« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

47/04/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وثمانية وأربعون): الإشكال الثاني على جريان الاستصحاب في الصورة الخامسة

الموضوع: الدرس (مائتان وثمانية وأربعون): الإشكال الثاني على جريان الاستصحاب في الصورة الخامسة

 

[الإشكالات الأصولية على جريان الاستصحاب في مقدمات وجوب التعلم: دراسة تحليلية في ضوء مباني النائيني والصدر]

[مقدمة الدرس وتحديد موضوع الإشكال الثاني]

[نقل الإشكال عن الميرزا النائيني ومصادره]

الإشكال الثاني على جريان الاستصحاب في الصورة الخامسة، وهو ما أفاده المحقق الميرزا الشيخ محمد حسين النائيني رحمه الله، يُراجَع[1] [2] .

ومفاد إشكاله إن استصحاب عدم الابتلاء لا يجري في المقام؛ لأن الأثر الشرعي هنا مترتب على نفس الاحتمال لا على المحتمل.

توضيح ذلك: إننا باستصحاب عدم الابتلاء نريد أن ننفي وجوب التعلم، ووجوب التعلم ليس مترتبًا على الاستطاعة واقعًا، بل وجوب التعلم مترتب على احتمال الاستطاعة، إذًا موضوع وجوب التعلم هو نفس الاحتمال والشك، وليس موضوعه واقع الاستطاعة، إذًا باستصحاب عدم الاستطاعة لا يمكن أن ننفي وجوب التعلم؛ لأن وجوب التعلم ليس موضوعه المشكوك والمحتمل، وإنما يجري الاستصحاب فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتبًا على المشكوك والمحتمل.

هذا الكلام بظاهره قد يُتأمَّل فيه، لذلك يمكن أن يُبيَّن بأحد بيانين: البيان الأول يفيد جريان الاستصحاب، والبيان الثاني يفيد عدم جريان الاستصحاب، ولنشرع في توضيح البيانين.

[البيان الأول: جريان الاستصحاب بناءً على قيامه مقام القطع الموضوعي]

البيان الأول ونتيجته جريان الاستصحاب:

إننا تارة نتصور أن الدليل قد قام على وجوب تعلُّم ما لا يُعلَم، فالدليل قد دل على وجوب تعلُّم كل ما يحتمل المكلف الابتلاء به، فإذا التزمنا بذلك نقول: لا مانع من استصحاب عدم الاستطاعة؛ لأن المانع من جريان استصحاب عدم الاستطاعة أحد احتمالين، وعلى كلا الاحتمالين لا يوجد مانع من جريان الاستصحاب.

[الاحتمال الأول ضمن البيان الأول: موضوع وجوب التعلم هو عدم العلم]

الاحتمال الأول: أن المانع من جريان استصحاب عدم الاستطاعة هو أن موضوع دليل وجوب التعلم هو عدم العلم، فمجرد الاحتمال والشك الذي يُشكِّل عدم علم يكفي لذلك، ويُقال: بأن دليل الاستصحاب لا يقوم مقام العلم المأخوذ عدمُه في موضوع دليل وجوب التعلم، إذاً أُخذ العلم وعدمه، والاستصحاب ليس إلا ظنّ قام الدليل الشرعي على اعتباره، فهذا الظن المعتبر لا يقوم مقام العلم.

[الرد على الاحتمال الأول وفق مبنى النائيني]

وفيه: هذا الاحتمال مبني على عدم قيام الأصول التنزيلية مقام القطع الموضوعي، ولا ينسجم مع مبنى الميرزا النائيني الذي يرى قيام الأمارات والاستصحاب مقام القطع الموضوعي، فالميرزا النائيني يقول: إن الأمارات والاستصحاب وإن كانت ظنّاً وليست بعلم وجداني لكنها علم اعتباري، أي أن الشارع اعتبرها علمًا كأن تمَّم كشفها، فالاستصحاب والأمارة يُفيد الظن لكن الشارع جعله علمًا واعتبره علمًا، والعلم الاعتباري والجعلي يقوم مقام العلم الوجداني، فالميرزا النائيني يرى أن الأصول التنزيلية يعني الشارع نزَّلها منزلة الواقع تقوم مقام القطع الموضوعي، فعلى مبنى الميرزا النائيني، لِمَ لا يقوم الاستصحاب مقام العلم؟!

فما دام أن دليل وجوب التعلم أخذ في موضوعه عدم العلم وعدم الابتلاء، والاستصحاب يُثبت عدم العلم وعدم الابتلاء، إذًا ببركة الاستصحاب نعلم بعدم الابتلاء، وبهذا نخرج موضوعًا عن دليل وجوب التعلم: أنت يجب عليك أن تتعلم إذا أنت مبتلى، إذا علمت وقطعت أنك لست بمبتلى لا يجب عليك أن تتعلم، سواء قطعت بالقطع الوجداني أو قطعت بالقطع الاعتباري ببركة جريان الاستصحاب.

إذًا بناءً على الاحتمال الأول نقول: إن الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي عند الميرزا النائيني، فإذا جرى استصحاب عدم الاستطاعة علم المكلف أنه غير مبتلى بالاستطاعة، وبالتالي غير مبتلى بوجوب الحج، وبالتالي غير مبتلى بوجوب التعلم. واضح إن شاء الله؟ هذا الاحتمال الأول.

[الاحتمال الثاني ضمن البيان الأول: عدم جريان الاستصحاب في نفسه]

الاحتمال الثاني: ليس الإشكال من ناحية أن الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي حتى تُجيب بأن الميرزا النائيني يرى أن الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي، بل إن الإشكال في نفس جريان الاستصحاب في حد نفسه، فالاستصحاب بحد نفسه لا يجري.

والسر في ذلك: أن الاستصحاب يجري في نفسه إذا كان المستصحَب حكمًا شرعيًّا أو موضوعًا لحكم شرعي، فجريان الاستصحاب فرع كون المستصحَب حكمًا شرعيًّا أو موضوعًا لحكم شرعي، إذًا لا بد أن يكون المستصحَب المشكوك موضوعًا للأثر الشرعي، مع أن الأثر الشرعي هنا وهو وجوب التعلم ترتَّب على نفس الشك والاحتمال، ولم يترتب على المشكوك والمحتمل والمستصحَب.

[الرد على الاحتمال الثاني: الاستطاعة موضوع لحكم شرعي]

إن قلتَ بهذا الاحتمال الثاني نقول: لا يوجد هذا الإشكال المذكور في الاحتمال الثاني، فلو سلَّمنا بهذا المبنى: أن الاستصحاب لا يجري إلا إذا كان المستصحَب حكمًا شرعيًّا أو موضوعًا لحكم شرعي، فإننا نقول: إننا نستصحب عدم الاستطاعة، والاستطاعة هي موضوع لحكم شرعي وهو وجوب الحج، فباستصحاب عدم الاستطاعة نستصحب عدم موضوع الحكم الشرعي، أي عدم الاستطاعة التي هي موضوع وجوب الحج، وبالتالي يمكن أن يجري الاستصحاب في حد نفسه نظرًا لتوفر شرطه، وهو كون المستصحَب موضوعًا لحكم شرعي.

إذًا جواب هذا البيان الأول لإشكال الميرزا النائيني بكلا احتماليه: نقول نُجيب باختصار: لو سُلِّم أن دليل وجوب التعلم أخذ في موضوعه نفس الشك والاحتمال، لكن بناءً على مبنى الميرزا النائيني من قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، بناءً عليه يكون استصحاب عدم الاستطاعة التي هي موضوع الحكم الشرعي بوجوب الحج الذي يجب تعلُّم أحكامه قائمًا مقام العلم بعدمها، فيُحكم بعدم وجوب التعلم.

[خلاصة البيان الأول: نفي وجوب التعلم بجريان الاستصحاب]

الخلاصة بشكل مبسط: وجوب التعلم أُخِذ في موضوعه احتمال الابتلاء، هذا بيان كُلِّش سهل ومختصر، وجوب التعلم أُخِذ في موضوعه مجرد الشك والاحتمال، وهذا الشك والاحتمال يُنفى بجريان الاستصحاب، إذ يشك المكلف في تحقق الاستطاعة مستقبلًا فيستصحب عدم الاستطاعة، وباستصحاب عدم الاستطاعة يثبت عدم الوجوب للحج، وإذا ثبت عدم وجوب الحج يثبت عدم وجوب تعلُّم أحكام الحج.

إن قلتَ: أُخِذ عدم العلم، والاستصحاب لا يُفيد العلم، قلنا: إن الميرزا النائيني يرى أن الاستصحاب يقوم مقام العلم والقطع الذي أُخِذ كموضوع في الموضوع. واضح إن شاء الله؟

هذا تمام الكلام في البيان الأول بيان إشكال النائيني، بناءً على هذا البيان يجري الاستصحاب، وبالتالي لا يجب التعلم، لكن بناءً على البيان الثاني ما يجري الاستصحاب ويجب التعلم.

[البيان الثاني: وجوب التعلم من باب دفع الضرر المحتمل]

البيان الثاني لإشكال الميرزا النائيني:

أن يُقال: إن دليل وجوب التعلم لو كان مفاده هو إنشاء وجوب التعلم على عنوان ما لا يُعلَم عدم الابتلاء به فإنه يجب عليه أن يتعلم حينئذٍ بالاستصحاب، إذ يقول الاستصحاب: أنا أعلم بعدم الابتلاء، لكن ليس هذا هو مورد بحثنا.

[الرواية كمصدر لوجوب التعلم: هلَّا تعلَّمتَ؟]

بل دليل وجوب التعلم يستفاد من دليل آخر، وهو ما ورد في الرواية: «يُؤتَى بالعبد يوم القيامة فيُقال له: لِمَ لم تعمل؟ فيقول: لم أعلم، فيُقال له: هلَّا تعلَّمتَ؟»[3] فمن هذا التحضيض «هلَّا تعلَّمتَ؟» يُستفاد منه وجوب التعلم، ومنشأ وجوب التعلم هو دفع الضرر المحتمَل.

فإذا احتمل وجود خطر، مثلًا: هناك عشرة طرق إلى المدينة تسعة منها فيها قُطَّاع طُرُق وواحد سالم، فلكي يسلك الطريق يجب عليه أن يعلم وأن يتعرف على الطريق السالك، فهنا منشأ وجوب التعلم هو ماذا؟ دفع الضرر والخطر المحتمل.

[التطبيق على مورد الحج: احتمال الاستطاعة منجِّز للتعلم]

فيُقال في مورد بحثنا: أن مقتضى المحاورة بين المولى وبين المخالف: "لِمَ لم تعمل؟" فقال: "لم أعلم"، فقال: "هلَّا تعلَّمتَ؟"، مقتضى هذه المحاورة أن كل مخالفة نشأت من ترك التعلم يُعاقَب عليها، وحينئذٍ نأتي إلى مورد بحثنا: هذا المكلف الذي يحتمل أن تتحقق الاستطاعة في حقه، إذًا هو يحتمل وجوب الحج في حقه مستقبلًا، وإذا لم يتعلم الآن سيبتلى بالعجز عن الحج في المستقبل، إذًا مجرد احتمال الاستطاعة في المستقبل منجِّز لوجوب التعلم؛ لأنه إذا احتمل تحقق الاستطاعة في المستقبل وتحققت، وجب عليه الحج، وإذا وجب عليه الحج ولم يتعلم الآن أحكام الحج يكون قد عجَّز نفسه، فإذا جاء وقت الحج ولم يحج وقع في الضرر المحتمَل.

[إعادة وتأكيد منشأ وجوب التعلم]

أُعيد وأُكرر هذه النكتة مهمة؛ لأنه سنفرِّع على الاستصحاب شيئًا آخر الآن إلى الآن ما تكلمنا في الاستصحاب، إلى الآن لاحظ معي: منشأ وجوب التعلم ما هو منشأ وجوب التعلم؟ نفس احتمال تحقق الاستطاعة؛ لأنه إذا احتمل تحقق الاستطاعة يحتمل وجوب الحج، وإذا احتمل وجوب الحج يحتمل وجوب التعلم، فيجب عليه أن يتعلم الآن لدفع الضرر المحتمَل، ما نقول دفع الضرر المتيقَّن هذاك واضح، هو يحتمل أنه تجب عليه الاستطاعة في المستقبل، وبالتالي يجب عليه الحج، وبالتالي يجب عليه التعلم.

إذًا منشأ وجوب التعلم هو ماذا؟ نفس احتمال وقوع الشيء، فلا بد من دفع الضرر المحتمَل. واضح المنشأ؟ نأتي الآن، ولنأتي الآن إلى استصحاب عدم الاستطاعة وعدم الابتلاء.

[مفاد الاستصحاب وعدم كفايته لرفع وجوب التعلم]

فإذا شكَّ أنه في المستقبل سيستطيع للحج وأجرى الاستصحاب قال: كنت على يقين من عدم الاستطاعة وأشك في تحقق الاستطاعة في المستقبل، لا تنقض اليقين بالشك، استصحبْ ماذا؟ عدم الاستطاعة، فهنا مفاد الاستصحاب أن المستصحَب هو ماذا؟ عدم الاستطاعة وعدم الابتلاء.

استصحاب عدم الاستطاعة لا يَنفي وقوع المخالفة في ذلك الحين إلا بنحو الملازمة العقلية، إذًا دليل الاستصحاب لا يرفع موضوع وجوب التعلم؛ لأن دليل الاستصحاب مفاده إنك لن تستطيع في المستقبل، ويلزم منه عقلًا إنك لن تقع في مخالفة ناشئة من عدم العلم.

لكن نفي المخالفة الناشئة من ترك التعلم إنما يكون بالملازمة العقلية، ودليل وجوب التعلم يقول: بأن كل مخالفة تنشأ من ترك التعلم أُعاقب عليها، إذًا دليل الاستصحاب لا يصنع شيئًا ولا يرفع موضوع دليل وجوب التعلم، إذًا مقتضى إطلاق دليل وجوب التعلم هو لزوم التعلم من باب دفع الضرر المحتمَل؛ لأن المكلف يحتمل أنه في المستقبل سيستطيع، وبالتالي يحتمل أن الحج سيجب عليه، وبالتالي يجب عليه أن يتعلم حتى لا يقع في الضرر المحتمَل والمتوقَّع، يجب عليه أن يتعلم الآن حتى لا يقع في ترك الحج الذي يحتمل وجوبه عليه في المستقبل.

[خلاصة البيان الثاني: الاستصحاب لا يرفع وجوب التعلم]

بشكل موجز: عدنا موضوعان وجوب التعلم وجريان الاستصحاب. سؤال: ما هو منشأ وجوب التعلم؟ دفع الضرر المحتمل، يعني أي شيء تحتمل ضرره في المستقبل يجب أن ترفعه بالتعلم. الآن نأتي إلى مفاد الاستصحاب: ما هو مفاد الاستصحاب؟ عدم تحقق الاستطاعة. ماذا يلزم من عدم تحقق الاستطاعة عقلًا؟ يلزم أن أنت غير مؤاخذ، غير مؤاخذ عقلًا يثبت حكم عقلي ما يثبت حكم شرعي، دليل وجوب التعلم يقول: يجب عليك شرعًا أن تتعلم حتى تدفع ماذا؟ الضرر المحتمل، يجب شرعًا وعقلًا، فجريان الاستصحاب لا يُفيد في رفع وجوب التعلم، موضوع وجوب التعلم محقَّق.

ما هو موضوع وجوب التعلم؟ كل مخالفة تنشأ من ترك التعلم أنت معاقَب عليها، أي مخالفة إذا منشأها أن أنت ما تعلمتَ تُعاقَب عليها، وهذا مفاد الرواية دليل شرعي لـ "هلَّا تعلَّمتَ؟"، هذا حكم شرعي يجب التعلم شرعًا "هلَّا تعلَّمتَ؟"، أي شيء تحتمل أنه يُورطك في الآخرة لازم تتعلمه شرعًا، الاستصحاب ينفي الاستطاعة، وبنفي الاستطاعة يَنفي المؤاخَذة عقلًا، هذا حكم عقلي ما يرفع الحكم الشرعي، وبالتالي جريان الاستصحاب لا يرفع وجوب التعلم فيجب التعلم.

[النتيجة النهائية بين البيانين]

إذًا بناءً على البيان الأول يجري الاستصحاب ولا يجب التعلم، بناءً على البيان الثاني حتى لو جرى الاستصحاب فإنه لا يُفيد في رفع وجوب التعلم.

هذا تمام الكلام في التنبيه الثاني.

التنبيه الثالث يأتي عليه الكلام.


logo