. واضح إن شاء الله؟
فتكون النتيجة أن التقريب الأول ليس بتام، من قال إن الإطلاق الشمولي أقوى من الإطلاق البدلي فتُقدَّم الهيئة على المادة؟ بل هما متساويان لأن منشأهما واحد وهو مقدمات الحكمة.
[محاولة الشهيد الصدر: منشأ الشمول والبدلية ليس مقدمات الحكمة]
وهناك محاولة أعمق وهي للشهيد العصر السيد محمد باقر الصدر رحمه الله.
فصاحب الكفاية يرى أن منشأ الشمول والبدلية هو ماذا؟ مقدمات الحكمة أي الإطلاق.
وأما الشهيد الصدر، ففي محاولته سيُثبِت أن الشمول والبدلية لا يُستفادان من مقدمات الحكمة، بل من شيء آخر، وبالتالي لا معنى لأن تدّعي وتقول: الإطلاق الشمولي أقوى فيُقدَّم على الإطلاق البدلي، لأن منشأ الشمول والبدلية ليس نفس الإطلاق، بل قرينة أخرى عقلية غير مقدمات الحكمة.
[بيان وظيفة مقدمات الحكمة في إثبات الإطلاق]
بيان ذلك:
ذكر الشهيد الصدر في بحث التعادل والتراجيح أن الشمولية والبدلية ليست مدلولةً لمقدمات الحكمة، وإنما مفاد مقدمات الحكمة شيء واحد في موارد المطلقات الشمولية والبدلية، وإنما تُستفاد الشمولية والبدلية بقرينة عقلية غير قرينة مقدمات الحكمة.
بيان ذلك:
ما هو تمام وظيفة مقدمات الحكمة؟
الجواب: تمام وظيفة مقدمات الحكمة إثبات أن تمام مدلول الكلمة هو تمام ما هو في الواقع، إنما يقوله يريده، أي أصالة التطابق بين مدلول الكلام وبين تمام المرام، إنما يقوله يريده.
وهذا المطلب لا فرق فيه بين مدلول الهيئة ومدلول المادة:
- فإنما يثبت بمقدمات الحكمة في جانب الهيئة هو أن مدلول الهيئة ذات الوجوب، لا وجوب على تقدير، أن هذا تمام المرام، فيثبت أن تمام المنشأ إنما هو ذات الوجوب.
- إذاً كل هيئة "افعل" تدل على ماذا؟ تدل على ذات الوجوب.
وهكذا الإطلاق في طرف المادة مثل مادة الصدقة ومادة الصلاة تفيد أن متعلَّق الوجوب هو ذات الصدقة وذات الصلاة بلا زيادة كالقيام أو قصد القربة وغير ذلك.
إذاً ما ثبت أنه تمام المرام إنما يكون ببركة مقدمات الحكمة، ما يقوله يرومه.
لكن ما يقوله هل هو انحلالي؟ أو شمولي؟ هل هو شمولي؟ أو بدلي؟ هذا لا تُثبِته مقدمات الحكمة.
[تفصيل الشهيد الصدر في الفرق بين الشمول والبدلية]
وقد ذكر الشهيد الصدر ضابط الانحلالي والتكثري في مبحث اقتضاء الأمر للمرة أو التكرار، وذكر هناك أن مقتضى إطلاق الأمر بلحاظ الموضوع وهو المكلف أنه شمولي، وبلحاظ متعلَّق الموضوع أنه بدلي.
"يجب الحج على المستطيع"، "يجب الحج" مطلق، هذا الحكم المطلق وهو وجوب الحج له موضوع وهو المكلف، هذا الإطلاق شمولي، يعني يشمل جميع أفراد المكلفين، وهذا الحكم وهو الوجوب له متعلَّق، تعلَّق بماذا هذا الوجوب؟ بالحج، لكن يُراد حصة من الحج على نحو البدل.
وهكذا "تجب الصلاة والصوم والخمس"، هنا يوجد حكم وهو الوجوب، ويوجد موضوع وهو المكلف المصلّي والمخمِّس والمزكّي والصائم، فإطلاق الوجوب بالنسبة إلى الموضوع وهو المكلف إطلاقاً شمولي، - وإطلاق الأمر بلحاظ متعلَّق الحكم بدلي، يعني: خُمس على نحو البدل، زكاة على نحو البدل، صلاة على نحو البدل.
والتفريق هنا بين الشمولية والبدلية، وأن هذا حكم انحلالي ينحل إلى الأفراد وغير انحلالي لا ينحل إلى الأفراد، لم نستفده من مقدمات الحكمة، بل استفدناه من قرينة عقلية دلت على أن الأمر بلحاظ موضوعه وهو المكلف يعمّ ويشمل جميع الأفراد، وأن إطلاق الأمر بلحاظ المتعلَّق بدلي، العقل هكذا يحكم: إن الأمر الآن إذا جاء أمر "زكِّ"، هذا "زكِّ" هذا الأمر يعمّ ويشمل كل الأفراد، فإطلاق الأمر بلحاظ الموضوع شمولي استغراقي، بعد وإطلاق الأمر بلحاظ المادة - الزكاة - بدلي، يعني الزكاة على نحو البدل، هنا الشمولية والبدلية لم نستفدها من مقدمات الحكمة.
[خلاصة رأي الشهيد الصدر: الشمول والبدلية من قرينة عقلية]
عندنا دالّ على أصل الإطلاق، على نحو الإطلاق، قرينة الحكمة تدلّ على أصل الإطلاق، نحو الإطلاق - أنه شمولي أو بدلي - يُستفاد من قرينة عقلية، إذاً: لا تقل إن الإطلاق الشمولي أقوى من الإطلاق البدلي، بل الإطلاقان متساويان: مقدمات الحكمة تثبت أصل الإطلاق في البدلي، نحو الإطلاق - أنه شمولي أو بدلي - يُستفاد من قرينة عقلية ومن دالّ آخر غير مقدمات الحكمة.
إذاً، التعارض في الحقيقة ليس بين الدالّ على البدلية والدالّ على الاستغراقية، بل التعارض بين الدالّ على الإطلاق هنا والإطلاق هناك، فلا موجِب لتقديم الإطلاق الدالّ على الهيئة وترجيحه على الإطلاق الدالّ على المادة.
[النتيجة النهائية للتقريب الأول: عدم تماميته على كلا المبنيين]
هذا تمام الكلام في التقريب الأول، واتضح أنه ليس بتام: على مبنى صاحب الكفاية ولا على مبنى الشهيد الصدر، صاحب الكفاية يقول: الإطلاق يدلّ على الاستغراق والبدلية، لكن هذا الإطلاق مستفاد من مقدمات الحكمة، الشهيد الصدر يقول: مقدمات الحكمة لا تفيد الشمول والبدلية، وإنما تفيد أصل الإطلاق فقط، فلا موجِب للترجيح، والله العالم.
التقريب الثاني عليه الكلام.